في الرواية السعودية لحربها باليمن المجاورة، يختار التحالف الذي تقوده السعودية بعنايةٍ أهدافه التي يشن عليها غاراته الجوية. أما في الرواية الواقعية، فتتزايد أعداد الضحايا المدنيين بشكل سريع، حتى إنها بلغت أرقاماً مبالغاً فيها للغاية، وذلك حسبما أفادت تقارير منظمة الأمم المتحدة والجماعات الإنسانية، فضلاً عن التقارير التي تنذر بمجاعةٍ وشيكة بسبب الحرب. وفي خضم ذلك، لا يتدخل التحالف بأي طريقة في المساعدات الإنسانية أو تقديم يد العون للاقتصاد اليمني المحاصر، بحسب تقرير لصحيفة The Washington Post الأميركية.
لكن، يرى النقاد أن هذه الرواية أصبحت مزعجة ومملة الآن.
يثير مقتل الصحافي جمال خاشقجي بالقنصلية السعودية في إسطنبول بالـ2 من أكتوبر/تشرين الأول 2018 على يد عملاء سعوديين، والإنكار المتكرر في البداية لمعرفة مصيره من جانب السعودية- مخاوف جديدة حول رواية السعودية لنهجها المُتَّبَع في حملتها العسكرية على اليمن.
قالت إليزابيث كندال، وهي باحثةٌ يمنية بجامعة أوكسفورد: "فتحت تلك الحادثة أبواب الشك في الرواية السعودية بأكملها عن الحرب اليمنية على مصراعيها. لم يعد بإمكان المملكة إخبار العالم بما تودُّ أن يفكر فيه دون أن يتسلل الشك والريبة إليه".
أميركا باتت تشك في رواية السعودية
مع تضاعف الشكوك، تُثار تساؤلات جديدة حول إذا ما كانت إدارة ترمب بإمكانها الوثوق بما تقوله السعودية للمسؤولين الأميركيين بشأن سلوكها في حرب اليمن، لا سيما فيما يتعلق بدورها في الخسائر بصفوف المدنيين وانتهاكات حقوق الإنسان.
يعتمد مسؤولو الإدارة على المعلومات التي تقدمها السعودية بغرض دفع المشرعين الأميركيين إلى السماح بالمزيد من مبيعات الأسلحة الأميركية وغيرها من المساعدات الأميركية للمملكة.
تدعم الولايات المتحدة القوات التي تقودها السعودية في حربها ضد الحوثيين، عن طريق إعادة تزويد طائراتها بالوقود، وتقديم الدعم الاستخباراتي واللوجيستي، فضلاً عن مبيعات الأسلحة التي تجني من ورائها مليارات الدولارات.
منذ أن بدأت الحرب اليمنية عام 2015، يسعى التحالف بقيادة السعودية إلى طرد الحوثيين الذين يسيطرون على اليمن الشمالي، كما يعتزم إعادة الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً إلى السلطة. وتدعم السعودية وغيرها من الدول الإسلامية السُّنية، مثل الإمارات العربية المتحدة ومصر، قوات الحكومة، في حين تدعم إيران الشيعية المتمردين الشيعة.
في سبتمبر/أيلول 2018، شهد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ووزير الدفاع جيمس ماتيس أمام الكونغرس على أن التحالف الذي تقوده السعودية كان يبذل "جل جهد ممكن للحد من الضحايا من المدنيين". وقال مسؤول كبير في البيت الأبيض بمعرض كلامه في أثناء وجوده بالقاهرة الأسبوع الماضي، إن المسؤولَين "استشهدا بمجموعة متنوعة من المصادر"، وكانا على يقين من تصريحاتهما.
تشمل تلك "المصادر" المعلومات المقدمة من السعوديين أنفسهم، الذين انفردوا بالتحقيقات بشأن الضحايا المدنيين من الغارات الجوية. ووجد التحالف بقيادة السعودية أنه هو المسؤول عن قتل المدنيين في حالات قليلة فقط، وهذا يتناقض بدوره مع المعلومات التي جمعتها منظمة الأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان، بحسب الصحيفة الأميركية.
ويقدر مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن أكثر من 16 ألف مدني لقوا حتفهم أو أصيبوا منذ أن اندلعت الحرب، ومعظمهم على أثر الغارات الجوية. وجدير بالإشارة إلى أن التحالف بقيادة السعودية هو الطرف الوحيد في الحرب الذي يستخدم الطائرات العسكرية.
حوادث عرضية أم مدبرة؟
ويقول المشروع المستقل المعني ببيانات مواقع الصراع المسلح وحالاته، إن عدد القتلى يفوق ذلك بكثير، حيث يقدّر أن أكثر من 50 ألف مدني قُتِلوا خلال هذه الفترة.
لم تجر تحقيقاتٌ بشأن معظم حالات الوفيات من المدنيين التي أُبلغ عنها. كان رد المسؤولين السعوديين دائماً، أن سقوط ضحايا في صفوف المدنيين حوادث عرضية، واصفين إياهم بالخسائر الجانبية للضربات الموجهة ضد أهداف عسكرية مختارة بعناية.
وأضافت إليزابيث: "لم يعد الأمر يبدو كأنه محض حادث، كذلك لم يكن اغتيال خاشقجي حادثاً هو الآخر".
أخبرت إميلي ثورنبيري، وهي مُشرِّعة بريطانية، الصحيفة الأميركية: "نحن نشهد تكرار السعودية النمط ذاته"، سواء في طريقة تستُّرهم على مقتل خاشقجي أو شنهم الغارات في الحرب اليمنية.
قالت إميلي، وهي عضوة في حزب العمال المعارض: "عند الإبلاغ عن عدد الضحايا المدنيين الكبير، تنكر السعودية في البداية صحة تلك التقارير، ثم تنفي مسؤوليتها. ولكن عندما تغدو الأدلة قاطعة، تصرح بأن ما حدث جريمة شنعاء؛ ومن ثم تدين عناصر مارقة، وتتعهد بمعاقبتهم وعدم تكرار ما حدث ثانية، حتى تحين المرة الثانية فتخل بعهدها".
وقال مسؤول كبير من البيت الأبيض في أثناء وجوده بالقاهرة إن العلاقات التي تجمع بين الولايات المتحدة والسعودية، والتي لطالما كانت وطيدة منذ أمد بعيد، ليست في أفضل أحوالها. وأضاف: "أعتقد أننا بحاجة إلى مزيدٍ من الشفافية بشكل عام"، بحسب الصحيفة الأميركية.
وفيما يتعلق بالصراع اليمني على وجه الخصوص، قال المسؤول إن الإدارة كانت "واثقة" بالمعلومات التي تقدمها السعودية. كما تحدث إلى مجموعة صغيرة من الصحافيين شريطة عدم الإفصاح عن هويته، للتعليق بِحُرية، قائلاً: "فيما يتعلق باليمن، نحن نتمتع بقدرٍ لا بأس به من الوضوح".
مجاعة قد تصل لنصف الشعب
يقود الصراع المستمر إلى أزمة إنسانية تفاقمت بدورها بشكل مطرد هذا العام (2018). وفي جلسة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الأسبوع الماضي، حذر مارك لوكوك، رئيس الشؤون الإنسانية بالمنظمة، أنه على الأقل 14 مليون يمني، أي ما يقرب من نصف سكان البلاد، على وشك الوقوع في مجاعة. وفرَّ أكثر من 3 ملايين من منازلهم بسبب تفشي وباء الكوليرا، في حين لقي الآلاف حتفهم بسبب أمراض يتعذر الوقاية منها.
أدانت الوكالات المعنيَّة بالإنسان التحالف بقيادة السعودية، لمساهمته في تلك الأزمة بشن حرب اقتصادية في اليمن. فقد ضُربت أكثر 18 ألف غارة جوية منذ أن بدأت الحرب، واستهدفت ثلث تلك الغارات المواقع المدنية، ومن ضمنها المزارع والأسواق ومرافق معالجة المياه ومحطات الطاقة والمستشفيات والعيادات ومستودعات الطعام ومواقع التخزين الأخرى، بحسب المشروع المستقل للبيانات في اليمن.
وفي غضون ذلك، فرض التحالف قيوداً على الاستيراد، مستهدفاً بالأخص ميناء الحديدة الخاضع لسيطرة المتمردين، وهو مَنفذ حيوي لواردات الطعام والوقود والعلاج وغيرها من الإمدادات إلى البلاد.
أدى نقص الوقود بدوره إلى ارتفاع أسعار النقل، ما جعل أسعار الطعام بعيدة عن متناول معظم اليمنيين. ولم يَسلم الحوثيون من الخطأ، بسبب فرضهم ضرائب باهظة على أعمال الاستيراد وعند نقاط التفتيش، بحسب الصحيفة الأميركية.
صرح جان إيغلاند، الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين، في بيان: "يتعرض اليمن منذ فترة طويلة للقصف والضربات الجوية ويخضع لأساليب الحرب الخانقة. ستكون المجاعة الجماعية نتيجة عرضية مهلكة للإجراءات التي اتخذتها الأطراف المتناحرة والدول الغربية التي تدعمها. أدت الطريقة التي تُشَن بها الحرب إلى خنق المدنيين بصورة ممنهجة، من خلال خفض الكميات المتوافرة بأسعار معقولة من الطعام لملايين الأشخاص".
طائرات التحالف قتلتهم
وبحسب الصحيفة الأميركية، لا تُجري أميركا أي إشراف مباشر على الغارات التي تشنها الطائرات التي يزودها جيشها بالوقود، أو فيما تُستخدم القذائف الأميركية التي تُزوَّد بها السعودية. يقول المسؤولون الأميركيون إنهم يلجاؤون إلى السعوديين للحصول على هذا النوع من المعلومات.
وبمعرض كلامه في أغسطس/آب 2018، قال مسؤول كبير بإدارة ترمب، إنه كان "من المحتمل" أن المدنيين قُتلوا بسبب الغارات التي شنتها الطائرات المزودة بالوقود من أميركا، "لكننا لا نعلم الحقيقة".
وأردف المسؤول: "كان يتعين علينا مطالبة السعوديين بتقديم معلومات لنا حول ما حدث، ولكنهم في المجرى الطبيعي للأحداث لا يقدمون أي شيء".
أتت تلك التعليقات في أعقاب الغارة الجوية التي شنها التحالف السعودي في أغسطس/آب 2018، على حافلة مدرسية؛ ما أسفر عن مقتل 40 تلميذاً بشمالي اليمن. عندما طالبت الأمم المتحدة بإجراء تحقيق مستقل، ردَّت إدارة ترمب بأنها فضَّلت السماح للسعوديين بإجراء تحقيقهم الخاص. وقال المسؤول: "دعونا نمنح السعوديين فرصة للاضطلاع بتحقيق ولنشاهد النتائج".
أعلن السعوديون في البداية، أن الحافلة كان على متنها متمردون حوثيون وأنها كانت هدفاً شرعياً، ووصفت الأطفال بأنهم خسائر جانبية. ولم تقبل تحمُّل مسؤولية ما حدث إلا بعد الضغط الدولي الذي غذَّته صور الجثث المتفحمة للأطفال.
أصدر محققو منظمة الأمم المتحدة تقريراً في أغسطس/آب 2018، يناشدون فيه الدول التوقف عن توريد الأسلحة التي يمكن استخدامها في الحرب؛ ما دفع منظمة العفو الدولية إلى إصدار بيان تحذر فيه الولايات المتحدة من أن "استمرارها في توريد الأسلحة إلى حلفائها السعوديين يعرضها للإدانة كطرف مساعد في جرائم الحرب"، وهو ما يضفي مزيداً من الأهمية على جودة المعلومات التي تقدمها السعودية إلى الولايات المتحدة.
لاحظ بعض النقاد بطش القيادة السعودية ذاته مصاحباً لحادثة مقتل خاشقجي والحملة اليمنية، ويستشهدون بشكل متزايد بما يقولون عنه يد ولي العهد السعودي النافذ محمد بن سلمان. وتتضح لهم أوجه التشابه بين طريقة رد السعوديين على تقارير سقوط ضحايا يمنيين ومقتل خاشقجي.
قالت المُشرِّعة البريطانية في إشارة إلى مقتل خاشقجي: "نحن نشهد النمط ذاته هنا، والذي ينمُّ عن استخفاف ولي العهد بعقول حلفائه، مستنداً إلى حقيقة أن أكاذيبه ستنطلي على العالم، وأنه ستتم تبرئته؛ ومن ثم يعاود الجميع مسيرة أعمالهم كالعادة بمجرد أن تخمد الضجة".