عاد الجواسيس مِن جديد، والآن واقعٌ جديدٌ مُخيف يتسلَّل عبر العالم. بدت أحداث هذا الأسبوع، التي ربما ضاهَت أياً ممَّا شهدناه منذ نهاية الحرب الباردة، كما لو كانت خارجةً من صفحات روايةٍ تشويقية.
إذ أُلقي القبض على مسؤولة تنفيذية كبيرة بشركة هواوي -وهي شركة صينية ذات صلةٍ بحُكام الحزب الشيوعي في الصين- على خلفية اتهامات بخرق العقوبات الأميركية على إيران فيما كانت تحاول تغيير طائرتها في كندا.
وراء هذه الأمثلة من التوتُّرات بين القوى الكبرى في العالم يوجَد تحوُّلٌ أساسي أكبر حسب تقرير صحيفة The Financial Times البريطانية. خرج كبار مسؤولي الاستخبارات في المملكة المتحدة وكندا وأستراليا -وهي جميعاً دول أعضاء في تحالف "العيون الخمس" الاستخباراتي، الذي يضُم أيضاً الولايات المتحدة ونيوزيلندا- من الظلّ ليدقُّوا ناقوس الخطر بشأن الصين، إما صراحةً أو بطريقةٍ غير مباشرة.
وكانت المملكة المتحدة واليابان بنفسيهما كشفتا علانيةً عن خطط شركة هواوي توفير خدمة الجيل الخامس 5G من الاتصالات اللاسلكية، وهي انطلاقة تكنولوجية من شأنها أن تسمح للأشياء من حولَك -مثل ثلاجتك، وسيَّارتك، وهاتفك الذكي- أن "تتحدَّث" مع بعضها. وفي بكين، اتَّهمت صحيفةٌ صينية رسمية الولايات المتحدة بـ"الهمجية".
كان مايك بورغيس، المدير العام لمديرية الإشارات الأسترالية (الاستخبارات الأسترالية)، وحده مَن سَلَك طريق الوضوح التام، فألقى خطاباً في مأدبة عشاء مُقامة على شرف الأمن القومي. في حين تحدَّث ديفيد فيغنولت، مدير جهاز الاستخبارات الأمنية الكندي، عن الأمر في نادي كندا الاقتصادي، اختار أليكس يونغر، مدير الاستخبارات الخارجية البريطانية (MI6)، حضوراً من الطلَّاب بجامعة سانت أندروز في أسكتلندا ليُسدِّد الضربات إلى بكين.
تشابهَت الرسالة التي وجَّهها كُلٌ من قادة أجهزة الاستخبارات. ستكون اتصالات الجيل الخامس ذات أثرٍ كبير على الطريقة التي يعيش الناس حيواتهم لدرجةٍ تُحتِّم أن يتم تشغيل شبكاتها بأيدي على يد شركاتٍ موثوقة فقط.
وتخرج شركة هواوي أكثر فأكثر من نطاق تعريف الكيانات الموثوقة، إذ حَظَرت الولايات المتحدة وأستراليا الشركة الصينية، وفرضت نيوزيلندا قيوداً على حرية عَملها في البلاد، كذلك تُخطِّط شركة BT، وهي الشركة المُقدِّمة لخدمة الاتصالات في المملكة المتحدة، لاستبعاد الشركة الصينية من المُزايدة على عقود إمداد بريطانيا بشبكة الجيل الخامس الرئيسية، ولو أنَّها قد تسمح للشركة بالمشاركة في تقديم بعض الخدمات الثانوية. ولم تُعلن كندا بعد عن موقفها من الشركة، فيما تدرس ألمانيا، وفقاً لمصادر رسمية، احتمال تحجيم الشركة في البلاد.
لكن رغم هذه الاختلافات، يربط هذه الرواية المُتكشِّفة خيطٌ واحد. فالعِداءٌ الشديد المُجمَع عليه في الولايات المتحدة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي تجاه التجسس الصيني، وسياسة بكين الصناعية، والخطر التنافسي الذي تُشكِّله شركاتها التقنية العملاقة، كل هذا غيَّر بشكلٍ جوهري معادلة واشنطن تجاه بكين.
تحلَّلت سياسة الانخراط مع الصين، التي حَكَمت العلاقة بين الدولين لما يقارب الأربعين عاماً، وأفسَحَت المجال أمام استراتيجية مواجهة فعلية. لكن الأمر الكاشِف للغاية في قضية هواوي هو أنَّ واشنطن أظهرت بوضوحٍ ألّا نية لديها لمواجهة الصين وحدها. بل تُصِرّ واشنطن على أن يحذو حلفاؤها حذوها، خاصةً فيما يتعلَّق بقضايا الأمن القومي.
يخشى كثيرون الآن أن نكون على مشارف حرب باردة جديدة. ويتساءلون ما إن كان اعتقال مينغ وانزو، المسؤولة التنفيذية بشركة هواوي، قد يدفَع بكين للقيام برد فعلٍ انتقامي.
يقول أندرو غولهوم مِن شركة Control Risks، وهي شركة للاستشارات: "من المُستبعَد أن تعتقل الصين مسؤولين تنفيذيين أجانب عشوائياً رداً على حادثة الاعتقال التي تمت في كندا، لكنَّ بمقدورهم انتهاج مقاربة أكثر عدوانية في إجرائهم أية تحقيقات تنظيمية أو جنائية تتضمَّن شركاتٍ أجانب، لاسيما الأميركية والكندية منها".
يُستبعَد أن تترُك بكين حادثة اعتقال التنفيذية بشركة هواوي تمر بلا عواقب. فلا شركة هواوي ولا مينغ تُمثِّلان كيانات عادية في السياق الصيني، بل ولا حتى قريباً من مستوى العادي. فالشركة هي تجسيدٌ لرؤية الصين الفُضلَى لنفسها: شركة للتكنولوجيا الحديثة، تحقق نجاحاً هائلاً، وموالية للحزب الشيوعي. وبدورها، فإنَّ مينغ هيَ ابنه رين شينغفي، مؤسس شركة هواوي وأحد أكثر رجال الصناعة محل التقدير والإعجاب في البلاد.
لكنَّ الخبراء يُحذِّرون مِن المبالغة بشأن سيناريوهات "الحرب الباردة الجديدة". فيقول باراغ خانا، مؤلِّف الكتاب "The Future is Asian – المستقبل آسيوي" الذي يصدر قريباً: "هيكَل النِظام الدولي الحالي ليس ثُنائي القطب كما كان الحال أيَّام الحرب الباردة، لذا فإنَّ تشبيه ما يحدث بأنَّه حرب باردة جديدة لا يصمُد في وجه أي نظرة متمعّنة مهما كانت سطحية".
وفي حين يبدو واضحاً أنَّ واشنطن تتمتع بسطوة كبيرة على حلفائها في المسائل الأمنية، فإنَّ نفوذها على السلوك الاقتصادي محدودٌ أكثر مِن ذلك. وجاذبية الصين كسوقٍ عالمية قوية جداً لدرجة أنَّ بعضاً من كُبرى الشركات الأميركية تبيع منتجاتها في الصين أكثر ممَّا تبيع في الولايات المتحدة.
بدورها، تعلَم بكين أنَّ آمالها لحلّ أزمة الحرب التجارية الحالية ستحظى بدعم الشركات الأميركية الكبرى. بالتالي، يُستَبعَد أن تُقدِم على أي فعلٍ انتقامي عشوائي. مع ذلك، تملك الإدارة الأميركية الحالية نزعةً للتصرفات غير المتوقَّعة.
وكما اتضح، فإنَّ إلقاء القبض على مينغ كان قد بدأ حين التقى دونالد ترامب بالرئيس الصيني شي جين بينغ في مأدبة عشاء قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين، الأمر الذي يثير التكهُّنات حول ما إن كان الرئيس الأميركي يحاول إهانة نظيره الصيني. وكما قال لو كاريه يوماً: "إذا جعلت عدوُّك يبدو أحمق، فإنَّك تفقد بذلك أي مبرر للانخراط معه (لاحقاً)".