لم تكن الحرب الدائرة بسوريا قريبة من نهايتها في أي وقت مضى مثل هذه الأيام، لكن ثمة ما يثير القلق داخلياً، وهو احتمالية نشوب نوبات جديدة من العنف، تتزايد في الوقت الذي يعيد فيه الفاعلون الإقليميون والدوليون التفكير في استراتيجياتهم القديمة.
وقد أدى قرار الرئيس دونالد ترامب سحب القوات الأمريكية، إلى صب الكثير من الزيت على النار. فبينما سوف يترك ذلك الانسحاب الساحة خالية أمام حلفاء لرئيس النظام السوري، بشار الأسد، من الروس والإيرانيين، فهو قد جرأ أيضاً إسرائيل على الإعلان عن ضربها المواقع الإيرانية، وهو ما يعني عملياً دفع طهران للاستجابة. ويحذر بعض المحللين من أنَّ أي مواجهة بين هذين البلدين من شأنها إشعال فتيل حرب إقليمية تسحب معها أيضاً لبنان والعراق، بحسب تقرير لموقع Bloomberg الأمريكي.
وفي الوقت ذاته، استهدف بقايا تنظيم داعش القوات الأمريكية والكردية، كما أحرز مقاتلو "جبهة تحرير الشام" نصراً مفاجئاً في ساحة المعركة بآخر معقل من معاقل المعارضة في إدلب، وهو الأمر الذي ربما يعجل من هجوم النظام السوري وروسيا. وفي غضون ذلك، يمكن أن يدفع الهجوم التركي الذي جرى التهديد به الأكراد السوريين إلى طلب الدعم من الأسد وشركائه الدوليين.
وقال الخبير في العلاقات الدولية بكلية لندن للاقتصاد، فواز جرجس: "ينبغي ألا نخدع أنفسنا بالقول إنَّ الحرب قد انتهت. المعارك الكبرى هي التي انتهت، لكن الواقع أنَّ الصراع الاستراتيجي والسياسي للقوى الإقليمية المحورية على سوريا يزداد حدة وتصاعداً. في الواقع، أرى أنَّ هذه هي أكثر المراحل خطورة في الصراع السوري".
فيما يلي، التطورات التي ينبغي مراقبتها:
إسرائيل
وبحسب الموقع الأمريكي، لطالما تعهدت إسرائيل بعدم السماح لإيران بإنشاء قاعدة متقدمة لها في سوريا تمكنها من مهاجمة تل أبيب. لكنها الآن، في تغيير كامل ومفاجئ بسلوكها، أصبحت تناقش عملياتها علناً بعد سنوات من الصمت أو الاعترافات المبهمة.
ويعني الانسحاب الأمريكي المخطط له، أنَّ إسرائيل ربما تفقد أقوى حائط صد ضد القوات الإيرانية ووكلائها بالمنطقة، لكنَّ ذلك يحدث أيضاً في وقت أضعفت فيه العقوبات الأمريكية إيران.
وقال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق غادي إيزنكوت، لصحيفة The New York Times، إنَّ آلافاً من الأهداف الإيرانية قد جرى استهدافها داخل سوريا خلال العامين الماضيين، وإنَّ عمليات إسرائيل قد حصلت على مباركة من إدارة ترامب. وقال وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، في خطاب أدلى به في القاهرة مطلع الشهر الجاري (يناير/كانون الثاني 2019): "ندعم بقوةٍ جهود إسرائيل الهادفة إلى منع طهران من تحويل سوريا إلى لبنان جديدة". في إشارة إلى النفوذ السياسي والعسكري لحزب الله في لبنان.
ولا يمكن أن تكون الرهانات أعلى من ذلك. فمع أنّ إيران ليس من مصلحتها في هذه اللحظة أن تعطي إسرائيل مبرراً لشن حرب شاملة، فإنَّ الحرب "أحياناً ما تأتي بسبب سوء تقدير، أو بسبب متغيرات غير معروفة، أو بسبب حدث غير متوقع، أو بسبب ضغطة على الزناد. إنَّ أكبر تهديد في سوريا هو حرب إسرائيلية-إيرانية من الممكن بسهولة أن تتصاعد لتصبح صراعاً إقليمياً شاملاً"، حسبما قال جرجس.
إدلب
اتفقت موسكو وأنقرة، في شهر سبتمبر/أيلول 2018، على تجنب هجوم هددت به قوات النظام السوري على معقل المعارضة في إدلب، وهو هجوم من شأنه أن يدفع موجة أخرى من اللاجئين، إلى تركيا، التي اتخذها نحو 4 ملايين بالفعل مأوى لهم. لكنَّ الحسابات تغيرت الشهر الماضي (ديسمبر/كانون الأول 2018) بعد أن اكتسح المقاتلون المرتبطون بتنظيم القاعدة المدينة وانتزعوها من قوات المعارضة التي تدعمها تركيا.
وقد أشار وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، إلى أنَّ بلاده ربما توافق على هجوم سوري محدود تدعمه روسيا، لاستعادة إدلب. وسوف يكون ذلك الأمر انقلاباً سياسياً كبيراً بالنسبة لأنقرة، التي دعمت قوات المعارضة السورية طوال الحرب. ولما كانت تركيا قد راهنت على النهاية السريعة للنظام السوري، فإنَّ قدرتها على المساومة محدودة.
وقال هيكو ويمين، مدير مشروع مجموعة الأزمات الدولية بسوريا ولبنان والعراق، في بيروت: "قال وزير الخارجية الروسية سيرجيو لافاروف، إنَّ روسيا سوف (تأخذ بعين الاعتبار) المصالح التركية، لكنَّ ذلك يبدو تعبيراً دبلوماسياً بدلاً من قوله: (لن يحصل أبداً). ولا يمكنني رؤية أي سبب يجعل الروس يريدون أن يكون مزيد من الأراضي السورية تحت السيطرة التركية".
التنظيمات الجهادية في سوريا
أعلن ترامب في شهر ديسمبر/كانون الأول 2018، أنَّ القوات الأمريكية سوف تترك سوريا، لأنَّ تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) قد هزم، لكنَّ التنظيم الجهادي أرسل إشارات مميتة على أنه ما يزال خطراً كامناً. إذ استهدف انتحاريو التنظيم، للمرة الثانية في أقل من أسبوع، القوات الأمريكية في الـ21 من شهر يناير/كانون الثاني 2019، فلم يُوقعوا أي ضحايا أمريكيين، لكنهم قتلوا 5 من المقاتلين الأكراد الحلفاء. وقُتل أربعة أمريكيين، في الأسبوع السابق، وجرح ثلاثة آخرون عندما استهدف انتحاريٌ إحدى الدوريات، في أحد أكثر الهجمات دموية على القوات الأمريكية بسوريا.
وعلى الرغم من أنَّ "داعش" قد قُمع إلى حد كبير بسوريا وجارتها العراق، فإنَّ الانسحاب الأمريكي في وقت ما يزال فيه عدم الاستقرار غالباً، قد يمنحها فرصة لإعادة تنظيم صفوفها، وربما حتى إنتاج مجموعات أخرى. وهذا ما فعله سلفها، تنظيم القاعدة، بعد غزو الولايات المتحدة أفغانستان لتدمير مخابئه عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.
وقال أنتوني سكينر، مدير شركة Verisk Maplecroft للتوقعات ومقرها المملكة المتحدة: "بما أنَّ داعش لم يعد بإمكانه الاعتماد على جيش رسمي دائم، فقد لجأ بشكل متزايد إلى تكتيكات حرب العصابات والهجمات الإرهابية الفردية. وتشير الأمم المتحدة والبنتاغون إلى أنَّ داعش ما يزال لديه من 20 إلى 30 ألف عضو في سوريا والعراق".
الأكراد
أما بالنسبة لحلفاء واشنطن في سوريا وهم الأكراد، فقد أفزعهم إعلان ترامب المفاجئ انسحابه، واعتبروه خيانة لهم بعد وقوفهم بجوار القوات الأمريكية في قتال "داعش". لكنَّ هذا الانسحاب لاقى ترحيباً في تركيا، ذلك أنَّ حضور القوات الأمريكية في سوريا ردع أنقرة من الهجوم على القوات الكردية التي تدعمها الولايات المتحدة، والتي تراها متصلة بالانفصاليين الأكراد الذين يقاتلون من أجل الحكم الذاتي في جنوب شرقي تركيا.
وليس من الواضح إذا ما كانت روسيا سوف توافق على عملية تركية في عمق الأراضي السورية. وقد أدت الأصوات المتضاربة من واشنطن حول الجدول الزمني لهذا الانسحاب، إلى تراجع الموقف التركي مؤقتاً، لكنَّ أردوغان قال إنَّ تركيا سوف تستولي على مدينة منبج التي يسيطر عليها الأكراد في الشمال السوري، وتسلمها في نهاية المطاف إلى "مالكيها الحقيقيين".
وكانت مليشيات وحدات حماية الشعب الكردية، التي روعتها احتمالية الانسحاب الأمريكي، قد حضت قوات الأسد وموسكو على إرسال قوات إلى المناطق الحدودية التي كانت تحت سيطرة القوات الكردية سنوات، وذلك لصد أي هجوم تركي. وكانت حملة عسكرية تركية في مدينة عفرين شمال شرقي سوريا قد أدت إلى طرد القوات الكردية ومدنيين العام الماضي (2018).
وبإمكان أردوغان إرضاء القوميين قبل الانتخابات البلدية، المقررة في شهر مارس/آذار 2019، بهجوم على المسلحين الأكراد، لكنَّ التداعيات الاقتصادية المحتملة من زيادة التوترات مع الولايات المتحدة من شأنها إضعاف "مردودات" مثل هذه العملية، وذلك بحسب سكينر.
وقال سكينر: "إنَّ ما كان واضحاً باتساق، أنَّ وحدات حماية الشعب هي الأولوية القصوى لتركيا. ومن الواضح أنَّ تركيا سوف تفضل تجنب شن غزو عسكري في أراضٍ ما تزال القوات الأمريكية حاضرة فيها".
وقال ويمين، من مجموعة الأزمات الدولية، إنَّ من الصعب تخيل أنَّ تركيا سوف تنفذ الاجتياح دون رضا موسكو، ولن يتحرك النظام السوري "ما لم يكن واثقاً بأنَّ الولايات المتحدة لن تبيده جواً".
وأضاف ويمين: "أعتقد أنَّ واشنطن تريد حقاً تجنب ترك انطباع بأنَّ إيران وحلفاءها يملؤون الفراغ الناشئ عن انسحابها، وسوف يؤدي السماح للنظام بدخول المنطقة إلى ذلك الانطباع تحديداً. ربما يستطيع الأكراد الوصول إلى اتفاقية مع النظام، لكنَّ دمشق كانت عنيدة فيما مضى، ولديها الآن أسباب أقل لكي تكون مرنة".