تحولت مدينة القضارف، الواقعة بالقرب من الحدود الإثيوبية من مركز لتجارة الذرة البيضاء والسمسم، وتهيمن عليها صوامع الحبوب الضخمة التي بنتها روسيا إلى مركز لاحتجاجات الخبز الغاضبة من الرئيس السوداني عمر البشير.
يقول السكان المحليون إن تلك الاحتجاجات في بادئ الأمر تألَّفت أساساً من طلاب المدارس الثانوية، الذين تجمَّعوا عند أحد الأسواق الرئيسية للمدينة للتعبير عن غضبهم إزاء الخفض الحاد لدعم الخبز. وأخذوا يهتفون "الشعب جائع" و"أيها الراقص"، وهي إشارة ساخرة إلى البشير لأنه غالباً ما يرقص في المناسبات العامة.
وما برح صوت الضجيج يعلو حتى غطى عليه دوي إطلاق النيران، فأصابت قوات الأمن 10 متظاهرين، من بينهم ثلاثة أطفال.
وما أعقب ذلك ربما لم يكن مهماً فقط للقضارف، بل للبلاد برمتها. ففي اليوم التالي، تحول غضب أهالي البلدة، الذي أذكاه رد الفعل العنيف للنظام، إلى المكاتب في الحزب الحاكم "مؤتمر الأمم" ومعه أجهزة الاستخبارات بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
في أقل من أسبوع تفشت الاحتجاجات في مدن السودان الكبرى
وفي أقل من أسبوع، تفشَّت الاحتجاجات وخرجت من المراكز الريفية مثل القضارف إلى المدن الكبرى في السودان، كاشفةً عن رغبتها الجامحة في إنهاء الحكم الصارم للبشير البالغ من العمر 75 عاماً.
قال جعفر خضير، وهو عضوٌ منذ فترة طويلة في المعارضة السودانية في القضارف: "حوَّل مقتل الأبرياء والأطفال الغضب ضد الحكومة، إذ خرج الناس للتظاهر دون تفكير".
وأضاف خضير، الذي سبق أن اعتُقِلَ أربع مرات منذ بداية الاحتجاجات: "طرأ تغيير ما على قلوب الشعب. وأنا أتوقَّع الآن أخذي إلى الحبس في أي وقت".
منذ تلك الاحتجاجات الأولية في ديسمبر/كانون الأول، راح أكثر من 40 متظاهراً في أنحاء البلاد، وفقاً للجماعات الحقوقية، وأفادت تقارير أن بعضهم أطلقت قوات الدعم السريع، وهي ميليشيا حكومية، النار عليه، فضلاً عن إصابة مئات آخرين.
كذلك اعتُقِلَ النشطاء في بلدانٍ ومدنٍ مختلفة في جميع أنحاء البلاد الواسعة، وغالباً على أيدي الأجهزة الأمنية وأجهزة الاستخبارات، المعروفة باعتداءاتها المُوثَّقة واستخدام أساليب التعذيب.
وفي يوم الخميس 15 يناير/كانون الثاني، انتشرت قوات الأمن بأعدادٍ كبيرة في العاصمة الخرطوم، حيث نظَّمَ المتظاهرون مسيرةً اتَّجَهَت نحو قصر البشير لإرسال طلب خطي بتنحي البشير. وانطلقت الدعوات لاحتجاجاتٍ متزامنة في 11 مدينة وبلدة أخرى، بما فيها مدينة عطبرة، وهي مهدٌ آخر للحركة الحالية.
لماذا تختلف تظاهرات السودان هذه المرة عن كل ما سبق؟
قد تبدو الاحتجاجات وكأنها اندلعت من العدم، لكن في الواقع كان تزعزُع استقرار السودان قد مهَّدَ لها منذ وقتٍ طويل.
تولَّى البشير السلطة على خلفية انقلاب عسكري قاده عام 1989، واستطاع البقاء في السلطة بعد صراعٍ واحتجاجاتٍ، وسنواتٍ من الخضوع للعقوبات الأمريكية، وحتى ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية له باتهامه بارتكاب إبادة جماعية مزعومة في دارفور. لكن الفرق هذه المرة يكمن في أن مجموعة المشكلات التي تواجه البلاد تؤثِّر على النخبة التي لطالما دعمته.
وصار الوضع أنه هناك مليونا مُشرَّدٍ داخل البلاد، وانتشر الفساد على نطاقٍ واسع، وتفشَّى سوء الإدارة بكل المجالات.
وقعت البلاد في براثن أزمةٍ اقتصادية طويلة الأمد تمتد جذورها منذ انفصال جنوب السودان عام 2011 وفقدان احتياطي النفط الذي كانت تصدره الدولة الجنوبية الوليدة المضطربة. كذلك أصاب التضخم المتزايد الطبقات الوسطى المحملة بالأعباء في السودان. وكان خفض الدعم عن الخبز، السبب المباشر للاحتجاجات في منطقة مثل القضارف، مجرد الشرارة التي أشعلت الغضب واليأس المتأصِّلَين.
وسرعان ما تكشَّفَت التصدُّعات على الجبهة السياسية. وصار البشير يواجه حالةً من الاستياء المتصاعد داخل حزبه الحاكم، فضلاً عن عدم الرضا الذي تشعر به المناطق الواقعة شمال النهر في البلاد التي كانت إحدى معاقله من قبل.
سمةٌ مُمَيَّزةٌ أخرى تتمتَّع بها المظاهرات تتجلَّى في استخدام شبكات التواصل الاجتماعية. همَّ الناشطون بتوثيق المواجهات وأغرقوا شبكات التواصل الاجتماعي بصورٍ يزعمون أنها "تفضح" حكومة البشير.
يقول المراقبون إن الاحتجاجات حشدت الناس من مختلف القبائل والأعراق.
سودانيات يجدن في تحرك الشارع فرصة للمطالبة بحقوقهن
وانضمَّت النساء إلى الصفوف برغم تصاعد الاحتجاجات إلى مواجهاتٍ دموية. كانت النساء ترتدي الحجاب، ويمكن رؤيتهن بوضوح تقريباً في جميع الصور المتداوَلة على شبكات التواصل الاجتماعي، مما ساعَدَ بدوره على إقناع المزيد من النساء بالنزول إلى الشوارع.
تهتف النساء مع باقي المتظاهرين "سلم، حرية، عدل" أو "الثورة خيار الشعب"، متحديات الغاز المسيل للدموع.
واختارت أخريات تأمين الشاي والعصير للمحتجين الذين يعبرون أحياءهن، بحسب شهود.
وتقول أسيل عبدو: "هذا النظام لديه أسوأ القوانين المكبلة للمرأة"، مضيفة: "يمكن أن تتعرضي للتوقيف بسبب ارتداء سروال أو إذا لم يكن غطاء الرأس يغطي تماماً الشعر".
ويقول ناشطون إن مئات من النساء حكم عليهن بالجلد بسبب قانون مثير للجدل ينص على غرامات باهظة وأحكام بالسجن.
ففي يوليو/تموز 2018، حكمت محكمة سودانية بالإعدام على الصبية نورا حسين بتهمة "القتل العمد" لزوجها، الذي قالت إنه اغتصبها بعد زواج دون رضاها.
وبعد حملة استنكار عالمية، تم تحويل الحكم إلى السجن لمدة خمس سنوات.
ولفتت حالة هذه الفتاة الأنظار إلى موضوع الزواج القسري في السودان.
ووفرت التظاهرات للسودانيات فرصة لإسماع صوتهن، بحسب عماد بدوي، الأم التي تشارك بانتظام في الاحتجاجات ضد الحكومة والتي تهتف بشعارات للمطالبة بالحرية.
وتقول بدوي إن حلمها يتمثل في "رؤية نهاية التمييز بحق النساء".
وتشارك أسيل عبدو في التظاهرات أيضاً احتجاجاً على سياسة الحكومة في دارفور.
وتقول الشابة التي تنحدر من هذه المنطقة الواقعة في غربي السودان: "نظام البشير ارتكب أفظع الجرائم في دارفور".
وترى بدوي أن هذا "التغيير" حان أوانه "حتى ابني البالغ من العمر 11 عاماً تفاجأ عندما علم أن الرئيس البشير يحكم البلاد منذ 30 عاماً".
هل تتعمد قوات الأمن استهداف الأطقم الطبية؟
ومع مرور الوقت يتصاعد الصدام بين قوات الأمن والمتظاهرين، حتى وصل إلى استهداف المسعفين، وقال شهود إن طبيباً قتل على يد قوات الأمن وسط مظاهرات في العاصمة الخرطوم.
وقال أحد الأطباء لبي بي سي حول مقتل زميله وكيف يشعر الأطباء أنهم أصبحوا الآن هدفاً للسلطات: لقد كان يوماً حزيناً لنا في السودان، وخاصة للأطباء. قتل طبيب أثناء محاولته أداء واجبه. كان يساعد أولئك المصابين في وسط الخرطوم.
حوصر الطبيب مع بعض المتظاهرين داخل أحد المنازل، كان يحاول تقديم الرعاية الطبية لهم، وحاولت قوات الشرطة إجبارهم على الخروج من المنزل حتى أطلقوا الغاز المسيل للدموع داخل المنزل.
خرج الطبيب من المنزل رافعاً يديه في محاولة لإظهار أنه يخرج بسلام، وسألهم إن كان يستطيع الاقتراب منهم فقط للتحدث معهم.
وعندما اقترب منهم بدأ يشرح أنه طبيب، وأنه كان يحاول تقديم الرعاية الطبية للمصابين في الداخل، وأن خمسة أشخاص أصيبوا بجروح وكان الطبيب الوحيد في المنزل.
وكان الرد الذي تلقاه هو: "أنت طبيب، حسناً، نحن نبحث عنك". وأطلقوا النار عليه.
ويقول الأطباء إنهم مستهدفون من ضباط شرطة أو أعضاء في الأمن القومي، وإن هناك توجهاً بالقضاء على أي طبيب.
قامت قوات الأمن بمهاجمة المستشفيات بالغاز المسيل للدموع والذخيرة الحية، حسب نقابة الأطباء السودانيين، كما ألقي القبض على نحو 11 طبيبياً حتى الآن؟
وهو الأمر الذي أثار التساؤلات.. ماذا عن مصير البشير؟
كان كلُّ ذلك ذريعةً دفعت البعض، بمن فيهم حافظ إسماعيل وهو مُحلِّل في مؤسسة Justice Africa Sudan، على الجدال بأن المظاهرات قد حقَّقَت زخماً.
قال إسماعيل: "لن تتوقَّف الاحتجاجات، لأن النظام لا يسعه تقديم أيِّ حلٍّ للمشكلة، التي هي سياسية أكثر مما هي اقتصادية".
يتوقَّع إسماعيل أن يُقدِّم النظام تنازلات، مثلما حدث بعد مظاهرات 2013، لكنه قال إنها قد لا تكون مرضية إلى حدٍّ بعيد لمعارضي البشير.
كانت المسألة الإشكالية بشكلٍ خاص بالنسبة للنظام هي انخراط "تجمُّع المهنيين السودانيين"، وهي حركةٌ جديدة ذات تأثير واسع النطاق، تُمثِّل مهن الطبقة الوسطى التي تزعَّمَت الاحتجاجات، وقد خطت لسد الفجوة الناجمة عن اعتقال الكثير من قادة المعارضة.
وصف محمد يوسف المصطفى، متحدِّثٌ باسم الحركة وأستاذٌ بجامعة الخرطوم وأحد أقارب الرئيس في الوقت نفسه، اللحظة التي أدرك فيها أن حركة الاحتجاج المتزايدة قد خلقت واقعاً جديداً.
وقال: "لا يمكننا أن نتخلف عن الناس. سنثير سخرية الناس إن تشبثنا بموقفنا واكتفينا بتسليم مذكرة للبرلمان نطالب فيها برفع الحد الأدنى للأجور. موقفنا هو معارضة النظام وسياساته
قال جان هنري، من منظمة هيومان رايتس ووتش: "كلما طال أمد المظاهرات، زاد العنف والاعتداءات التي قد نرى الحكومة السودانية تضطلع بها. تستخدم الحكومة النوع ذاته من التكتيكات في كل مرة تندلع فيها الاحتجاجات. لكن الخطر يكمن في أنها ستغدو أكثر دموية".
انقسمت توقُّعات الخبراء حول النتائج المحتملة. واقترحت منظمة The International Crisis Group ثلاثة سيناريوهات مُحتَمَلة في ورقة إحاطة إعلامية حديثة.
قالت المنظمة: "أحد هذه الاقتراحات هو بقاء الرئيس في السلطة، مع أنه لن يجزل الأموال من أجل إصلاحاتٍ كبيرة لإرضاء المتظاهرين، بل وعلى الأرجح سيلجأ إلى ردعهم بالقوة. أما السيناريو الثاني فقد يشهد تسارع وتيرة الاحتجاجات والحض على إطاحة الرئيس من عناصر داخل حزبه أو نخبته الأمنية… أما السيناريو الثالث فقد يشهد استقالة البشير. وهذا من شأنه أن يسمح بتغيير القيادة مما قد يهدئ المتظاهرين".
بالنسبة لهنري، تتوقَّف النتيجة على ردة فعل النظام. "ويتمثَّل السؤال الرئيسي في مدى إدراك الحكومة أنها تواجه تهديداً وجودياً، وهذا أمرٌ يصعب التكهُّن به".