منذ اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011 وارتفاع أسعار السلع والتراجع الحاد في أسعار النفط عام 2015، كافحت كثير من الاقتصادات في دول شمال إفريقيا وعلى رأسها المغرب وجيرانها بجنوب الصحراء الكبرى لإعادة جذب المستثمرين الأجانب الخائفين.
حقَّق المغرب، الذي لم يواجه أياً من هذه الثورات، تقدَّماً أفضل من معظم جيرانه في جذب الاستثمار الأجنبي. يمتلك المغرب اقتصاداً متنوعاً مع قليل من الموارد الطبيعية مقارنةً بجيرانه المُضطربين مثل ليبيا. ومع ذلك، استطاع المغرب جذب تدفقات ثابتة من الاستثمار الأجنبي المباشر، خلافاً لبقية دول شمال إفريقيا التي شهدت تراجعاً حاداً في الاستثمار الأجنبي المباشر.
أعلن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) في تقرير الاستثمار العالمي لعام 2018، أنَّ "تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مُصدّرين مُتنوّعين، بقيادة إثيوبيا والمغرب، كانت أكثر مرونة وقدرة على التحسن نسبياً".
المناخ الاستثماري الأكثر استقراراً في المنطقة
يقول جيمس زهان، مدير الاستثمار والمشروعات لدى مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، بحسب صحيفة The Financial Times البريطانية، إنَّ "المغرب رائع للغاية كوجهة للاستثمار الداخلي"، مضيفاً: "الوجهات الاستثمارية التقليدية الكبيرة في المنطقة هي مصر وتونس، لكن تونس كانت تعاني وضعاً متوتراً، وتستعيد مصر لتوّها جاذبيتها الاستثمارية. ومن ثمَّ، فالمناخ الاستثماري في المغرب هو الأكثر استقراراً بالمنطقة، مقارنةً بهاتين الدولتين، إضافة إلى الجزائر وغيرها".
في الوقت نفسه، تتطلع مزيد من الشركات المغربية، في جهودها لتنويع علاقاتها الاقتصادية، إلى التوسّع في الأسواق سريعة النمو بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، إذ تأتي تلك المنطقة في صدارة وجهات الاستثمار المغربي.
سعى المغرب لتقديم نفسه باعتباره بوابة الدخول إلى الأسواق الإفريقية، وهي استراتيجية روَّجت لها الحكومة المغربية في أعقاب الانتفاضات العربية التي اجتاحت الشرق الأوسط.
الارتباط بالسوق الأوروبية
يقول مهدي الإدريسي، الشريك في مجموعة Euroresearch & Associés الاستشارية: "كان السوق المغربي مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً تاريخياً بالسوق الأوروبية، التي تشهد معدلات نمو بطيئة للغاية"، مشيراً إلى أنَّ "معدلات النمو المرتفعة للشركات المغربية، التي لديها عمليات تجارية في إفريقيا مثل البنوك وشركة اتصالات المغرب أو شركات التأمين، هي في حقيقة الأمر تأتي من إفريقيا".
كان تباطؤ النمو في فرنسا، وهي قوة استعمارية سابقة، وإسبانيا، بالإضافة إلى الجيران العرب، أحد العوامل المحفزة على التركيز الجديد على الجنوب. في هذه الأثناء، ظلَّت فرنسا وإسبانيا حريصتين على الاستثمار.
نما الاستثمار الأجنبي المباشر بالمغرب، سواء في مشروعات جديدة أو تنفيذ توسّعات بالمشروعات القائمة بشكلٍ مطرد منذ عام 2013، وذلك وفقاً لإصدار FDi Intelligence، وهو القسم المُتخصص في قطاع الأعمال والاستثمار التابع لصحيفة Financial Times البريطانية.
وعلى الرغم من تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في عام 2017، ارتفع مرة أخرى بالعام التالي مع تدفقات بلغت 4.2 مليار دولار من فرنسا والمملكة المتحدة وكوريا الجنوبية وإسبانيا. زاد الاستثمار من فرنسا بنسبة 25% مقارنةً بعام 2017 بقيادة قطاعي الطاقة المتجددة والسيارات. وكشفت شركة Voltalia، وهي شركة فرنسية تعمل بمجال الطاقة المتجددة، في فبراير/شباط 2018، عن خططها لبناء محطتين للطاقة الكهرومائية في المغرب.
وأعلنت شركة Enel الإيطالية عن إنشاء 5 مزارع لتوليد الطاقة الكهربائية من الرياح في عام 2016، بلغ إجمالي قيمتها 1.2 مليار دولار، بالشراكة مع شركة Siemens الألمانية، في حين تبني شركتا Sumitomo اليابانية وشركة ACWA Power السعودية محطات للطاقة الشمسية.
وفي هذه الأثناء، كانت الشركات الصينية تبني محطتي "نور 2″ و"نور 3" للطاقة الشمسية بالقرب من مدينة ورزازات، على بُعد 100 كيلومتر جنوب شرقي مدينة مراكش. ومن المقرر انتهاء هذا المشروع العام الجاري (2019). ويُتوقع أن يكون ذلك المشروع الضخم، الذي تبلغ تكلفته مليارات الدولارات، أكبر حقل للطاقة الشمسية في العالم. وقد أُعلن عن بدء تشغيل المرحلة الأولى من المشروع، المعروف باسم "نور 1″، منذ عام 2016.
حوافز ضريبية وسهولة الوصول إلى الأسواق الأوروبية
انجذبت شركات صناعة السيارات أيضاً إلى المغرب، بسبب مناطقه الاقتصادية المميزة والحوافز الضريبية وسهولة الوصول منه إلى الأسواق في أوروبا وحتى إلى أبعد من ذلك. يقول باتريك دوبوكس، المدير الإداري ورئيس مكتب إفريقيا بمجموعة بوسطن الاستشارية ومقره في الدار البيضاء: "المغرب يفعل لأوروبا ما فعلته المكسيك للولايات المتحدة في مجال صناعة السيارات". وأضاف: "لقد نُفّذت الكثير من الاستثمارات وكانت ناجحة للغاية حتى الآن، لكن يمكن أن تزيد بمقدار ضعفين أو ثلاثة أضعاف، فهناك إمكانات هائلة لفعل المزيد".
تُعد شركات السيارات "بيجو" و"نيسان" و"رينو" لاعباً أساسياً في قطاع صناعة السيارات المُتنامي بالمغرب، والذي جذب استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 4.6 مليار دولار منذ عام 2010. وضخت شركات Kamaz الروسية وOtokar التركية وFord الأمريكية استثمارات في مصانع مغربية.
في الوقت نفسه، قدّمت مدينة الدار البيضاء نفسها باعتبارها مركزاً للشركات التي تتخذ من المغرب مقراً لها، وتتطلع إلى الاستثمار في الخارج، وتُمثّل نحو 90% من الاستثمار خارج المغرب بين عامي 2010 و 2018.
نافذة مميزة على الجنوب أيضاً
تُعتبر إفريقيا، وضمن ذلك أسواق إثيوبيا وساحل العاج سريعة النمو، الوجهة الرئيسة للاستثمار القادم من المغرب. وتُعد قطاعات الكيماويات والعقارات والطاقة المتجددة من القطاعات الرائدة لرأس المال المُستثمر في الخارج. ويُعتبر الاتفاق المُبرم بين مجموعة المكتب الشريف للفوسفات المغربية الرائدة عالمياً في مجال إنتاج الأسمدة والحكومة الإثيوبية في عام 2016 لبناء منشأة بقيمة 3.7 مليار دولار في منطقة ديرة داوا بشرق إثيوبيا- هو أكبر صفقة حتى الآن، وجاء الاتفاق بعد شهر فقط من توقيع المكتب الشريف للفوسفات اتفاقية لتشييد منشأة مزج أصغر في رواندا.
ويقول سعيد إبراهيمي، الرئيس التنفيذي لهيئة القطب المالي لمدينة الدار البيضاء، وهو المركز المالي الذي أُطلق في عام 2010: "إنَّ السياسة المغربية تترجم إلى الاستثمار المغربي في إفريقيا".
لكن، ما التحديات؟
وبينما يقر إبراهيمي باستمرار حالة عدم الاستقرار في عدة أماكن بالقارة الإفريقية، فإنَّه وسياسة الحكومة المغربية ينظران إلى إفريقيا باعتبارها محرك النمو المستقبلي للاقتصاد العالمي، وهو موقف يتماشى مع توقعات البنك الدولي.
تواجه الشركات الأجنبية تحديات في المغرب لأسباب مشابهة. على الرغم من كون المغرب بلداً مستقراً ومؤاتياً للأعمال التجارية أكثر من العديد من بلدان جنوب الصحراء الكبرى، يبقى على سبيل المثال التأخير الطويل في سداد المدفوعات إلى الموردين من الشركات والوكالات الحكومية مصدراً لإثارة مشاكل.
يقول دوبوكس من مجموعة بوسطن الاستشارية: "نحن بحاجة إلى تحقيق الربحية اللائقة، لكن ليست بنفس قدر ما نحتاجه في أماكن أخرى، لأن هذه لعبة طويلة المدى"، مضيفاً أنَّ "إفريقيا ستكون سوقاً ضخماً خلال 20 عاماً، وليس الآن".