لماذا كان الإنسان القديم يثقب جمجمته، علاج للألم أم وسيلة لمرور الأرواح الشريرة؟ ما وجدوه في روسيا كان مذهلاً

عربي بوست
تم النشر: 2019/01/21 الساعة 22:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/01/22 الساعة 12:37 بتوقيت غرينتش
الجمجمة تم اكتشافها في الصين/ Istock

على مدى فترة طويلة من عصور ما قبل التاريخ البشري، كان الناس حول العالم يمارسون عملية ثقب الجمجمة: إجراء جراحي قاس في جمجمة شخص حي إما عن طريق حفر أو قطع أو إزالة طبقات من العظام بأداة حادة.

وحتى الآن، اكُتشفت آلاف من الجماجم التي تحمل علامات ثقب الجمجمة في المواقع الأثرية في جميع أنحاء العالم.

لكن على الرغم من أهميتها الظاهرية، ما زال العلماء غير متفقين كلياً على الدفاع وراء عملية ثقب الجمجمة التي كان يمارسها أسلافنا.

الأمراض العصبية من أسباب ثقب الجمجمة تاريخياً

ترجح تقديرات خاصة بعلم الإنسان حول عمليات ثقب الجمجمة في القرن العشرين في إفريقيا وبولينيزيا أنَّه في هذه الحالات على الأقل، أُجريت عملية ثقب الجماجم لعلاج الألم، على سبيل المثال، الألم الناجم عن الإصابات بالجمجمة أو المرض العصبي.

قد يكون لعملية ثقب الجمجمة الغرض نفسه في مرحلة ما قبل التاريخ.

تظهر العديد من الجماجم المثقوبة أثار إصابات في الجمجمة أو أمراض عصبية، غالباً في المنطقة نفسها من الجمجمة حيث أُجريت عملية الثقب.

لكن إلى جانب استخدام عملية ثقب الجماجم في علاج الحالات الطبية، كان الباحثون يعتريهم شكٌ منذ فترة طويلة في أنَّ  القدماء أجروا عملية ثقب الجماجم لسبب مختلف تماماً: نوع من الطقوس. 

يعود أقرب دليل واضح على عمليات ثقب الجمجمة إلى ما يقرب من 7 آلاف سنة.

وبعض الشعوب مارستها للسماح للأرواح بالمرور

كانت عملية ثقب الجمجمة تمارس في أماكن متنوعة مثل اليونان القديمة وأمريكا الشمالية والجنوبية وإفريقيا وبولينيزيا والشرق الأقصى. وربما طور الناس هذه الممارسة بشكل مستقل في عدة مواقع.

تخلت معظم الثقافات عن عمليات ثقب الجمجمة بحلول نهاية العصور الوسطى، ولكن هذه الممارسة ظلت تجرى في عدد قليل من الأجزاء المعزولة من إفريقيا وبولينيزيا حتى أوائل القرن العشرين.

منذ نشر أول الدراسات العلمية حول عمليات ثقب الجمجمة في القرن التاسع عشر، استمر العلماء في القول بأنَّ البشر القدامى كانوا أحياناً يثقبون الجمجمة للسماح بمرور الأرواح إلى داخل الجسم أو خارجه، أو كجزء من الطقوس الشعائرية.

ومع ذلك، فمن الصعب الحصول على أدلة مقنعة.

الأداة التي كانت تستخدم لثقب الجمجمة في الماضي/ Science Museum
الأداة التي كانت تستخدم لثقب الجمجمة في الماضي/ Science Museum

قبر أثري في روسيا يثير دهشة العلماء

يكاد يكون من المستحيل كلياً استبعاد إمكانية إجراء عملية ثقب الجمجمة لأسباب طبية، لأنَّ بعض الأمراض التي تصيب الدماغ لا تترك أي أثر على الجمجمة.

غير أنَّه في زاوية صغيرة من روسيا، اكتشف علماء بعض أفضل الأدلة المُكتشفة على الإطلاق لعملية ثقب الجمجمة الشعائرية.

القصة تبدأ في عام 1997، عندما كان علماء الآثار يستكشفون موقع دفن يعود لما قبل التاريخ بالقرب من مدينة روستوف-نا-دونو في أقصى جنوب روسيا، بالقرب من المناطق الشمالية للبحر الأسود.

كان الموقع يحتوي على بقايا هياكل عظمية تعود إلى 35 شخصاً، موزعة على 20 قبراً منفصلاً، وفقاً لموقع هيئة الإذاعة البريطانية (BBC).

استناداً إلى أسلوب مراسم الدفن، عرف علماء الآثار أنَّها تعود إلى ما يقرب من 5000 إلى 3000 قبل الميلاد، وهي فترة تعرف باسم العصر النحاسي.

أفراد العائلة كلها ثقبت جماجمهم باستثناء الرضيع

ضمت إحدى المقابر هياكل عظمية لخمسة أشخاص بالغين -امرأتان وثلاثة رجال- ورضيع عمره  يتراوح بين سنة إلى سنتين، وفتاة في منتصف سن المراهقة.

لم يكن غريباً العثور على هياكل عظمية متعددة في قبر واحد يعود لما قبل التاريخ، لكن ما اكتشف في جماجمهم كان أمراً غير عادي:  المرأتان، ورجلان والفتاة المراهقة كانت جماجمهم مثقوبة.

تحتوي كل جمجمة على ثقب واحد، بعرض عدة سنتيمترات وشكل بيضاوي تقريباً، مع علامات كشط حول الحواف.

احتوت جمجمة الرجل الثالث على منخفض أظهر أيضاً وجود دليلاً على ثقب، ولكن ليس ثقباً حقيقياً. فقط جمجمة الرضيع كانت لا تشوبها شائبة.

جميعها كانت تستهدف نقطة واحدة في الدماغ

أُسندت مَهمة تحليل محتويات المقبرة إلى إيلينا باتييفا، وهي الآن عالمة في مجال أصل الإنسان بالجامعة الفيدرالية الجنوبية في روستوف-نا-دونو، في روسيا.

عرفت على الفور الفتحات على أنَّها ثقوب من جراء عمليات ثقب الجمجمة، وسرعان ما أدركت أنَّ هذه الثقوب لم تكن عادية.

كانت كلها في الموقع نفسه تقريباً: نقطة على الجمجمة تسمى "السليلى". تقع السليلى على قمة الجمجمة ونحو مؤخرة الرأس، في المكان الذي تتجمع ربطة ذيل الحصان المرتفع للشعر.

يقع أقل من 1٪ من جميع عمليات الثقب المسجلة فوق نقطة السليلى.

والأكثر من ذلك، هو أنَّ باتييفا أدركت أنَّ مثل هذه الثقوب كانت حتى أقل شيوعاً في روسيا القديمة.

وإلى حد علمها كان هناك فقط حالة أخرى واحدة مسجلة لثقب الجمجمة عن نقطة السليلى: فقد اُكتُشفت جمجمة عام 1974 في موقع أثري قريب بشكل ملحوظ من الموقع الذي كانت تقوم بالتنقيب فيه.

من الواضح أنَّ العثور على جمجمة بثقب عند نقطة السليلى هو أمرٌ لافتٌ للنظر.

لكن باتييفا كانت تنظر إلى 5 أشخاص، جميعهم دفنوا في القبر نفسه. كان هذا أمراً غير مسبوق.

ولكن ما سر هذه العائلة.. هل خلف الأمر طقوس وشعائر؟

هناك سببٌ وجيهٌ لكون عملية ثقب الجمجمة عند نقطة السليلي أمراً نادراً: إنَّها خطيرة للغاية.

تقع نقطة السليلى مباشرة فوق الجيب السهمي العلوي، حيث يتجمع الدم من الدماغ قبل أن يتدفق إلى الأوردة الرئيسية التي تخرج منه.

كان ثقب الجمجمة عند تلك المنطقة قد يُعرض الشخص لخطر نزف كميات كبيرة من الدماء والموت.

يشير هذا إلى أنَّ سكان العصر النحاسي في روسيا كان لديهم سبب وجيه لإجراء مثل عمليات ثقب الجمجمة تلك.

ومع ذلك، لم تظهر على أي من هذه الجماجم أي علامات على تعرضها لأي إصابة أو مرض، قبل أو بعد إجراء عملية ثقب الجماجم.

وبعبارة أخرى، بدا أنَّ جميع هؤلاء الأشخاص كانوا مرضى في حين أنَّهم كانوا يتمتعون بصحة جيدة.

هل كان دليلهم على عملية ثقب الجمجمة له علاقة بنوع من الطقوس؟

كان ذلك احتمالاً مثيراً للاهتمام. ومع ذلك، اضطرت باتييفا إلى التخلي عن هذا المسار.

 فقد كان لديها العديد من الهياكل العظمية لتحليلها من جميع أنحاء جنوب روسيا، ولم يكن في مقدورها أن تنحرف عن ذلك المسار، لوجود قلة من الجماجم التي تؤكد المسار الآخر، مهما كان غامضاً.

ثقب الجماجم عادة منتشرة في العصر النحاسي

قبل أن تستسلم، قررت البحث في السجلات الأثرية غير المنشورة لروسيا لمعرفة ما إذا كان جرى اكتشاف المزيد من العمليات الغريبة لثقب الجمجمة عند نقطة السليلى لم يُبلغ عنها.

المثير للدهشة، أنَّها وجدت حالتين مثيلتين. فقد اكُتشفت جمجمتان لامرأتين شابتين وبهما ثقوب عند نقطة السليلى منذ سنوات: واحدة في عام 1980 والأخرى في عام 1992.

اُكتُشفَّت كل واحدة على بعد أقل من 31 ميلاً (50 كم) من روستوف- نا-دونو، ولم تظهر أي علامات على أنَّ عملية الثقب جرت لأسباب طبية.

هذا قدم لباتييفا ما مجموعه ثماني جماجم غير عادية، كلها مجمعة في منطقة صغيرة في جنوب روسيا ويحتمل أن تكون في العمر نفسه. بعد عقد من الزمان، ظهرت الكثير من الحقائق.

في عام 2011، كان فريقٌ دولي من علماء الآثار يحلل 137 هيكلاً عظمياً بشرياً، عُثر عليها مؤخراً في ثلاثة مواقع دفن منفصلة تعود للعصر النحاسي على بعد حوالي 310 أميال (500 كم) جنوب شرق روستوف- نا-دونو، في مدينة ستافروبول كراي في روسيا، بالقرب من الحدود الحالية مع جورجيا.

لم يكن هدف علماء الآثار اكتشاف عمليات ثقب الجمجمة، لكنهم كانوا هناك للتعرف على الصحة العامة لسكان ما قبل التاريخ في المنطقة. ولكن من بين 137  جمجمة، وجدوا تسعة منها بها ثقوب واضحة.

وكلها كانت تستهدف منطقة السليلى

5 منها كانت أمثلة قياسية على عملية ثقب الجمجمة. أجريت هذه الثقوب مناطق مختلفة بمقدمة الجمجمة وجانبها، وظهر على الجماجم جميعها علامات على تعرضها لرضوح، مما يشير إلى أنَّ عمليات ثقب الجماجم قد أجريت لعلاج آثار الإصابات.

لكن لم تُظهر أي من الجماجم الأربع الأخرى أي علامات على حدوث ضرر أو مرض.

 ما هو أكثر من ذلك، أجريت عملية ثقب تلك الجماجم الأربع جميعاً بالضبط فوق نقطة السليلى.

بالصدفة كانت باحثة تدعى جوليا غريسكي، وهي عالمة في مجال أصل الإنسان لدى المعهد الألماني للآثار.

قرأت بالفعل ورقة باتييفا التي تصف العمليات الاستثنائية لثقب الجماجم في منطقة روستوف-ناو-دونو.

والآن كونت غريسكي وباتييفا وغيرهما من علماء الآثار فريقاً لشرح جميع عمليات ثقب الجماجم الاثنتي عشرة من جنوب روسيا.

نُشرَّت دراستهم في أبريل/نيسان من العام 2016 في دورية American Journal of Physical Anthropology.

كانت الجماجم الـ12 بمثابة اكتشافات رائعة أينما وجدت. لكن حقيقة أنَّ جميعها اُكتفشت في الزاوية الصغيرة نفسها في روسيا تعني أنَّ هناك علاقة بينهما.

وإذا لم يكن هناك أي صلة، فإنَّ احتمالات العثور على مجموعة من عمليات ثقب الجماجم النادرة هذه حصراً في جنوب روسيا كان منخفضاً للغاية.

علماء يرجحون أن ثقب الجمجمة طقس يهدف لتحوّل ما

تجادل كل من غريسكي وباتييفا وزملاؤهما بأنَّ تجمع عمليات ثقب الجمجمة غير العادية هذه يرجح أنَّ جنوب روسيا ربما كان مركزاً لطقوس عملية ثقب الجمجمة، رغم صعوبة إثبات هذه الفكرة.

تعتقد ماريا ميدنيكوفا، التي تعمل بالأكاديمية الروسية للعلوم في موسكو وهي خبيرة في عمليات ثقب الجمجمة الروسية، أنَّ إجراء عمليات ثقب الجمجمة في مناطق محددة وخطيرة من القحف (الجزء الخلفي والعلوي من الجمجمة، ربما كان بهدف تحقيق "تحولات" من نوع ما.

وترجح أنه عن طريق عمليات ثقب الجمجمة في هذه الأماكن، اعتقد الناس أنَّهم يستطيعون اكتساب مهارات فريدة لا يملكها أعضاء المجتمع العاديون.

لا يسعنا سوى التكهن حول أسباب إجراء عملية ثقب الجمجمة لهؤلاء الأشخاص الـ12  الأصحاء على ما يبدو بهذه الطريقة الاستثنائية والخطيرة.

ولكن بفضل ثقوب الجماجم نفسها، يمكننا أن نستنتج قدراً مفاجئاً من مصير الناس بعد أن أُجريت لهم عمليات الثقب.

تعود إحدى تلك الجماجم إلى امرأة دون سن الخامسة والعشرين، دُفنت في أحد المواقع بالقرب من روستوف-ناو-دونو.

لم تظهر أي علامات على الشفاء، مما يوحي بأنَّها ماتت أثناء عملية ثقب الجماجم أو بعد ذلك بوقت قصير.

ومع ذلك، يبدو أن أصحاب الجماجم الأخرى قد نجوا من عملياتهم.

وظهر على جماجمهم آثار الشفاء إذ نما العظم حول حواف الثقوب، على الرغم من أنَّ العظام لم تنمُ بالكامل على مدى الثقوب.

وأظهرت ثلاث من الجماجم الـ12 علامات طفيفة على الشفاء حول الثقب الذي أُحدث بها، مما يشير إلى أنَّ أصحابها لم يعيشوا إلا أسبوعين إلى ثمانية أسابيع بعد العملية.

وتعود جمجمتان من تلك الثلاث إلى امرأتين يتراوح عمرهما بين 20 و35 عاماً.

والثالثة تعود لشخص مسن يتراوح عمره بين 50 و70 عاماً، ولا يمكن تحديد جنسه.

وكل من خضعوا لها نجوا فترة من الزمن قبل أن يموتوا

وأظهرت الجماجم الثماني الأخرى مرحلة متقدمة من الشفاء. بناءً على ما نعرفه عن شفاء العظام في يومنا هذا، ربما عاش هؤلاء الأفراد لمدة أربع سنوات على الأقل بعد العمليات التي أُجريت لهم.

شمل هؤلاء الناجون الثمانية جميع الأشخاص الخمسة من المقبرة الجماعية بالقرب من روستوف-ناو-دونو، التي جذبت جماجمهم التي كانت مخيفة في الغالب اهتمام باتييفا قبل حوالي 20 سنة.

عاش الرجلان والمرأتان والفتاة المراهقة بثقوبهم لسنوات. كانت الفتاة، التي يتراوح عمرها بين 14 و16 عاماً استناداً إلى هيكلها العظمي، مصابة بالشلل حتماً عندما لم يتجاوز عمرها 12 عاماً، وربما أصغر من ذلك بكثير.

يظل من الممكن أنَّ هؤلاء الأشخاص الاثني عشر كانوا يعانون من أمراض أو إصابات بالرأس.

في هذه الحالة، قد تكون عملية ثقب الجمجمة قد نفعت 8 منهم على الأقل.

لكن من الممكن أيضاً أن تكون باتييفا وزملاؤها على حق، وأنَّ هؤلاء الأشخاص قد خضعوا لعملية ثقب الجمجمة لغرض شعائري.

وفي حال كان هذا صحيحاً، فلا يسعنا سوى أن نخمن المنافع التي تلقوها بالمقابل -أو اعتقدوا أنَّهم تلقوها- طوال فترة حياتهم بعد عملية ثقب الجمجمة.

علامات:
تحميل المزيد