اعتبرت الأكاديمية السعودية المُعارضة مضاوي الرشيد أن نظام الحكم المطلق في السعودية يفرز عنفاً كبيراً لدى الشخص الذي يتولى السلطة دون النظر إلى اسمه، مستشهدة بواقعة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده مطلع أكتوبر/تشرين الثاني الماضي.
وقالت الرشيد في مقال بموقع Middle East Eye البريطاني إنَّ تركيز وسائل الإعلام الدولية على وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان باعتباره المتهم الأول في مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي هو أمرٌ مفهومٌ ومبرَّرٌ. لكن الاهتمام الممنوح لهذا الشخص بعينه يشتت الأنظار عن بنيات السلطة العارية التي ترعرع فيها محمد بن سلمان وتشبَّع بها.
وأضافت أن بنيات السلطة المطلقة هذه هي التي سمحت للحكام السعوديين السابقين، ومحمد بن سلمان، وربما القادمين من بعده بالحكم دون أدنى اعتبارٍ للقواعد الأساسية والنزيهة للسياسات التوافقية. تتيح هذه البنيات لمحمد بن سلمان اللجوء إلى مختلف درجات العنف، بدءاً من الاعتقالات التعسفية، والتعذيب في السجون، وانتهاءً بالقتل.
السياق السياسي
وبحسب المقال، في الماضي ذكَّر محمد بن سلمان محاوريه الصحافيين بأنَّه بصفته فردٌ من عائلة آل سعود الملكية، فهو ليس ديمقراطياً ولا هو غاندي. وتباهى بثروته بكل تبجح وذكَّر محاوريه بأنَّه ثريٌّ ومُنعَمٌ. والأمر الذي لا يثير الدهشة هو أنَّه لا يتفاخر بحصانته القانونية حين يتصرف بشراسةٍ وتهورٍ وتعنُّتٍ.
وبينما تواصل وسائل الإعلام الدولية استهجان محمد بن سلمان، حان الوقت لتفحص إلى السياق السياسي الذي تمخَّض عنه هو وسلوكاته المشينة، بحسب الرشيد.
يظل صعود محمد بن سلمان، وبالتأكيد أي أميرٍ آخر، إلى المنصب الأرفع في الحكومة حقاً مكفولاً لشخصٍ واحدٍ، ألا وهو الملك. وقد أصبح محمد بن سلمان وليّ العهد العام الماضي نتيجةً لقرارٍ صادرٍ من والده، الملك سلمان. لم تجرِ أي تشاوراتٍ ولم يحدث أي إجماعٍ للتوصُّل إلى نتيجة أنَّ من محمد بن سلمان هو "الرجل المناسب في المكان المناسب"، وهي مقولةٌ سعوديةٌ يردِّدها الناس كلما أجرى الملك أي تعديلاتٍ وزاريةٍ وبيروقراطيةٍ، بحسب المقال.
وبُعَيد عامٍ واحدٍ فقط، أصبح اسمه مقترناً بفضيحةٍ ستشوّه سُمعة المملكة السعودية لزمنٍ طويلٍ.
كان قرار الملك وحده هو ما وضع محمد بن سلمان بسرعة في مقدمة السلطة الملكية. وكانت هيئة البيعة التي أسَّسها الملك عبدالله عام 2007 مهمشةً تماماً، نظراً لوفاة معظم كبار أعضائها من الأسرة الملكية. وقد وقف الأمراء الـ33 المتبقون في الهيئة متفرِّجين مكتوفي الأيدي، واعتُقِل عددٌ كبيرٌ منهم في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2017 في عملية مكافحة الفساد المزعومة. ثم أُفرِج عنهم في وقتٍ لاحقٍ ولا يزالون مُكَمَّمي الأفواه حتى وقتنا هذا.
لم يكن للملك سلمان إخوةٌ يقفون معه على قدم المساواة لكي يضعهم في اعتباره أو يهابهم أو يحترم آراءهم حينما اتخذ ذلك القرار التاريخي بتسليم سلطة المملكة إلى نجله. وربما يأتي وقتٌ يندم فيه على هذا القرار، كما تقول الأكاديمية السعودية.
الجيل الأخير
باستثناء الأمير أحمد المُهَمَّش، فإنَّ الملك سلمان هو الحلقة الأخيرة في جيلٍ حكم المملكة السعودية كأنها ملكيةٌ خاصةٌ مشاعةٌ. في ما مضى، كان لكل من الإخوة ذوي الأهمية إما مناصب بالغة الأهمية في الحكومة (مثل فيصل وفهد وسلطان ونايف وعبدالله)، وإما كوَّنوا ثرواتٍ عوضاً عن الحكم (مثل طلال)، أو فضَّلوا العيش كأمراء لا عمل لهم يمضون الوقت بالتنقل بين مختَلَف القصور في الكرة الأرضية.
كانت تلك هي حال سائر البيت الملكي، المُقدَّر عدد أفراده بخمسة آلاف فردٍ. أما أبناء كبار الأمراء مثل أبناء فيصل، وفهد، ونايف، وسلطان، وعبدالله إما صاروا وكلاء عن آبائهم في حياتهم حين أعجزتهم الشيخوخة، وإما أُرسِلوا إلى المحافظات ليكونوا حكَّاماً إقليميين أو يتولوا مناصب أقل أهميةً في النظام البيروقراطي.
وكان أبناء فيصل هم واجهة المملكة المُصَدَّرة إلى الخارج. فلعب كل من سعود وتركي الفيصل هذا الدور لأجل إثارة إعجاب المجتمع الدولي المتشكِّك والنافر من السعودية. وكان الأول هو وزير الخارجية لما يزيد على ثلاثة عقودٍ حتى توفِّي، بينما عمل الثاني في البداية رئيساً للاستخبارات العامة، ثم صار لاحقاً سفير السعودية في واشنطن ولندن.
والآن أُوكِلت إلى الأمير تركي مهمة إبهار الدوائر الانتخابية المهمة في الولايات المتحدة، وهو دورٌ كان قد لعبه في السابق بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول حين كانت محاضراته في المحافل الأكاديمية وحتى في الكنائس والمؤسسات البحثية عن التسامح السعودي توفِّرُ دعايةً مطلوبةً بشدةٍ.
ومرةً أخرى، يحاول بجدٍّ تبديد التوتر في الولايات المتحدة بعد مقتل خاشقجي عن طريق ترتيب لقاءاتٍ مع الصحافيين. وقد أُرسِل على الفور شقيقه الأكبر خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، إلى إسطنبول بعد مقتل خاشقجي من أجل عقد مفاوضاتٍ مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وبحسب المقال حين لا يتبع تقليد الأمراء مبدأ الشورى والإجماع، يظهر أشخاصٌ مثل محمد بن سلمان في المملكة السعودية، ما يُنذِر بالخطر على كلا الصعيدين المحلي والدولي. وحين لا يملك هذا الشخص أوراق اعتمادٍ مُثبَتَةً -مثل محمد بن سلمان- يمكن أن يفضي الموقف إلى أزمةٍ قنصليةٍ.
عملية تمحيص
وتفتقر المملكة السعودية إلى الأجهزة القادرة على ردع الأمراء الذين يسيئون التصرف. ووفقاً للشائعات، كان الملك سلمان نفسه هو من يؤدِّب الأمراء حين كان حاكم الرياض لمدةٍ قاربت النصف قرن. للأسف، يبدو أنَّ أحد الأمراء قد أفلت من الرقابة الأبوية.
وفي غياب مجلسٍ فعَّالٍ للأسرة الملكية أو مجلس أمة مُنتخب، يكون الملك ذا سلطةٍ مطلَقَةٍ ويمكن لنجله أن يُحدِث فوضى، وسيفعل. إنَّ السعودية هي المملكة الأخيرة التي تفتقر لأي مظهرٍ من مظاهر الشورى، كما تقول الرشيد.
بمطالبة الملك بعزل ابنه ومحاكمته بتهمة قتل خاشقجي (إذا كنا سنصدق تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) الصادر حديثاً)، يبدو أنَّ العالم قد "تجاوز خطاً أحمر" وفقاً لوزير الخارجية السعودية عادل الجبير. غير أنَّه من المستبعد أن يستجيب الملك لمثل هذه الدعوات غير الواقعية. فَلِكَي يكون قرارٌ كهذا محتملاً من الأساس، يجب أن تحدث تغييراتٌ سياسيةٌ حقيقيةٌ.
وبالنظر إلى ندرة الأمراء المحنَّكين والمؤهَّلين، ينبغي أن يخضع المرشح لخلافة الملك لعملية تمحيصٍ من طرف مجلس أمة منتخب، على شاكلة ما يحدث في الكويت. ومع أن هذا بعيدٌ كل البعد عن الحلول المثالية، فعلى الأقل يمكن للمجلس إجراء تصويت حين يكون بصدد اختيار خليفةٍ للأمير، بناءً على عمليةٍ ديمقراطيةٍ، وإن كانت محدودةً وموجزةً.
في هذه الحالة يُطَبَّق أضعف الإيمان من الشورى. ولا تملك السعودية حتى هذه الديمقراطية الظاهرية.
ثمن باهظ
وتابعت الأكاديمية السعودية بأنه من الواضح أنَّ ملكاً في أواخر الثمانينات من عمره قد اختار الشخص الخاطئ ليتولى منصب وليّ العهد، وقد دفع هو وسائر أفراد الأسرة الملكية الثمن غالياً مقابل غرور محمد بن سلمان وسلوكه الشارد.
لم تتشوَّه من قبلُ سمعة السعودية في الخارج بهذه الدرجة. يمكننا بثقةٍ افتراض أنَّ جريمة القتل كانت كارثةً ذاتيةً متعمَّدةً غير مسبوقة، تعكس عقليةً سيئةً، وتنفيذاً رديئاً، وإدارةً مرتبكةً للغاية للحوادث.
وتشهد الروايات السعودية المختلفة التي صدرت بعد وقوع الجريمة على الارتباك وعلى محاولةٍ فاشلةٍ للتستُّر على تفاصيل الجريمة، والتنصل من المسؤولية، وتبرئة كبار الزعماء من أي ذنبٍ. بالتأكيد لم تكن هذه الروايات دليلاً على تحقيقٍ صادقٍ ونزيهٍ وشفافٍ في جريمةٍ سياسيةٍ.
لقد تزعزعت مصداقية الزعامة داخل الدولة إلى حدٍّ لا يوصف. وتعكس الجولة التي أجراها الملك سلمان مؤخراً في عدة مناطق من المملكة رغبةً في استعادة الثقة بالنظام الملكي وإثبات مصداقيته في وقتٍ يقبع فيه ابنه في محور فضيحةٍ دوليةٍ.
ولم تكن جولته لتكتمل دون وعودٍ بمشاريع ماليةٍ ومكافآتٍ للمحافظات النائية التي بدا أنَّها قد نُسِيَت في الوقت الذي كانت كل المجهودات الملكية فيه منصبَّةً على تعزيز سلطة محمد بن سلمان. يبدو أنَّ الملك سلمان يحاول إسدال ستارٍ على نارٍ موقدةٍ.
وبالإضافة إلى الدعم الكامل من والده، يحتاج محمد بن سلمان إلى الاعتراف الدولي والإقليمي. ومن ثم جاءت زياراته إلى أبوظبي والبحرين ومصر، يتبعها ظهورٌ في قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين، وكل هذا من شأنه أن يبعث بالرسالة المطلوبة، ألا وهي كونه ممثلاً جديراً بالثقة على الساحة الدولية.
ما كان هذا ليحدث لولا أن حصل على كامل دعم رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب، الذي استنكر مؤخراً تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عن تورُّط محمد بن سلمان في مقتل خاشقجي، وأكَّد تأييده الكامل لولي العهد.
وقد تحدث ترامب عن مزيجٍ من العوامل الاقتصادية والجيوستراتيجية المساهمة في استمرار دعمه لولي العهد السعودي. ففضلاً عن الاستثمارات التي وعد بها محمد بن سلمان التي تبلغ قيمتها 450 مليار دولار أميركي، أشار إلى مدى أهمية دور السعودية في مكافحة الإرهاب، وكبح جماح إيران، وتحقيق السلام مع إسرائيل.
وختمت الرشيد مقالها مشيرة إلى أنه في ظل الغياب التام للضغوط الملكية، وهشاشة المجتمع السعودي، واستعداد المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، للتغاضي عن مقتل خاشقجي، يبدو أن محمد بن سلمان آمِنٌ في منصبه إلى الآن. وبما أنَّ من غير المرجح أن يعمل الملك على تقويض نفوذ ابنه داخل الدولة في المستقبل القريب، ربما لا يواجه محمد بن سلمان أية تحدياتٍ حقيقيةً حتى توافي أباه المنية.