في رمال الصحراء العربية، توجَد أدلةٌ مدفونةٌ على ماضي شبه الجزيرة العربية الأكثر رطوبةً وخضرة. ترسم حفرياتٌ لأفيالٍ وظباء ونمور منقرضة منذ زمنٍ بعيد مشهدَ ما قبل التاريخ لا لأرضٍ قفر قاحلة، بل لأرضٍ معشبة بالسافانا تتخلَّلها فتحاتُ ريّ.
اكتشافات جديدة
والآن، اكتشف العلماء ما يرونه دليلاً على نشاطات أولى السلالات ذات القرابة للجنس البشري، سلالات عاشت في هذه الأرض القديمة منذ زمنٍ يتراوح بين 300 و500 ألف عام، حسب ما ذكرت صحيفة The New York Times الأميركية.
وإذا ما تأكَّدت اكتشافاتهم، فإنَّ الرقاقات الحجرية وعِظام الحيوانات المذبوحة التي كشف عنها الباحثون ستكون دليلاً على أنَّ الهومينين (أي أشباه البشر) الأوائل، وهُم سلالةٌ منقرضة من جنس الهومو (أي الإنساني) لكنَّهم على الأرجح ليسوا من نوعنا البشري، كانوا موجودين في شبه الجزيرة العربية قبل المُتعارف عليه سابقاً بما يبلغ 100 ألف عامٍ على الأقل.
الجزيرة العربية كانت تشبه وسط إفريقيا
كذلك تشير الاكتشافات المنشورة، يوم الاثنين 29 أكتوبر/تشرين الأول في المجلة العلمية البريطانية Nature Ecology & Evolution إلى أنَّ الهومينين الأوائل لم يحتاجوا لأي نوعٍ خاص من التكيُّف التطوري قبل ارتحالهم من مروج إفريقيا إلى براري شبه الجزيرة العربية.
وقال مايكل بيتراغليا، وهو عالم آثارٍ من معهد ماكس بلانك لعلم التاريخ البشري في ألمانيا ومؤلِّف البحث المنشور: "فيما توسَّعت منطقة السافانا، كذلك توسَّع معها بشر هذه الفترة".
شبه الجزيرة لم تحظَ بكثير من الاهتمام
بحث بيتراغليا في الصحراء القاحلة حالياً طوال الأعوام العشرة الماضية عن دليلٍ على وجود "شبه جزيرة عربية خضراء".
ومع أنَّ شبه الجزيرة العربية هي نقطة وصلٍ رئيسية بين إفريقيا وأوراسيا (أوروبا وآسيا)، فإنَّ الهجرة البشرية المارَّة بها لم تُدرَس بإمعانٍ كما دُرِسَت في منطقة الشام. ولفترةٍ اعتُقِد أنَّ المنطقة كانت جدباء أكثر من أن يستطيع الهومينيون الأوائل الترحال فيها.
آلاف البحيرات الجافة والأدوات
لكنَّ الاكتشافات الجديدة المذكورة تُغيِّر تلك الرواية، وتشير إلى أنَّ المنطقة قد تكون مرَّت بدورات حياة من الجدب والخصب.
وفي وقتٍ أسبق من العام الجاري أورد فريق بيتراغليا تقريراً عن اكتشافهم عظمة إصبعٍ تعود لنوع الهومو سابيان (أي فصيلة البشر كما هُم الآن بشكلهم المعاصر) يبلغ عمرها نحو 90 ألف عام في الصحراء، وميَّزت مجموعته البحثية آثاراً لنحو 10 آلاف بحيرة قديمة جافة باستخدام تقنية التصوير بالأقمار الصناعية.
ومنذ بضع سنواتٍ عثر هوَ وزملاؤه على حفريات في الجزيرة العربية لثدييات منقرضة في موقعٍ بصحراء النفود بالسعودية. وبفحصها تحت المجهر، كُشِف وجود علامات قطعٍ على ضلع أحدها صُنِعت بأداةٍ حجرية حادة.
وقال ماثيو ستيوارت، وهو طالب دكتوراه بجامعة نيو ساوث ويلز في مدينة سيدني: "لا أظن أنني وقتها كنتُ أدركت خطورة ذاك الاكتشاف بعد. لم أدرك أنَّ ذلك قد يكون أقدم دليلٍ على وجود البشر في شبه الجزيرة العربية حتى يومنا هذا، وأن أحداً لم يكتشف شيئاً مثله قبلاً".
بجانب الحفريات المخدوشة، كان الفريق قد وجد في موقع التنقيب رقاقات حجرية، وهيَ مخلَّفات صناعة الأدوات من الحجر.
وقال ستيوارت: "حسمت الأدوات الحجرية الأمر"، مقدمةً الدليل على أنَّ الهومينين ذبحوا تلك الحيوانات.
حفريات كثيرة ترسم صورة للأزمنة الغابرة
كذلك كان الفريق قد جمَّع أكثر من 20 حفرية لأسنانٍ تعود لحيواناتٍ عاشبة مثل الظباء والأفيال والأحصنة القديمة. وحلَّل مينا الأسنان المُكتشفة باتريك روبرتس، وهو عالم آثار يعمل أيضاً بمعهد ماكس بلانك لعلم التاريخ البشري وهو المؤلِّف الرئيسي للدراسة؛ ليستخرج منها بيانات نظائر الكربون والأكسجين فيها.
تنمو مينا الأسنان بزيادةٍ تدريجية، على نحوٍ يُشبه حلقات نمو الأشجار، وبذلك تُعطينا فكرةً عن التغيُّرات المارة بها على مدار فترةٍ من الزمن. ووفَّرت بصمات نظائر الكربون معلوماتٍ عن غذاء الحيوانات العاشبة، فيما تعكس نظائر الأكسجين معلوماتٍ عن مصدر المياه لعمليات الترسيب، وعن مستويات الرطوبة ودرجة الحرارة.
وبيَّن تحليل روبرتس أنَّ النظام الغذائي للثدييات المذكورة تكوَّن من نباتاتٍ توجَد في المروج، مشيراً إلى أنَّ هطول الأمطار حيثُ عاشت الحيوانات كان يحدث خلال الفصل الدافئ. وبيَّنت نظائر الأكسجين أنَّ الظروف المناخية كانت أكثر رطوبةً بكثير في المنطقة آنذاك.
عمرها 500 ألف عام
والآن يقول الفريق إنَّ الحفريات المكتشفة بموقع التنقيب قد يبلغ عمرها 500 ألف عامٍ. ولأنَّ أقدم دليلٍ معروف على وجود البشر (الهومو سابيان) يعود لنحو 300 ألف عامٍ في المغرب، فإنَّ العلماء لا يعتقدون أنَّ نوع الهومينين الذين خلَّفوا هذه العلامات كانوا من الهومو سابيان. وهذا يعني أنَّ الهومينين الأوائل الذين ارتحلوا من إفريقيا مروراً بشبه الجزيرة العربية لم يكونوا بحاجةٍ لإعدادٍ بيولوجي لمواجهة بيئةٍ أقسى من تِلك التي تركوها.
وقال روبيرتس: "ما صادفه هؤلاء الهومينين في شبه الجزيرة العربية كان أشياء تشبه كثيراً ما نراه اليوم في سهول السافانا العشبية شرق إفريقيا. لم يكونوا آنذاك يتفرَّقون في الصحراء، بل إنَّنا نجادل أنَّ ذلك لم يكن سوى جزءٍ من حركةٍ لتوسعة النطاق".