تزداد قناعة مسؤولي الاستخبارات الأميركية أكثر فأكثر، بأنَّ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان متورطٌ في مقتل جمال خاشقجي الصحافي المعارض، وهو تقييمٌ يفرض تحديات في وجه اعتزام البيت الأبيض الحفاظ على علاقة وثيقة مع المملكة، حسب تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.
وقال مسؤولون أميركيون وأوروبيون إنَّ وكالات الاستخبارات لم تتمكن بعدُ من جمع أدلة مباشرة على تورُّط الأمير. وووفقاً لأحد المسؤولين فإنهم لم يتمكنوا كذلك من استنتاج ما إن كان الأمير محمد بن سلمان أَمَرَ مباشرةً بقتل خاشقجي، أو ما إذا كان هدفه هو اعتقال خاشقجي وإعادته إلى السعودية.
لكنَّ وكالات الاستخبارات لديها أدلة ظرفية متزايدة على تورُّط الأمير محمد بن سلمان، منها وجود أفراد أمن هم من رجاله المقربين وعمليات اعتراض لمسؤولين سعوديين يناقشون خطة محتملة لاعتقال خاشقجي، وفقاً للمسؤولين الأميركيين.
وقال المسؤولون كذلك إنَّ سيطرة الأمير الكاملة على الأجهزة الأمنية تجعل إتمام العملية دون علمه أمراً مستبعداً للغاية.
الاستخبارات الأميركية تقيم ولي العهد وتقدم تقريرها للرئيس ترمب
وتُجهِّز وكالات الاستخبارات الأميركية تقييماً للأمير محمد بن سلمان، من أجل تقديمه للرئيس الأميركي دونالد ترمب. وتحدث عن هذا الأمر 6 مسؤولين، أمس الأربعاء 17 أكتوبر/تشرين الأول، فيما اختتم وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو زيارة إلى المملكة فشلت في تقديم حلٍّ دبلوماسي فوري للأزمة.
وقال المسؤولون إنَّ وكالات الاستخبارات تحاول الحرص على عدم تقييد خيارات السياسة المتاحة أمام البيت الأبيض، وأن تقتصر على طرح الحقائق حول القضية.
وتُمثِّل تقارير الاستخبارات عاملاً واحداً فقط من العوامل التي يتعيَّن على البيت الأبيض وضعها في الاعتبار عند اتخاذ القرارات في مسائل الأمن القومي. وقد يتجاهل ترمب التقييم السري حين يُقرِّر أي السياسات يعتقد أنَّها تخدم المصلحة الأميركية، أو حين يُقرِّر أنَّ المعلومات الاستخباراتية لم تقنعه.
ودفع ترمب بتفسيرٍ مفاده أنَّ ما يُسمَّى بقاتلٍ مارق، ربما كان مسؤولاً عن عملية القتل المشتبهة، لكنَّ تقييمات وكالات الاستخبارات قد تُقوِّض تلك النظرية، التي على أي حالٍ فقدت مصداقيتها على نطاقٍ واسع.
كان من المفترض أن تُشكِّل زيارة بومبيو إلى المملكة إرهاصات حلٍّ دبلوماسي.
لكن وفقاً لمسؤول كبير سابق بالإدارة ومُطَّلِع على المسألة، كان لقاء بومبيو الخاص، الثلاثاء الماضي 16 أكتوبر/تشرين الأول، مع الأمير محمد بن سلمان، بحضور عدد صغير من مساعدي كلا الطرفين، اعتيادياً بدرجة كبيرة، ولم يُوجِّه بومبيو تهديدات كبيرة أو يعطي مُهَلاً زمنية.
وقال المسؤول إنَّ بومبيو طلب محاسبةً على ما حدث، وبدوره قال الأمير الذي يُنكِر أي تورّط له في اختفاء خاشقجي إنَّ هناك تحقيقاً جارياً. وفي النهاية، دعا بومبيو السعوديين إلى إتمام التحقيق سريعاً وبشفافية، وفقاً لما ذكره المسؤول.
وفي مقرِّ وزارة الخارجية الأميركية بواشنطن، رفض بعض الدبلوماسيين الحديث حين سُئِلوا عن مهمة بومبيو في العاصمة السعودية الرياض.
سيكون على محمد بن سلمان تحمل المسؤولية
لكنَّ شخصاً مطلعاً على اللقاء قال إنَّ بومبيو أبلغ الأمير بصرامة خلف الأبواب المغلقة، أنَّه حتى لو لم يكن يعلم بما إذا كان خاشقجي قُتِل أم لا، فسيكون عليه تحمُّل المسؤولية لمساعدة المملكة على تجنُّب نتائج رد فعلٍ دولي.
يُذكَر أنَّ خاشقجي، وهو سعودي كان يعيش بولاية فرجينيا الأميركية ويكتب لصحيفة The Washington Post، دخل القنصلية السعودية في مدينة إسطنبول التركية، في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول، للحصول على وثائق قانونية قبيل زفافه المزمع. ولم يُرَ منذ ذلك الحين، وقال مسؤولون أمنيون أتراك سراً، إنَّهم يعتقدون أنَّ عملاء سعوديين قتلوا خاشقجي وقطّعوا جسده، وهو التفسير الذي يُزعَم أنَّه مدعوم بتسجيلٍ صوتي مروع لمقتله.
وقالت متحدثةٌ باسم الخارجية الأميركية، الأربعاء 17 أكتوبر/تشرين الأول 2018، إنَّ بومبيو لم يستمع إلى التسجيل. ونفى كبار المسؤولين السعوديين، بما في ذلك الأمير محمد بن سلمان والملك سلمان، مراراً، أن يكون لهم أي دور في اختفاء خاشقجي.
وفي الكونغرس، عبَّر بوب كوركر، السيناتور الجمهوري عن ولاية تينيسي ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، عن خيبة أمله إزاء رفض الإدارة مساعيه المتكررة للحصول على تقييمٍ استخباراتي بخصوص مصير خاشقجي.
وقال كوركر: "أظن أنَّهم لا يريدوننا أن نرى المعلومات الاستخباراتية".
ورفض بومبيو الحديث عن القضية علناً، فيما كان يهم بمغادرة الرياض الأربعاء.
وقال: "لا أريد الحديث عن أيٍّ من الحقائق. هم أيضاً لم يرغبوا في ذلك".
لكنَّ رده سرعان ما قُوبِل بالانتقاد.
وقالت سامانثا باور، التي تولَّت منصب سفيرة الولايات المتحدة بالأمم المتحدة إبَّان عهد الرئيس الأميركي السابق أوباما: "حقيقة أنَّ السعوديين "لم يرغبوا" في الحديث بشأن الحقائق أمرٌ متوقع، لكنَّ حقيقة أنَّ ممثل الولايات المتحدة لا يرغب في الحديث بشأن الحقائق تُعَد مهزلة".
وبعد ساعات، وفي طريقه عائداً إلى الولايات المتحدة، تناول بومبيو الانتقاد بشأن فشله في محاسبة السعوديين، قائلاً إنَّه يريد أن "يمنحهم المجال لإكمال تحقيقاتهم في تلك الحادثة".
وأضاف بعد توقفٍ قصير في العاصمة التركية أنقرة: "من المنطقي منحهم بضعة أيام أخرى لإكماله حتى يُتِمُّوه إتماماً صحيحاً، وحتى يكون تحقيقاً شاملاً وكاملاً".
وتابع: "هذا ما أشاروا إلى حاجتهم إليه، وسيكون علينا بعد ذلك أن نرى الأمر. وسُنقيِّم هذا على أساسٍ واقعي ومستقيم".
وقال إنَّ العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية مهمة لأسبابٍ استراتيجية ومالية.
قال بومبيو: "أعتقد أنَّه من المهم للجميع أن يضعوا في اعتبارهم أنَّ لدينا الكثير من العلاقات المهمة؛ علاقات مالية بين الشركات الأميركية والسعودية، وعلاقات حكومية، وهناك أمور نعمل عليها معاً في جميع أنحاء العالم".
سلوك بومبيو يختلف
وأمضى بومبيو أكثر من يومٍ بقليل في الرياض، حيث أظهرته لقطات الأخبار وهو يُومئ برأسه ويبتسم فيما كان الأمير محمد بن سلمان يتحدث. كانت تلك صورة مختلفة جداً عن صورة بومبيو حين كان عضواً في الكونغرس، يريد الدخول في صلب الموضوع مباشرةً، واستجوب هيلاري كلينتون بحدة عن الهجوم الذي وقع في 2012 على المجمع الدبلوماسي الأميركي في مدينة بنغازي الليبية، وأصبح بعدها بطلاً مُحافِظاً.
وقالت ويندي شيرمان، وهي مسؤولة سابقة كبيرة بالخارجية الأميركية: "من الواضح أنَّ أوامره هي الحفاظ على العلاقات الأميركية-السعودية بأي ثمن. لذا فإنَّ إشاراته الجسدية وتصريحاته تهدفان إلى تحقيق ذلك". لكن وفقاً لشيرمان "كان بإمكانه التهرُّب من الإجابة، أو إعطاء تصريحات بسيطة، أو قول إنَّ الحقائق مهمة، وإنَّ الولايات المتحدة ملتزمة بالوصول إليها، والخروج من هذا الموقف بصورة أفضل".
وفي البيت الأبيض، قال ترمب إنَّه "سيجري حديثاً طويلاً" مع بومبيو حول ما عرفه في السعودية وتركيا. وأضاف: "لقد أمضى وقتاً كثيراً مع ولي العهد، وسيكون لديه تقرير كامل".
وقال ترمب إنَّ السعودية "حليف مهم للغاية"، مشيراً إلى أنَّ المملكة تنفق مليارات الدولارات على الأسلحة الأميركية. وأضاف: "حين كنتُ هناك تعهَّدوا بشراء أشياء تصل قيمتها إلى 450 مليار دولار، وما قيمته 110 مليارات دولار من المشتريات العسكرية"، مُدَّعياً أنَّ هذه الطلبيات هي الأكبر في تاريخ العالم.
لكنَّ الأدلة المتزايدة على الغدر السعودي قابلت إدارة ترمب بأزمة كبرى في السياسة الخارجية. فالسعودية شريكٌ أساسي في جهود الإدارة لعزل إيران والحفاظ على أمن إسرائيل، كل هذا بالتزامن مع إبقاء أسعار النفط منخفضة.
وقال نيكولاس بيرنز، وكيل وزارة الخارجية الأميركية في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، إنَّ بومبيو "شخص جاد وواقعي"، والجمهور لا يعلم ماذا قال بومبيو خلف الأبواب المغلقة.
وأضاف: "لكن لدينا مصالح أهم على المحك، فلا يمكننا تحمُّل مواصلة الأمور مع السعودية كأنَّ شيئاً لم يكن. هذا وقتٌ يتعيَّن فيه أن نستخدم الشدة مع محمد بن سلمان، والتنكُّر لجريمة حكومته، ومعاقبة السعودية. إنَّ مصداقيتنا كدولة ديمقراطية على المحك".