رغم مرور قرابة الـ30 عاماً على انهيار الاتحاد السوفيتي، إلا أن الكثير من الأسرار التي تخص هذا الكيان الكبير مازالت غامضة، حتى وإن تكشفت الحقائق يوماً بعد يوم.
أخر هذه الأسرار هو ما يتعلق بالجهاز الاستخباراتي القوي للاتحاد السوفيتي (KGB) التي عرف بعضها قبل أسابيع عن عملاء لهذا الجهاز في "لاتفيا" الدولة المستقلة حديثاً، بخصوص عملائه السريين فيها.
صحيفة New York Times الأمريكية رصدت في تقرير قصة المعلومات التي تركها جهاز الاستخبارات السوفيتي عن عملائه في لاتفيا، والتي حاول (KGB) بنشرها أن يثير بلبلة بتلك المعلومات.
ومن هذه المعلومات التي نشرتها الصحيفة الأمريكية أن عميلاً سابقاً في (KGB) اسمه يوريس تاسكوفس وشى بجارٍ له إلى جهاز الاستخبارات السوفيتي لمشاهدته الأفلام الجنسية الألمانية، وخان المئات من النشطاء المناهضين للكرملين. لذا، كان يوريس، وغيره ممن هم على شاكلته، يعرفون أنَّه إذا نُشرت الملفات السرية للشرطة في لاتفيا، وهو ما حدث أخيراً الشهر الماضي، فإنَّ أنشطتهم المنكرة ستنكشف.
ولا يعني هذا أنَّ تاسكوفس لديه ما يقلقه تحديداً في هذا الخصوص. يقول العجوز اللاتفي البالغ من العمر 63 عاماً متحدثاً عن الوقت الذي عمل فيه مخبراً لدى جهاز المخابرات السوفيتي قبل انهيار الاتحاد عام 1991: "لمدة 12 عاماً عملت لصالحهم بحماس شديد".
مفاجآت صادمة
وبحسب الصحيفة الأميركية، يوجد العديد غير تاسكوفس ممن يجدون في ظهور أسمائهم وتواريخ تعيينهم في مستندات جهاز المخابرات السوفيتي المنشورة حديثاً مفاجأة صادمة.
يقول رونالدز تارفي، المدير السابق للإذاعة الوطنية اللاتفية في فترة ما بعد الاستقلال ويعمل حالياً أستاذاً في جامعة لاتفيا: "أشعر بصدمة. لم تكن لديّ أدنى فكرة عما هو مذكور في المستندات". وأضاف أنَّه سيلجأ إلى القضاء لتبرئة اسمه، مصراً على أنّه لم يعمل أبداً مخبراً، أو كما تسميه الاستخبارات في ملفاتها "عميلاً".
ومنذ ما يقرب من ثلاثة عقود، تسود حالة من الجدل لاتفيا، التي نالت استقلالها عام 1991، حول كيفية التصرف فيما يُعرف بـ "حقائب تشيكا"، وهي حقائب وحوافظ محشوَّة بملفات سرية تركها جهاز المخابرات السوفيتي، وتخص جهاز الشرطة السرية السوفيتي الذي كان يُعرف في الأساس باسم "تشيكا" ويعتبر جهاز المخابرات امتداداً له.
وجدت بعض الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي في السابق، مثل ليتوانيا وإستونيا وجورجيا، بعض الملفات الخاصة بجهاز المخابرات السوفيتي بعد تحررها من موسكو. سارعت ألمانيا إلى فتح الملفات التي خلفتها شرطة شتازي السرية التابعة لألمانيا الشرقية بعد الوحدة عام 1990.
لماذا لاتفيا بالتحديد؟
غير أنَّ لاتفيا هي الدولة الوحيدة التي تُرك فيها فهرس مُنظم يذكر الأسماء الحقيقية والرمزية لأكثر من 4 آلاف عميل، يُفهم من السجلات أنَّهم عملوا لصالح جهاز المخابرات السوفيتي، بالإضافة إلى أرشيف رقمي ضخم لأنشطة الجهاز المعروفة بأنشطة "Delta".
لذا، وبدلاً من تهدئة الأجواء، وضع تصويت في البرلمان اللاتفي على نشر محتويات الحقائب على شبكة الإنترنت، دولة البلطيق الصغيرة في مواجه سؤال مربك: هل تسير لاتفيا في طريق التصالح مع فكرة أنَّ شعبها لم يكن فقط ضحية للقمع السوفيتي، وإنما كان أيضاً، في بعض الحالات، يُشارك في هذا القمع بحماس؟ أو هل وقعت لاتفيا ضحية مخطط شيطاني من جهاز المخابرات السوفيتي لوضع بذور التشرذم في أوساط نخبها لمرحلة ما بعد الاستقلال باستخدام سجلات خيانة مفبركة؟
يحظى الرأي الأخير بتأييد من افتُضحت أسماؤهم بأنَّهم كانوا عملاء للسوفييت ويصرون على أنَّهم لم يعملوا، عن عمد، أبداً لصالحهم. وترى هذه الفئة أنَّ ضباط الشرطة السرية السوفيتية الذين صوروهم كعملاء أقدموا على حشو قوائم العملاء إما لإرضاء رؤسائهم أو لوضع قنبلة موقوتة في مستقبل لاتفيا كدولة مستقلة.
هل بالفعل هي "هدية خاصة" للاتفيا؟
وقال تارفي: "مستحيل أنَّ جهاز المخابرات السوفيتي ترك خلفه قائمة حقيقية بأسماء العملاء في أرض كان يعتبرها أرض الأعداء". ويرى تارفي أنَّ الملفات خضعت للتلاعب وتُركت عمداً كـ "هدية خاصة" للاتفيا، التي هي عضوٌ في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كجزءٍ من "عملية تضليل" نفذها ضباط السوفييت المنسحبون.
وجد اللاتفيون "في الحقائب"، كما يُسميها من عملوا على فتحها، أسماء رئيس وزراء سابق شغل المنصب لفترتين، وكبير قضاة المحكمة الدستورية، ووزير خارجية تولى لفترة واحدة، وزعماء الكنستين الكاثوليكية والأرثوذكسية، وثلاث رؤساء لجامعة لاتفيا في مرحلة ما بعد الاستقلال، وصناع أفلام ومجموعة متنوعة من نجوم تلفزيون والكتَّاب. سُربت بعض الأسماء قبل أعوام أو ظهرت في الفيلم الوثائقي اللاتفيّ "Lustrum" الذي صدر نهاية العام الماضي.
ومع ذلك، تسبب نشر القائمة الكاملة في حالة من الفزع.
وقالت مارا سبرودجا، مديرة الأرشيف الوطني الذي بدأ نشر الملفات على شبكة الإنترنت، في ديسمبر/كانون الأول، وسيكشف عن دفعة أخرى، في مايو/أيّار المقبل، إنَّها صُدمت على الأخص حين رأت على سبيل المثال اسم أندريس سلابينس، مصوّر لاتفي، قتلته القوات السوفيتية التي هاجمت النشطاء الموالين للاستقلال في العاصمة ريغا عام 1991.
وأضافت: "لقد كان بطلاً، ولم يكن خائناً. كيف يمكن أن يكون عميلاً لصالح جهاز المخابرات السوفيتي؟ هذا أمرٌ لا يصدق".
وتابعت أنَّ نشر أسماء الناس الذين وجدوا أنفسهم أمام خيارات صعبة "في زمن مختلف ومكان مختلف لم تكن له أي فائدة سوى خلق مزيد من الارتباك" وليس الوضوح الشافي، مضيفة أنَّه من غير الواضح بالضبط ما الذي قدمه العملاء المفترضون لجهاز المخابرات السوفيتي و"لا أحد يعرف اليوم على وجه الحقيقة ما الذي كنا سنفعله نحن إن وضعنا في موقف كهذا".
الأسماء الغائبة أكثر غرابة
لا شيء يضاهي غرابة الأسماء التي ظهرت سوى غرابة الأسماء التي لم يرد ذكرها في الملفات، مثل يانس روكبلنيس، الشاعر اللاتفي المعروف، الذي أقر علناً عام 2017 أنَّه عمل لصالح جهاز المخابرات السوفيتي.
وحين تركت الاستخبارات السوفيتية لاتفيا في أغسطس/آب 1991، تركت لسبب غير مفهوم أكواماً من المستندات وقاعدة بيانات إلكترونية تالفة جزئية لأنشطتها "Delta" في مقرها الفسيح، المعروف بكورنر هاوس، في ريغا المركزية.
وعُثر على الفهرسين المنفصلين اللذين منحهما جهاز المخابرات السوفيتي باسم "العملاء"، وأحدهما مرتب أبجدياً والآخر مرتب حسب القسم، في حقيبتين ومحفظتي أوراق مغلقتين. وفي نوفمبر/تشرين الثاني، نُقلت الحقائب إلى غرفة آمنة في البرلمان اللاتفيّ، وفي عام 1993 نُقلت للحفظ والدراسة إلى مركز توثيق آثار الشمولية المؤسس حديثاً آنذاك.
أبقت لاتفيا الملفات مغلقة، ولم تسمح بالوصول إليها إلا لقلة من العلماء الذين أقسموا على الحفاظ على السرية وضباط من الأجهزة الأمنية، استخدموا الملفات للتأكد من التاريخ الأمني للمسؤولين والساسة.
ويعد إندوليس زاليت، الذي عمل لمدة طويلة مديراً سابقاً لمركز التوثيق ويعمل الآن مستشاراً فيه، واحداً من قلة ممن علموا الأسماء التي "تحتويها الحقائب" لزمن طويل. وقال إنَّه يشك في أنَّ الملفات تُركت عمداً في تصرف ماكر من السوفييت الراحلين ليفسدوا على اللاتفيين أمرهم.
وقال: "عمَّت الفوضى كل شيء عام 1991. لم يكن بوسع السوفييت وضع خطة عميقة، كانوا على درجة من التشتت لم تسمح لهم بذلك".
وحذَّر، هو الآخر، من أنَّ المستندات المنشورة حتى الآن لا تكشف "سوى أحجية كبيرة للغاية" إذ إنَّها تذكر أسماء ولا تذكر تفاصيل ما قدمه العملاء المحتملون للجهة التي كانوا يعملون لصالحها. وأضاف أنَّ هذا يعكس "حقيقة زائفة" نراها بعيون ضباط جهاز المخابرات السوفيتي، الذين كان يروق لهم التفاخر بنجاحهم في اختراق جميع مناحي الحياة.
وقال زاليت، الذي عارض لوقت طويل نشر محتويات حقائب تشيكا، إنَّ نشرها سيزيد من صعوبة الاعتراف الصادق على الأشخاص الذين تورطوا بالعمل مع جهاز المخابرات السوفيتي بما فعلوه وسبب ما فعلوه.
ورأى أنَّه "بمجرد أن يُفتضح اسم شخص ما على الملأ باعتباره "عدواً" لا يكون من السهل عليه قول الحقيقة".
حتى هذه اللحظة، من بين الأشخاص القلائل المستعدين للبوح بما فعلوه وأسبابه الشاعر روكبلنيس، الذي لم يرد اسمه، لأسباب غامضة "في الحقائب" وتاسكوفس، المخبر الستيني السابق المشار إليه في الملفات بأنَّه عميل رقم 18471، ويحمل الاسم الرمزي "أمبر".
البحث عن الحماية
تحوَّل تاسكوفس، الذي جُند عام 1979، إلى المسيحية عام 2001 بعد وعكة صحية ألمت به، ومنذ ذلك الحين وهو يحاول التكفير عما فعله في الماضي. واعترف أمام قسيسه وزوجته بعمله سابقاً كمخبر.
روى تاسكوفس، في مقابلة عُقدت معه الأسبوع الماضي في منزله في قرية كوكاس الصغيرة في شرق لاتفيا، كيف تعرض للتنمر في طفولته في المدرسة وكيف رأى والده يتعرض للإذلال على يد ضباط الشرطة السوفييت. وقالت إنَّه حين عرض العمل مع الاستخبارات السوفيتية "امتلك قوَّة وحماية سرية".
وقال تاسكوفس إنَّه وجد الأمان الآن في المسيحية؛ لذا بات بوسعه أن يواجه تعاونه فيما مضى مع منظومة وصفها بأنَّها "خاطئة بالكامل". غير أنَّه قاله: "من الغباء المطلق إلقاء كل هذه الأسماء في الشارع" بنشر ملفات جهاز المخابرات السوفيتي؛ لأنَّ معظم الناس "لا يحبون الحديث عن الخيانة، ويحاولون الهرب".
وأوضح تاسكوفس أنَّ معظم ما وشى به للضابط المسؤول عنه في بلدة ياكابيلس المجاورة "لم يكن سوى كلام لا أهمية له" لا يضر أحداً، هذا بخلاف حالة جاره الذي سُجن لمدة عام لمشاهدة الأفلام الجنسية.
وقال إنَّ جهاز المخابرات السوفيتي كان يعرف بالفعل المعلومات التي قدمها له في مئات التقارير المكتوبة التي رفعها، والتي تضمنت تفاصيل عن جماعة شبه سرية مناصرة للبيئة ساعدت في قيادة الحركة الموالية للاستقلال في ثمانينيات القرن العشرين. ولأنَّه كان يتمتع بمهارة يدوية خاصة، عرض صناعة بطاقات هوية لأعضاء الجماعة البالغ عددهم 3000، ثم أعطى نسخة من البطاقات للجهاز.
وقال: "أخبرت جهاز المخابرات السوفيتي بكل شيء تقريباً: الأسماء والأماكن، كل شيء".
غير أنَّ معظم الأسماء الواردة "في الحقائب" هي لأشخاص من قبيل أوجار روبنيس، المذيع السابق للبرنامج التلفزيوني الشهير في الحقبة السوفيتية "Labvakar". حظي روبينش بمحبة وافرة لما أسهم به في الترويج لاستقلال لاتفيا، غير أنَّ اسمه الآن ورد كعميل في الحقبة السوفيتية، بالإضافة إلى المذيعين الاثنين اللذين شاركاه تقديم البرنامج.
وتقول الصحيفة الأمريكية، حين تواصلنا مع روبنيس عبر الهاتف، صرخ فينا قائلاً "لستُ مذنباً". وسألنا، بعد أن أشار إلى أنَّ السلطات السوفيتية نفت بعض أقاربه إلى سيبيريا "ما الذي كان سيدفعني للعمل مع جهاز المخابرات السوفيتي؟" ورفض أن يعلق بأكثر من ذلك.
حين نُشرت الملفات على الإنترنت الشهر الماضي، قضت فيتا زيلسيا، المؤرخة في جامعة لاتفيا، الليل بطوله لترى ما إذا كانت قائمة المخبرين تحتوي أسماء أي من معارفها.
"جهاز مثير للسخرية"!
وقالت: "كنت في غاية التوتر والغضب"، وتذكرت كيف وجدت اسم مدرس ابتدائي عجوز كانت دائماً تعتبره "رجلاً طبيعياً ولطيفاً"، وأحد أقاربها غير المباشرين يعاني من مشكلات عقلية.
وأضافت: "لو كان هؤلاء عملاء حقاً، فإنَّ جهاز المخابرات السوفيتي كان كياناً مثيراً للسخرية. ما تلك الملفات؟ هل هي سجل تاريخي حقيقي أم أنَّها عملية تضليل سوفيتية غريبة؟ نحن لا نعرف على وجه التحديد؟"
لا يمكن البت في هوية الأشخاص الذين عملوا لصالح السوفييت وطبيعة أدوارهم إلى بالدخول إلى المستندات المخزنة في موسكو، وبها الأرشيف الكامل لتقارير جهاز المخابرات السوفيتي اللاتفيّ وقوائم العملاء.
وقال زاليت من مركز التوثيق: "لسوء الحظ ليس ثمة طريقة للوصول إلى ذلك في الوقت الراهن".
احتفت ليديا لاسمان، العجوز التسعينية التي كانت من أعضاء في حركة التمرد إبان الحقبة السوفيتية، بنشر الملفات، وهو أمرٌ تطالب به منذ عقود. ولكن، ولأنَّ العديد من أبناء جيلها الآن قد ماتوا، فإنَّها تقول إنَّ عملية النشر قد جاءت بعد فوات الأوان سواء لإثبات الحقيقة التاريخية أو للوصول إلى إجابة للسؤال التي تصفه بأنَّه سؤال أخلاقي جوهري: "كيف يمكن لشخص طبيعي أن يتحول إلى وحش قادر على خيانة أصدقائه وأسرته وبلاده؟"
وذكرت ليديا أنَّها تصدق ما قاله العديد ممن افتضحت عمالتهم لصالح جهاز المخابرات السوفيتي من أنَّهم وضعوا تحت ضغط رهيب، بتوجيه التهديد بإيذاء أقاربهم أو فقدان وظائفهم إذا لم يتعاونوا.
وأضافت ليديا، التي اختارت أكثر من مرة معاندة السلطات السوفيتية وأرسلت نتيجة لذلك إلى معسكرات الاعتقال السوفيتية ثلاث مرات، من بينها مرة في فوركوتا، البؤرة الاستيطانية بالغة السوء في أرخبيل جولاج: "ولكن الجميع يملك الخيار في النهاية".
ولأنّها نشأت في أسرة متدينة تتبع الكنيسة المعمدانية، قالت إنَّ دينها أخبرها أنَّ التعاون مع جهاز المخابرات السوفيتي ليس خياراً مطروحاً أبداً.
وقالت: "كنت أعرف منذ طفولتي أنَّ هناك رباً، وهناك شيطان. وبالنسبة لي، لم تكن أمامي خيارات كثيرة فيما يخص ما ينبغي عليّ فعله".