في الوقت الذي يتحدث الجميع عن انقلاب في فنزويلا بدأت الأحاديث عما يجري داخل تلك الأرض، فمثلا يصف براين أوستن جاهداً الرجال الذين سرقوه في البحر العام الماضي (2018)، إذ يقول الصياد القادم من قرية سيدروس الصغيرة في جزيرة ترينداد: "كانت لديهم مسدسات، وكانوا يرتدون قمصاناً قصيرة الأكمام وأغطية رأس".
ثم ابتهج قائلاً: "هل رأيت من قبلُ قراصنة صوماليين؟ إنهم يشبهون ذلك تماماً".
كولين فريمان، صحفي ومراسل خارجي ومؤلف كتاب Kidnapped: life as a Somali pirate hostage، الذي يروي فيه تجربته عند أسرِه على يد قراصنة صوماليين.
يقول فريمان: "لقد رأيت بالتأكيد قراصنة صوماليين، وذلك من قبيل الصدفة، بل إنها كانت من كثبٍ أقرب مما كنت أحب. قبل عشرة أعوام، اختطفتني مجموعة منهم ستة أسابيع في أثناء تغطيتي الصحفية".
كان ذلك في الصومال، "وهي على أي حال دولة فاشلة، حيث كل شيء مباح" بحسب وصفه، ويتابع: "لم أتوقع قط أنني سأكتب عن وباء القراصنة هنا في البحر الكاريبي".
إذ إن آخر سفن القراصنة في البحر الكاريبي طاردتها البحرية الملكية البريطانية وأسقطتها قبل 300 عام، ليضع ذلك نهاية لما سُمي "العصر الذهبي" للقراصنة.
ووضع ذلك نهاية أيضاً لملاذات القراصنة التي على شاكلة تورتوغا، حيث تقول الأسطورة إن الخارجين عن القانون عاشوا في تناغم قائم على المساواة، حيث يقسمون أموالهم فيما بينهم.
وما يثير الغرابة أن القراصنة الذين سرقوا أوستن هم أيضاً من سكان فردوسٍ تقدميٍّ، أو بالأحرى فردوس يزعم أنه تقدمي. كان قراصنة الكاريبي الجدد من الصيادين الفقراء القادمين من فنزويلا القريبة، حيث يعني انهيار النظام الاشتراكي، الذي دافع عنه عهداً طويلاً جيرمي كوربين، أن قطع الطرق صار إحدى السبل الوحيدة لكسب العيش.
يقع ساحل فنزويلا على بعد أقل من عشرة أميال عن قرية سيدروس، وكان في الماضي مقراً لصناعة صيد الأسماك المزدهرة.
فنزويلا التي تشبه الصومال
أما الآن، فبفضل التضخم الشديد وبرنامج التأميم الذي فرضه الرئيس الراحل هوغو تشافيز، تدهورت تماماً صناعة صيد الأسماك في فنزويلا.
وصار أغلب الصيادين بلا عمل، وعائلاتهم يجمعون الفضلات كي يبقوا على قيد الحياة. ليست فنزويلا مشابهة للصومال، لكنها ليست بعيدة جداً عن هذا.
ففي الموانئ الخارجة عن القانون التي على شاكلة غويريا في ولاية سوكريه الفنزويلية، يمارس القراصنة أنشطتهم وتقريباً يفلتون تماماً من العقاب، فيختطفون الصيادين الترينداديين ويأسرونهم ثم يطلبون فدية لإطلاق سراحهم.
ويُهرّب هؤلاء أيضاً الزوارق الممتلئة بالكوكايين والأسلحة إلى داخل ترينداد، إذ إن الأسلحة والكوكايين سلعتان لا تزالان منتشرتين بوفرة في فنزويلا. وبالمقابل، يحصل القراصنة على المؤن الاعتيادية التي يندر وجودها ندرةً شديدةً في وطنهم: الحفاضات، والأرز، وزيت الطبخ. فتخيلوا أنكم تشاهدون مسلسل Narcos، في حين يعرض المشهد قوارب سريعة وهي تشق طريقها بالبحر وفوقها أكوام من عبوات حفاضات "بامبرز".
هنا ملاذ القراصنة للمخدرات والأسلحة
عكس نظرائهم الصوماليين، الذين قطعوا مسافة كبيرة في عمق البحر واختطفوا سفن الشحن التي تعود ملكيتها إلى أغنياء يونانيين، لا يوجه القراصنة الفنزويليون ضرباتهم إلى الأغنياء. ففي الغالب يبقون قرب الشاطئ ويستهدفون زملاءهم من الصيادين الآخرين، الذين على مثل أوستن، والذين يكافحون هُم الآخرون.
يقول أوستن: "تصير المنطقة المحيطة بسيدروس ملاذاً للقراصنة والمخدرات والأسلحة. ومن يدفع الثمن؟ بكل تأكيد، الصيادون العاديون الكادحون".
في واقع الأمر، تنتشر موجة الفوضى وغياب القانون القادمة من فنزويلا، إلى أبعد من شواطئ سيدروس. يلقى اللوم على تدفق المخدرات والأسلحة من فنزويلا، لتسبُّبه في تفاقم حروب العصابات بالمناطق العشوائية في ترينداد، وعديد منها صارت الآن شديدة العنف. اغتيل في العام الماضي (2018)، 500 شخص في ترينداد، التي يبلغ إجمالي سكانها 1.3 مليون نسمة فقط.
التقيت في ترينداد رجلاً اسمه ديفيد بافي مايلارد، وهو رجل عصابات تائب تحوَّل إلى الخدمة المجتمعية، وأخبرني بأن كمية الماريغوانا والكوكايين والهيروين في البلاد زادت زيادة شديدة خلال ثلاثة إلى خمسة أعوام سابقة. وقال: "صارت السوق السوداء للأسلحة الآن مشبعةً كلياً".
يعرف ميلارد كثيراً عن جرائم المخدرات، فقد عمل بالماضي حارساً مع عصابة جامايكية في ميامي، كانت متخصصة بسرقة تجار المخدرات الآخرين والاستيلاء على بضاعتهم من الكوكايين. بعد جروح سببتها ثلاث رصاصات وخمس طعنات وعدد من مدد الحبس، اعتنق الإسلام وعمل على محاولة إقناع أعضاء العصابات بالعدول عن طريقهم والاستقامة. غير أنه حتى في أيامه الخوالي مع العصابات، لم يكن سوى شيء بسيط مقارنة ببعض الأشرار الآخرين على الجانب الآخر في فنزويلا.
تميل التغطيات الصحفية حول انزلاق فنزويلا نحو الفوضى إلى التركيز على الفظائع الاقتصادية التي تواجهها البلاد: كيف نفد ورق المرحاض في البلاد؟ أو كيف يعالج الناس أنفسهم باستخدام أدوية الحيوانات التي يبيعها الأطباء البيطريون في الأسواق السوداء، لأن المستشفيات فرغت تماماً من الأدوية؟! لكن ما يقلّ ذكره أن الفوضى حفزت بروز مجموعات التهريب شبه الحكومية، مثل المنظمة الإجرامية "كارتل أوف ذا صن" (Cartel of the Suns).
سميت هذه المنظمة الإجرامية تيمناً بالشعار الذي يرتديه كبار ضباط الحرس الوطني البوليفاري في فنزويلا، وتتشكل من كبار الجنرالات والساسة التشافيزيين، الذين صاروا متورطين في تهريب المخدرات الكولومبية عندما تولى تشافيز الحكم لأول مرة. بفضل القرار الذي اتخذه تشافيز والقاضي بطرد إدراة مكافحة المخدرات الأمريكية من العاصمة كاراكاس في 2005، صارت سلطة جنرالات المخدرات في فنزويلا بلا منازع تقريباً.
نصف شحنات أوروبا من الكوكايين تأتي من فنزويلا
والآن، صارت نصف شحنات الكوكايين المخصص لأوروبا تأتي عبر فنزويلا. ففي الأعوام الخمسة الماضية، فرضت واشنطن عقوبات على عدد من أعضاء الكارتل المزعوم للاشتباه في ضلوعهم بعمليات تهريب المخدرات، ومن ضمنهم قادة الحرس الوطني، والرئيس السابق للاستخبارات العسكرية، ونائب رئيس سابق. وفي عام 2017، سُجن اثنان من أبناء أخوات زوجة الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، في نيويورك، لضلوعهم بعملية تهريب مخدرات بقيمة 20 مليون دولار، وهي عملية أشارت مزاعم إلى أن الهدف من ورائها الإبقاء على أسرة الرئيس في الحكم. يبدو الأمر برمته تذكيراً بكولومبيا في عهد بابلو إسكوبار، ولكن هذه المرة ينتمي المهربون إلى الحكومة.
إذا كان كوكايين فنزويلا يذهب إلى دول الغرب، فإن السوق السوداء للسلاح فيها تحمل رواية مختلفة، إذ تميل نحو البقاء في المنطقة، كي تزود بالأسلحة ليس ترينداد فقط، بل ومنطقة الكاريبي وأمريكا اللاتينية كلها.
في عام 2006، خلال ذروة جنون العظمة الذي أصاب تشافيز بشأن وقوع غزو أمريكي، وقَّع الرئيس الراحل على اتفاقية مع روسيا لتأسيس مصنع لتصنيع بنادق الكلاشينكوف الروسية في فنزويلا، وابتاع أيضاً 100 ألف بندقية كلاشينكوف جديدة، أي أكثر بكثير مما تحتاجه القوات المسلحة لبلاده. وُزعت كميات هائلة من الأسلحة منذ ذلك الحين على ميليشيات "كوليكتيفو" المؤيدة للتشافيزية، وكان الهدف الظاهري منها حماية الثورة من انقلاب مدعوم من الأمريكيين.
لكن ميليشيات "كوليكتيفو" انحرفت بالتأكيد ناحية ارتكاب الجريمة. تقول منظمة InSight Crime الصحفية المتخصصة في القضايا الأمنية بأمريكا اللاتينية: "تفسُّخ الدولة الفنزويلية وفسادها التام يحملان آثاراً إقليمية بعيدة المدى على الديناميات الإجرامية".
أعلن غافين وليامسون، وزير الدفاع البريطاني، في مطلع العام الجديد (2019)، أن بريطانيا ما بعد البريكست سوف تؤسس قواعد بحرية جديدة في البحر الكاريبي وبالشرق الأقصى، "لتكون رادعاً" لأعمال القرصنة وأعمال الشر الأخرى في البحار.
ولكن مثلما شاهدنا في الصومال منذ عقد مضى، تصبح جميع قوات البحرية حول العالم عديمة الفائدة عندما يكون لدى القراصنة ملاذ آمن ليسرعوا إليه.
قد تحتاج الدوريات البحرية الأجنبية أيضاً إذناً من كاراكاس للدخول إلى مياهها الإقليمية. ومن المستبعد تماماً أن تُمنح إياه.
ثمة نتيجة أكثر احتمالاً تشير إلى أن الدول الصغيرة المجاورة مثل ترينيداد تُترك لتتعامل بنفسها مع التداعيات القادمة من فنزويلا، معتمدة على قوات شرطية لا تحظى بالدعم ولا القوة الكافية. يعتري الترينداديين بالفعل قلقٌ حول تدفق ما يقرب من 40 ألف مهاجر فنزويلي إلى بلادهم مؤخراً، وبعض هؤلاء متورط في الاتجار بالمخدرات والسلاح.
عبّرت الأمم المتحدة عن أسفها من أن الجزيرة تنفذ عمليات ترحيل، وهو ما أزعج وزير خارجيتها كيث رولي، الذي قال: "لن أسمح لمتحدثي الأمم المتحدة بأن يجعلونا مخيماً للاجئين".
أما في قرية سيدروس، فتخلى أوستن عن مهنة الصيد كلياً، ويبحث الآن عن مهنة أقل خطراً. ولعله سيجد صعوبة في ذلك. ففي محطة العبَّارات التابعة لسيدروس التي تقع على الطريق، يصل 150 لاجئاً فنزويلياً كل أسبوع، وكثير من هؤلاء يبحث عن عمل.