تشير الساعة إلى الـ12 ظهرًا، ما زال سعيد لم يتناول وجبة الفطور بعد، قضى سَحابة يومه مُتسكِّعاً بين شوارع مدينة سبتة شمالي المغرب الخاضعة للسلطات الإسبانية، بعد أن فر إليها خوفا من التجنيد الإجباري ، قبل أن يُعرِّج على مركزها ليَتسوَّل بعض القطع النقدية، مُتخفِّياً وراء نظارة سوداء وقُبَّعة رياضية في انتظار فرصة مواتية للعبور نحو أوربا عبر الهجرة السرية .
تَجاوزَ الـ17 من عمره بشهور قليلة، بعيداً عن بيت العائلة وفصل الدراسة. يحكي سعيد عن رحلة دخوله إلى ثغر سبتة بانتشاء كبير وابتسامة عريضة، "لِّي خوَّاف غير يَبْقى فدارْهُم (من الأفضل لغير الشُّجعان أن يَلزموا بيوتهم)، فتجربة الحْريكَ (الهجرة السرية) ليست سهلة بالمرة".
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي حاول فيها سعيد دخول المدينة المُحتلة، التي تُعدُّ جزءاً من إسبانيا؛ ومن ثم قِطعة من "الفردوس الأوروبي"، في انتظار الفرصة الملائمة للالتحاق بأوروبا ما وراء البحر الأبيض المتوسط.
قاصرون في سبتة.. التجنيد الإجباري هو السبب
تُطلِق السلطة المحلية لمدينة سبتة على سعيد والعشرات من القاصرين المغاربة اسم الـ"MENAS"، إنهم "الأطفال القاصرون غير المصحوبين بذويهم"، ظاهرة باتت تُؤرِّق مسؤولي المدينة ممن رصدوا تزايد أعداد القاصرين الفارين إلى المدينة منذ إصدار الحكومة المغربية قانون الخدمة العسكرية الإجبارية أواخر شهر أغسطس/آب 2018.
أديلا نييتو، مستشارة الصحة والشؤون الاجتماعية بسبتة، صرَّحت لوسائل إعلام بلادها، بأنَّ تصاعُد هجرة الشباب المغاربة في الآونة الأخيرة، يعود إلى قرار التجنيد الإجباري الذي صدَّق عليه المجلس الوزاري.
وزادت نييتو، أن أعداد الأطفال القاصرين المغاربة الذين يعيشون بالثَّغر عرفت ارتفاعاً بنسبة 54% منذ تاريخ إعلان المغرب العودة إلى فرض الخدمة العسكرية على الشباب، مُعبِّرة عن انزعاجها من أن تتحول سبتة إلى بُقعة لإيواء الفارِّين.
قبل أسابيع قليلة، تمكَّن سعيد من التسلُّل إلى المدينة المحتلة، وهو واحد من مئات نجحوا في الدخول إليها عبر وسائل وطرق شتى، منهم من يعيش حياة التَّشرُّد، أما آخرون فتضمُّهم مراكز إيواء مخصصة بقدرة استعابية لا تتجاوز 70 شخصاً، إلا أن المسؤولة الحكومية الإسبانية أكدت أن هذه المراكز باتت مكتظة بما يزيد على 300 قاصر مغربي.
الهجرة السرية نحو الفردوس الأوروبي
عبر مدينة الناظور، شرقي المملكة، حاول الطفل القاصر الدخول مراراً إلى مليلية عبر الهجرة السرية ، الخاضعة بدورها للحكم الإسباني، دون جدوى، إلى أن خطّط لطريقة أسهل وفق ما حكاه لـ "عربي بوست"، "الهروب صوب سبتة عن طريق بواباتها".
كان تجاوُز البوابة من الجانب المغربي أسهل، ليبقى التحدي الأكبر متمثلاً في تجاوز بوابة الطرف الآخر المكتظة برجال الشرطة الإسبان وكاميرات رصد ومراقبة في كل مكان، يحكي ابن مدينة سلا (القريبة من الرباط)، متابعاً: "انتظرت ساعات طويلة قبل أن يحُلَّ الظلام وتخِفَّ الحركة، ويقتصِر الحضور الأمني على قِلَّة داخل مخافر صغيرة لا يخرجون منها"، يقول اليافع الذي أكد أن "فَقرَه ومُحاكاة تجارب الأصدقاء دفعاه إلى هنا".
توتر كبير جعله ينزع الساعة من مِعصَمه، إنها العاشرة إلا ربع ليلاً، سيارة قادمة على مهل، توقَّفت رُويداً قرب الغرفة الصغيرة، ليتمكَّن صاحبها من الحصول على إذن مختوم بالدخول إلى المدينة. استغلَّ سعيد الفرصة، ليعدُو جهتها مُقوَّس الظهر مُنحنِيَ الجسد، وينطلق بمُحاذاتها في غفلة عن الكاميرات، التي لم يَهُمَّه كثيراً إن رصدته ما دام قد استطاع الوصول إلى السياج وتجاوُزه، إنه في مدينة سبتة الآن!
الهروب من التجنيد الإجباري نحو المجهول
الوضع بات مزعجاً إذن للسلطات الإسبانية بسبتة، وفق تصريحات رسمية، حيث شرعت الهيئات المعنيَّة في إحصاء القاصرين الذين وصلوا عبر الهجرة السرية وتدقيق هوياتهم وأماكن سكناهم لإعادتهم إلى ذويهم.
ويستعد المغرب لإعادة التجنيد الإجباري من جديد، بعد 12 سنة على إلغاء العمل به، حيث قرَّر الملك محمد السادس، بصفته القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب، عودة المغرب للتجنيد من جديد؛ ليتم إعداد مشروع القانون المنتظر عرضُه للتَّصويت في البرلمان بغُرفتَيه تنفيذاً للتعليمات الملكية، إلا أن المحامي والحقوقي أحمد أشكور يرى أن هجرة القاصرين إلى سبتة لا علاقة لها بالقانون الجديد.
وأبرز المتحدث لـ "عربي بوست"، أن الفئة المعنية بالتجنيد، والتي يتراوح عمرها ما بين 19 و25 سنة، يحذوها حلم الهجرة السرية من أجل تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية وتحقيق أحلامهم.
"الهيئات الإسبانية جانبت الصواب، ولعل تزاُيد أعداد القاصرين في سبتة يتزامن مع الرجة الأخيرة التي عرفتها الهجرة السرية خلال الأسابيع الماضية. أما الحديث عن التجنيد الإجباري، فلا يزال القانون خارج التنزيل، في حين لم يُشرع في استدعاء أيٍّ من المستهدَفين"، وفق تعبير المحامي بهيئة تطوان، المحاذية لمدينة سبتة المحتلة.
رأي آخر أبداه عبد العالي الرامي، رئيس منتدى الطفولة، معتبراً أن الطريقة التي اعتُمدت للترويج للخدمة العسكرية جعلت الشباب والقاصرين المغاربة يرون الهروب إلى المجهول أيْسر من التجنيد.
وأبرزَ الفاعل الجمعوي في مجال الطفولة، ضمن حديثه لـ "عربي بوست"، أن التجنيد يُرى باعتباره عقابا ً أكثر من كونه تأهيلاً وإعداداً لاحتياطي من الجنود المغاربة الذين يحملون قيماً نبيلة للجُنديَّة.
وقال المتحدث إن الإعلام الرسمي والمؤسسات العمومية المغربية لم تقُم بدورها في شرح قانون التجنيد الإجباري الذي واكبته العديد من الإشاعات، مُوضِّحاً أن الشباب المغاربة باتوا يتخوَّفون من كبح جماح حرياتهم عبر الخدمة العسكرية رغم نقاط النُّبل التي يحملها القانون.
لا يهتم سعيد كثيراً بالنقاش الدائر حول أسباب الهجرة السرية صوب المدينة، منتظراً اليوم الذي ستطأ فيه قدماه القارة الأوروبية، مترصداً الفرصة الملائمة للهجرة الكبرى صوب إسبانيا، فحتى سبتة التي يشتكي مسؤولوها من سعيد وأقرانه باتت نقطة عبور لا غير.