عندما شاهد الملاكم فيس باتيستا الفيديو الذي ظهر فيه طالب بريطاني يسخر من مراهق سوري لاجئ ويطرحه أرضاً شمال إنكلترا على مرأى ومسمع من طلبة آخرين، استدعى ذلك لديه طوفاناً من الذكريات المؤلمة.
إذ إن الملاكم البالغ من العمر 28 عاماً، والذي يُعرف باسم الشهرة "فيس باتيستا" بينما اسمه الحقيقي هو محمد فيصل، يعلم جيداً الأثر الذي يمكن أن يتركه التنمر على الناس. إذ قال إنه كان على شفا حفرة من الانتحار بعد السخرية منه بسبب أصوله الآسيوية خلال فترة دراسته الجامعية.
بالإضافة إلى أن الصبي السوري، الذي يُعرِّفه محامي أسرته باسم "جمال"، تعرض للتنمر في مدينة هدرسفيلد الواقعة في مقاطعة غرب يوركشاير، وهي نفس المدينة التي تربى فيها باتيستا. وهو ما أعطى للحادثة بعداً شخصياً بالنسبة له. كما أنه عرض تقديم أي مساعدة ممكنة للصبي.
وقال باتيستا لموقع شبكة CNN الإخبارية: "كنت محطماً كلياً بسببه، وجعلني ذلك عازماً تماماً على الوصول إليه بأي ثمن".
كاد أن ينتحر لكن ليدي قاقا أنقذته
يدرب الملاكمَ البريطاني باتيستا أسطورةُ الملاكمة الأميركي روي جونز جونيور، وهو مدير أعماله أيضاً. ويقضي الملاكم الشاب وقته بين مدينة هدرسفيلد، وهي مدينة متعددة الثقافات تقع شمال شرق مانشستر، ومدينة بينساكولا بولاية فلوريدا. وهو يطمح لتحقيق لقب عالمي في الملاكمة، ويستمتع بحياته إلى أقصى درجة.
يحكي باتيستا عن تجربته مع التنمر فيقول إنه لم يعانِ من أي إساءة عنصرية في هدرسفيلد. ولكن عندما ذهب إلى الجامعة في مدينة أخرى أقل تنوعاً في شمال إنكلترا، عاش تجربة مرعبة مع التنمر العنصري.
أوضح باتيستا: "وصفوني صراحةً بالإرهابي، وألقوا الأشياء عليّ علناً، ومرة بصقت فتاة على وجهي. يمكنني أن أتذكر ذلك". ويضيف: "كنت حينها أمارس لعبة الملاكمة، لكن ليس مهماً مدى صلابتك البدنية، فهذه الأشياء تسحقك من الداخل. ولا يمكنك أن تشد قبضة يدك وتقول: "سوف أقاتلك"، فهذه أمور وقعها أشد بكثير".
يقول باتيستا إن الفضل يعود إلى استماعه لأغنية للمغنية ليدي غاغا جعلته يستعيد رغبته في الحياة، بعد أن كان ينوي الانتحار. وصار الآن يتحدث في المدارس المحلية لمكافحة التنمر، ويعمل مع نادي هدرسفيلد تاون، وهو أكبر نادٍ في المدينة، من أجل نشر رسالة تدعو إلى احتواء الجميع.
يأمل الملاكم بأن يساعد جمال والصغار الذين مثله من خلال إخبار حكايته الشخصية، وكيف غير حياته وحقق حلمه بأن يصبح ملاكماً محترفاً. وقد تواصل مع أسرة جمال ويأمل بأن يقدم المساعدة شخصياً.
قال باتيستا: "أريد أن أبعث رسالة إليه وإلى الأشخاص الآخرين الضعفاء الذين يعانون من التنمر. أستطيع أن أشعر بالألم الذي شعر به. فلقد مررت بما مر به".
غضب ودعم
تسبب الحادث الذي وقع في أكتوبر/تشرين الأول داخل مدرسة ألموندبيري كوميونيتي بصدمة لسكان هدرسفيلد وأثار مخاوف من أن تياراً كامناً من العنصرية ربما يطل بوجهه على المجتمع.
لكنه في المقابل أدى إلى موجة كبيرة من الدعم للصبي البالغ من العمر 15 عاماً وأخته البالغة من العمر 14 عاماً، التي تعرضت للتنمر هي الأخرى، حسبما أوضح محامي العائلة المقيم في لندن محمد أكونجي.
فقد احتشد الداعمون خارج المدرسة يوم الخميس الماضي وتأسست صفحة على منصة GoFundMe لمساعدة الأسرة، فحصلت على أكثر من 155 ألف جنيه إسترليني (حوالي 197 ألف دولار) من خلال التبرعات حتى أمس السبت، لتتجاوز المبلغ الذي كان مستهدفاً.
في تغريدة نشرت على موقع تويتر يوم السبت، قال محمد طاهر، مؤسس صفحة دعم الأسرة على منصة GoFundMe: "جمال وعائلته يبلون بلاءً حسناً. لقد نقلت إليهم رسائلكم المخلصة، وتأثروا للغاية بكلماتكم الطيبة ونهجكم الذي يعبر عن الترحيب".
UPDATE pic.twitter.com/tuR7FLbqLE
— Tahir (@mtahir_17) December 1, 2018
تيريزا ماي: "نحن شعبٌ مضياف"
قالت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي خلال حديثها في قمة مجموعة العشرين التي أقيمت في الأرجنتين إن ما تعرض له الصبي كان "مفزعاً تماماً"، لكن ردة الفعل الشعبية توضح أن البريطانيين "شعبٌ مضياف".
وأوضح تريفور بوين، كبير معلمي مدرسة ألموندبيري كوميونيتي، في بيان نُشر الجمعة 30 نوفمبر/تشرين الثاني، أن المدرسة، التي تصف نفسها على موقعها بأنها "شاملة تحتوي الجميع"، تتعامل مع الأمر "بأقصى قدر من الجدية"، وإن سلامة الطلبة تحظى بأهمية كبيرة.
وأضاف: "يمكننا التأكيد على أن المدرسة تعمل مع الشرطة والسلطات المحلية لأسابيع عديدة -على عكس البيانات التي ربما شاهدتموها- فيما يخص الأحداث الأخيرة. نريد أن تطمئنوا بأن التعامل مع أي قضية يجري بسرعة. فلا نتسامح مع أي نوع من السلوكيات غير المقبولة في مدرستنا".
وقالت شرطة غرب يوركشاير إن صبياً يبلغ من العمر 16 عاماً مشتبهاً فيه جرى استجوابه حول الحادث الذي وقع في 25 أكتوبر/تشرين الأول، وسيمثل أمام إحدى محاكم الأحداث.
ووصف مجلس مقاطعة كيركليز، وهي السلطة المحلية التي تغطي مدينة هدرسفيلد، حوادث التنمر المزعومة بأنها "أمور خطيرة جداً"، وأنه يعمل عن كثب مع المدرسة والشرطة. وقال متحدث باسم المجلس: "أولويتنا المشتركة تتعلق بأمن ورفاه جميع الطلبة".
الأثر على أسرة الصبي
يقال إن جمال وأسرته، وهم ضمن مجموعة من اللاجئين السوريين في هدرسفيلد، يضعون في عين الاعتبار استخدام أموال التبرعات للانتقال إلى مكان آخر في بريطانيا.
قال أكونجي إن الأسرة فرّت من مدينة حمص السورية، بعد أن تسببت الحرب في تمزيق البلاد، وشدوا رحالهم نحو لبنان، قبل أن يستقروا في هدرسفيلد عام 2016 بموجب برنامج تابع للأمم المتحدة.
وكان ذلك هو التوقيت الذي تعرفت فيه الأسرة لأول مرة على سليمان شويش، وهو لاجئ آخر جاء إلى بريطانيا عام 2012. وحينها كان شويش مترجماً لهم.
قال شويش إن العلاقة توطدت منذ ذلك الوقت وتكوّنت صداقة بينه وبين الأسرة. يعمل شويش الآن منسقاً لخدمات اللاجئين.
وأخبر شويش شبكة CNN الأميركية بأن هذه الحوادث المزعومة وحالة الغضب التي تبعتها كان لها أثرٌ كبيرٌ. وأضاف: "لا يمكنني أن أصف شعور الأسرة الآن، فلا يمكنهم التفكير بصورة سليمة. إنه أمر يصعب التعامل معه".
أخبر الصبيُ شويش بأنه لا يستطيع التوقف عن التفكير فيما حدث. وقال شويش: "الصبي قال إنه انتابته كوابيس في كثير من الأحيان وبكى، لكنه لم يرغب أن يظهر لأبيه أنه يبكي".
ظهر الصبي ووالده لمدة قصيرة عندما تجمعت مجموعة من الداعمين خارج المدرسة يوم الخميس 29 نوفمبر/تشرين الثاني. وقال لهم الصبي المراهق عند مغادرته: "شكراً على كل شيء".
قال شويش إن تجربته الشخصية في هدرسفيلد كانت إيجابية جداً، حيث إنه تعرض لإساءات عنصرية في مدن بريطانية أخرى عندما وصل إلى بريطانيا لاجئاً قادماً من شمال شرقي سوريا، وتضمنت هذه الإساءات إلقاء بيض على نافذته، لكن ذلك قد تغير عندما جاء إلى هدرسفيلد.
وأضاف: "كانت أفضل الأماكن في بريطانيا بالنسبة إليّ". وأضاف أنه اختارها بسبب شهرتها باعتبارها مدينة متعددة الثقافات ولديها جامعة جيدة.
وأوضح شويش: "منذ اليوم الأول الذي وصلت فيه إلى هدرسفيلد كنت أحظى بكل الترحاب. أظهر أشخاص كثيرون الدعم لي، وساعدوني في عديد من الأشياء التي احتجت إليها".
علمت شبكة CNN من لاجئ سوري آخر في المدينة يدعى رضا السوس أنهم استقبلوه استقبالاً حاراً بعد وصوله إلى هدرسفيلد من دمشق قبل حوالي 5 سنوات. ويعمل الآن في موقع Amazon وفي مصنع الجبن الخاص بأخته، في ذات الوقت الذي يواصل فيه دراسته.
وقال السوس: "منذ أن وصلت إلى هنا عشت مع أسرتي في منطقة تمتلئ بالإنكليز ويُطلق عليها كروسلاند مور، ولديّ أصدقاء كثيرون من الإنكليز والجنسيات الأخرى".
مجتمع متعدد
تعد مدينة هدرسفيلد، التي تقع بين مدينتي ليدز ومانشستر، أكبر منطقة حضرية في مقاطعة كيركليز. وتشير العمارة الفيكتورية المنتشرة في وسط المدينة إلى تاريخ المنطقة باعتبارها مركزاً رئيسياً للصناعة، لا سيما صناعة المنسوجات.
أسهم كلّ من هذا التاريخ وجامعة المدينة المزدهرة في هذا التنوع العرقي والثقافي الذي تشهده المنطقة. ففي يناير/كانون الثاني، أشارت الإحصاءات إلى أن أكثر من ربع أطفال المدارس في مقاطعة كيركليز من ذوي أصول آسيوية أو آسيوية بريطانية.
قال وسيم رياض، أحد أعضاء مجموعة Kirklees Faith Network، وهي مجموعة مستقلة تعمل من أجل الحفاظ على تماسك المجتمع، إن الصورة الكلية للعلاقات بين العقيدة والعرق في كيركليز تعد جيدة الآن مقارنة بالعقود الماضية، فلم يعد العرق "يمثل إشكالاً حقيقية" بالنسبة للأطفال.
وأوضح: "اضطلعت كثير من المدارس بعمل كبير خلال 15 إلى 20 عاماً ماضية من أجل إزالة هذه العوائق. لقد خضنا طريقاً طويلاً ليتغير الحال عما كان عليه في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، عندما كان أي شخص آسيوي أو أسود يسير في الشارع يجب عليه أن يكون حذراً من ألا يوجه له شخص ما لكمة في وجهه".
لكنه يخشى من أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي تروج للأفكار اليمينية المتطرفة التي قد تستغل بعض جذور التعصب.
وأضاف: "كان اليمين المتطرف نشطاً في كيركليز خلال الـ50 عاماً الماضية بمسميات سياسية مختلفة. والآن يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، ومن الواضح أن خطاباته تجذب فئة قليلة. ولكن في العموم تبدو الصورة إيجابية للغاية".
وأضاف رياض أنَّ هدرسفيلد تأثرت مؤخراً بمحاكمات بارزة تضمنت رجالاً من أصول آسيوية يستدرجون فتيات بيض من أجل الجنس، ما أدى إلى تركيز مؤسف من جانب وسائل الإعلام على انقسامات المجتمع.
وعلى الرغم من أن البيانات الحديثة الصادرة عن شرطة غرب يوركشاير تظهر ارتفاعاً كبيراً في الجرائم العنصرية، يعتقد رياض أن ارتفاع وعي الناس وعزمهم على الإبلاغ عن هذه الحوادث قد لعب دوراً كبيراً في زيادة عدد الحوادث المسجلة.
لكنه قلقٌ أيضاً من أن الضغط الكبير على المدارس لاستيفاء معايير الإلمام بالقراءة والكتابة والحساب قد يعني أن قيادات المدارس لديها وقت أقل للتركيز على تماسك المجتمع.
في غضون ذلك، يبدو الملاكم باتيستا واثقاً من أن مدينته المحبوبة ستصمد أمام هذه العاصفة الأخيرة. وسيواصل هو القيام بكل ما يستطيعه كي يروّج لثقافة الاحتواء واللطف في المدارس.
وقال باتيستا: "هدرسفيلد لديها مجتمع متماسك جداً. فالناس يعتنون ببعضهم بعضاً".