قبل أكثر من عام وحينما كان الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح الملقب بـ الراقص على رؤوس الثعابين يهم بتغيير وجهته إلى عدن والانضمام إلى معسكر السعودية والإمارات ليبدل قواعد اللعبة في اليمن، صوب مسلح تابع للحوثيين عدة رصاصات على رأس صالح حتى أرداه قتيلاً قبل أن يكمل رقصته الأخيرة.
كان صالح يجيد اللعب على كل الحبال ويستطيع في ثوان معدودة أن يغير حلفاءه وكذلك أعداءه بشخصيته القبلية التي تدرك طبيعة دوره في المنطقة التي تتزاحم قوى عديدة الآن لفرض السيطرة عليها، لكن مع قتله اعتقد البعض أن أنموذج علي صالح لا يوجد له مثيل في المنطقة العربية.
هذا الاعتقاد قد بدا غير صحيح إلى حد كبير منذ أكثر من شهر ومع تزايد الاحتجاجات ضد الرئيس السوداني عمر البشير والتي تطالب بتنحيه وخروجه من المشهد السياسي في البلاد بعد "خرابها"، كما يصف الرافضون لحكمه، لكن الرجل ظهر أكثر قوة عكس غيره من الزعماء العرب الذين طالتهم رياح التغيير قبل 8 أعوام.
القوة التي انتشى بها الرئيس السوداني جاءت بعد رفض خصومه قبل حلفائه لهذه التظاهرات ولم يترددوا في دعم الرجل والبحث عن مخرج للأزمة الاقتصادية التي يعاني منها السودان ما بين دعم لوجستي كما أرادت السعودية والإمارات وأيضا دعم اقتصادي وسياسي من قطر وتركيا، المنافستين الأصعب للفريق الأول.
هذه التظاهرات كشفت مدى حجم العلاقات التي يقيمها الرئيس السوداني مع كل الأطراف، بما فيها أعداؤه في الجنوب ومنافسوه في الشمال، وكذلك الخصوم الإقليميون في الشرق الأوسط، فالكل أجمع على أمر واحد: بقاء البشير.
المواقف العربية والإقليمية تثير التساؤلات عن السبب وراء خوف القاهرة من رحيل البشير وانزعاج الدوحة من نفس السيناريو، ولماذا سارعت أبوظبي للبحث عن مخرج للرجل قبل أن يغرق مركبه ويغرقوا هم معه أيضاً؟.
سنحاول في السطور القادمة فهم موقف كل الأطراف من البشير ولماذا يصرون على عدم رحيله رغم قوة الاحتجاجات الداخلية ضده.
مصر.. تصدير الثورة
منذ 2013، وعقب إزاحة الجيش الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، والأجهزة الأمنية تحكم قبضتها بشكل كبير على البلاد وتضيق الخناق على كل المعارضين للرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي بداية من المناصرين لجماعة الإخوان المسلمين التي صنفتها الحكومة المصرية بـ"الإرهابية"، مروراً بعدد من رموز ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وحتى قيادات عسكرية مرموقة مثل رئيس الأركان الأسبق سامي عنان، الذي يقبع خلف القضبان في أحد السجون العسكرية في القاهرة بسبب رغبته في منافسة السيسي.
هذه القبضة الأمنية المستحكمة في البلاد الناجمة عن القلق من أي حراك قد يثير الشجون إلى ما حدث قبل 8 سنوات، ومن ثم يعيد الشباب الغاضب في شوارع القاهرة من ضيق العيش والأسعار التي اكتوى بها أغلب أفراد الشعب، إلى الميادين يدفعان الموقف الرسمي المصري إلى الحذر من أي تغير سياسي قد يقع في الجار الجنوبي ومن ثم يلتقط المصريون الغاضبون الخيط منهم كما حدث عام 2011 من تونس.
أيضاً ثمة ما يقلق الحكومة المصرية بشكل كبير من حدوث فراغ في السلطة السودانية وهو ما يتعلق بموقف القاهرة الضعيف أمام أديس أبابا بشأن مشروع سد النهضة الذي وصلت إثيوبيا إلى مرحلة متقدمة في إنشائه ومن ثم لا يرغب المصريون في حدوث أزمة في الخرطوم قد تضعف موقفها أكثر كما حدث إبان ثورة يناير/كانون الثاني 2011، حينما استغلت إثيوبيا الأوضاع غير المستقرة عقب إزاحة مبارك وسارعت إلى البدء في تنفيذ مشروعها العملاق والذي بلا شك قد يتسبب في انخفاض كبير من حصة مصر من نهر النيل.
كذلك حالة الانفلات الأمني التي قد تعقب إزاحة البشير، نظراً لكميات سلاح كبيرة منتشرة في السودان قد تغرق جنوب مصر بالسلاح من ثم تؤثر بشكل مباشر على استتباب الأمن في مصر، وتذكر القاهرة بما حدث في ليبيا عقب الإطاحة بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي عام 2011 والذي ساهم في دخول أسلحة كبيرة ومتنوعة إلى مصر عبر الصحراء الغربية والتي وقع بعضها في يد بعض التنظيمات المسلحة مثل ولاية سيناء، الفرع المصري من داعش أو عناصر جهادية أخرى لها علاقة بتنظيم القاعدة.
وأيضاً مما يقلق القاهرة من حدوث أي تغيير في نظام الحكم في السودان وانتشار فوضى ما في الجنوب مما قد يساهم في نزوح الآلاف وربما ملايين السودانيين من بلادهم إلى الشمال المصري، الأمر الذي قد يربك الوضع الاقتصادي المصري المرتبك بالأساس ومن هنا ترى القاهرة أن بقاء البشير في منصبه رغم الخلاف في الملفات الهامة في المنطقة هو الحل الأمثل لمصر.
السعودية والإمارات.. السقوط في مستنقع اليمن
4 سنوات مضت على العملية العسكرية التي تقودها السعودية والإمارات في اليمن من أجل "عودة الشرعية" والتي تعني إرجاع الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي من الرياض إلى صنعاء، والتي خلفت آلاف القتلى وأضعافهم من الجرحى والمشردين إلا أن الأمر أسوأ مما كان عليه، فالريس اليمني ما زال يمارس مهامه الرسمية من الرياض ولا يزال الحوثيون يسيطرون على صنعاء وعشرات القتلى يسقطون بشكل يومي من الطرفين دون حسم للمعركة حتى الآن.
هذا الوضع الكارثي الذي يعيشه اليمنيون، بات جزءاً من معاناة أكبر تعاني منها القوات الإماراتية والسعودية المشاركة فيما يعرف بعاصفة الحزم، والتي لجأت إلى البشير من أجل المشاركة في المعركة التي ما زالت رحاها تدور.
فمنذ نحو 3 أعوام شارك السودان بأمر من الرئيس البشير بعدد لا بأس من قوات الدفاع الشعبي والتي ولاؤها للبشير نفسه وليس السودان، في المعركة اليمنية، بوعود من جانب أبوظبي والرياض بتقديم الدعم الاقتصادي والسياسي المطلوب للبشير داخلياً وخارجياً مقابل حسم الحرب مع الحوثيين، ولكن حتى لم يفِ أحد بوعوده فلا السعودية والإمارات نجحتا في انتشال السودان من أزمته الاقتصادية التي كانت سبباً مباشراً في اندلاع التظاهرات ضده ولا تمكن الحليفان من رفع اسم السودان ورئيسه من قوائم الإرهاب الأمريكية أو الجنائية الدولية التي تتهم البشير بارتكاب جرائم حرب في دارفور، ولا أيضاً البشير نجح في حسم المعركة لصالح السعودية والإمارات وظل الوضع يراوح مكانه.
لكن ورغم ذلك أيدت الإمارات والسعودية الموقف السوداني الرسمي ودعمتا البشير في موقفه رغم الخلاف بينها على موقف الخرطوم من الأزمة الخليجية وعدم الاصطفاف وراء المحور السعودي الإماراتي المصري في هذه القضية وظل قريباً من الموقف القطري.
أيضاً دول الخليج لديها حساسية مفرطة من أي تغيير يحدث على مستوى القيادة العليا في النظم العربية خوفاً من انتقال عدوى التغيير لها، مثلما اعتبرت أن الربيع العربي سيطال الأنظمة الخليجية وتمكنت حتى الآن في دعم الثورات المضادة في مصر وليبيا واليمن وما زالت تحاول في تونس.
جنوب السودان.. رياح الشمال الفوضوية
الجار الجنوبي للسودان وهو دولة الجنوب التي انفصلت عن الشمال السوداني قبل 8 أعوام تعاني من أزمة اقتصادية كبيرة وخانقة، فالوعود الكبيرة التي قطعها سلفاً كير الرئيس الجنوبي على نفسه قبل الانفصال عن السودان لم يتحقق منها أي شيء، فيما لا تزال جوبا التي لا يوجد بها موانئ تستخدم موانئ الشمال لتصدير النفط المستخرج من أراضيها، فهي تريد بكل الأشكال أن يظل الوضع القائم في الجار الشمالي كما هو خوفاً من أي تغيير قد يطال الوضع القائم في جوبا.
فالموقف الرسمي للجنوب كان داعماً للبشير رغم الكره المتبادل بينهما إلا أنها حاولت النأي بنفسها عن تطورات قد تحدث في المستقبل، وتتسبب في تدهور الأوضاع المتدهورة بالأساس فيها.
تركيا.. العمق الإفريقي
منذ أكثر من عام وبالتحديد في نهاية 2017، زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان السودان ومعه 200 رجل أعمال من أجل تعميق العلاقات الاقتصادية بين الخرطوم وأنقرة، والتي فيها وقع الرئيسان اتفاقية تأجير جزيرة سواكن السودانية لصالح تركيا لـ99 عاماً.
وبعيداً عن الجوانب الاقتصادية لهذه الزيارة الهامة، كان هناك أهداف سياسية استراتيجية وجيوسياسية أيضاً تريد أن تحققها تركيا من وراء هذه الخطوة، فأنقرة لديها علاقات إقليمية متشابكة ولديها طموح إقليمي كبير في مزاحمة قوى أخرى مثل الصين والولايات المتحدة ودول خليجية أيضاً في السيطرة على منطقة القرن الإفريقي التي تشهد يومياً زيادة في أهميتها الاستراتيجية لكل دول العالم.
فلذلك اعتمدت تركيا على السودان في أن تكون بوابتها للقرن الإفريقي مع الصومال، وساهم في المضي في هذا التحالف العلاقات الشخصية بين البشير وأردوغان، واللذين ينظر إلى كليهما بأنه من أبناء الحركة الإسلامية، ومن ثم وجود رغبة حقيقية وقوية من الطرفين في البقاء في هذا التحالف.
ولكن بخسارة تركيا لحليف مثل البشير كان ذلك سيمثل ضربة قوية للأهداف التي وضعتها أنقرة من أجل التغلغل في إفريقيا وإقامة علاقات تجارية واقتصادية هامة مع أغلب دول القارة السمراء.
فالموقف الرسمي التركي مازال يدعم الرئيس السوداني الذي يرى أن هناك مكائد تحاك ضده الشعب والرئيس في نفس الوقت، وهذه الخطوة ليست مستغربة بسبب حجم العلاقات بين البلدين وكذلك التحالفات التي تربطهما.
قطر.. الأزمة الخليجية
كان الموقف الرسمي السوداني من الأزمة الخليجية التي وقعت في صيف 2017، متزناً إلى حد كبير فيما يراه البعض متضامناً مع الدوحة، في الوقت الذي كانت تحاول السعودية التأثير على السودان لتغيير موقفه.
فالخرطوم اعتبرت منذ اليوم الأول أن ما حدث مع قطر أمر غير مبرر كما أنها وصفته بالحصار وحاولت التوصل لحل مع الإمارات والسعودية من أجل إنهاء هذه الأزمة لكنها لم تتمكن من ذلك، فدفعت في اتجاه دعم الوساطة التي يقودها حتى الأن أمير الكويت الشيخ صباح الجابر الصباح.
فعمر البشير، لديه علاقات وثيقة مع قطر التي دعمته مادياً حينما كان اقتصاد بلاده على وشك الانهيار في الفترة ما بين 2007 و2012؛ نتيجة سنوات الحصار الدولي الطويلة التي واجهها، فيما ترى الدوحة أن موقفه من الأزمة الخليجة وبقاءه على الحياد الإيجابي قد ساهم في رفع أسهم الرئيس السوداني لدى قطر.
ومن ثم كان الموقف القطري منذ بداية الاحتجاجات داعماً للشعب والحكومة المنتخبة في خطوة يراها البعض رداً لجميل البشير من الأزمة الخليجية، فيما يعتبر الكثيرون أن العلاقات المتشابكة بين البلدين أكبر من فكرة رد الجميل بل تندرج في إطار التحالف الاستراتيجي بينهما.
أيضا للدوحة استثمارات عدة في السودان والتي باتت تمثل أهمية قصوى للدوحة خاصة في مجال المنتجات الزراعية عقب اندلاع الأزمة الخليجية والتي بسببها لجأت قطر إلى دول إقليمية مثل تركيا وإيران لمدها بالمواد الغذائية التي كانت تأتي من السعودية.
وفي النهاية ليس من المستغرب أن يكون موقف الحلفاء أو شركاء البشير هو دعم الحكومة الحالية لكن يظل موقف القاهرة وأبوظبي والرياض هو الدافع للبحث عن إجابة للسؤال كيف تنظر هذه الدول للرئيس السوداني: حليف مع عدو؟