يوم الأحد 14 أكتوبر/تشرين الأول أمر القضاء العسكري في الجزائر، بإيداع 5 جنرالات وعقيد، الحبس المؤقت في قضايا فساد، بعد أسابيع من تنحيتهم في إطار حملة التغييرات في الجيش الجزائري غير المسبوقة والتي بدأت في يونيو/حزيران الماضي تخت إشراف الفريق قايد صالح.
وقبل هذا القرار فإن مراحل إنهاء المهام وسحب جوازات السفر والمنع من مغادرة التراب الوطني والمثول أمام قاضي التحقيق للمحكمة العسكرية بالبليدة، وإيداع السجن المؤقت، تخفي أسراراً عميقة، لم يتسرب منها إلا ما يعتقد أنها حملة تطهير ضد الفساد.
لكن السياق السياسي الذي تمر بها الجزائر، جعل من التغييرات في الجيش الجزائري ، تتعدى الشأن العسكري المحض إلى السباق حول رئاسيات 2019.
هل وصلت رسالة قايد صالح ؟
طوال النصف الثاني من العام الجاري، كثف الجيش الجزائري مناوراته القتالية، بإشراف مباشر لنائب وزير الدفاع الوطني، قائد أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق قايد صالح .
كل المناورات، كانت ضخمة، استخدمت فيها الذخيرة الحية والوسائل الحربية الثقيلة، وفهمت على أنها رسائل قوية للخارج وبالضبط للجوار الإقليمي المتوتر، خاصة على الحدود الشرقية حيث الجيش المغربي يراقب بحذر.
لكن توالي الأحداث وتسارعها داخل المؤسسة العسكرية، بينا أن تلك التمارين الحربية حملت رسائل للداخل أيضاً ومفادها: "الضرب بيد من حديد لكل في من يفكر في تجاوز المربع المرسوم لحركة قدميه".
ففي ظل الظهور النادر جداً للرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي أنهكه المرض وما تبع ذلك من شغور في أعلى هرم السلطة المدنية، تنامت قوة قائد الأركان ونائب وزير الدفاع أحمد قايد صالح ، حسب متخصص في الشأن الجزائري، وبات قطباً صلباً من أقطاب صناعة القرار في الجزائر.
وما إن انتهى قايد صالح من إنجاز أكبر مناورة عسكرية حملت اسم "طوفان 2018″، شهر مايو/أيار الماضي، بالناحية العسكرية الثانية بوهران غرب البلاد، حتى بدأ التحضير لطوفان التغييرات في الجيش الجزائري التي ترسمت في أغسطس/آب المنقضي.
وغادرت قيادات عمرت طويلاً في الخدمة العسكرية (أكثر من 45 سنة) وفي مراكز المسؤولية المرموقة، أبرزها اللواء سعيد باي، مجاهد وقائد الناحية العسكرية الثانية منذ 2002، اللواء شريف عبد الرزاق خريج مدرسة القوات الخاصة وقائد الناحية العسكرية الرابعة لأكثر من 10 سنوات وأسندت له سنة 2016 قيادة الجهة الشرقية للبلاد بصلاحيات واسعة يشرف بموجبها على أزيد من 50 ألف عسكري من مختلف القوات، واللواء حبيب شنتوف قائد الناحية العسكرية الأولى التي تعتبر حامي ظهر العاصمة من الأخطار والانقلابات العسكرية.
طوفان التغييرات في الجيش الجزائري لم يرحم اللواء مناد نوبة، قائد سلاح الدرك الوطني الخاضع لسلطة وزارة الدفاع الوطني، ومسؤول الاستخبارات العسكرية اللواء لخضر تيرش، واللواء بوجمعة بودواور مدير المالية واللواء مقداد بن زيان مدير الموارد البشرية بالوزارة ذاتها.
وتواصلت العملية بإنهاء مهام ضباط سامين بالقوات الجوية وقوات الدفاع الجوي عن الإقليم والقوات البرية.
بينما لم تطرأ تغييرات على مستوى مديرية المصالح الأمنية (مديرية الاستعلامات والأمن سابقاً-المخابرات).
ما بعد الطوفان التغييرات في الجيش الجزائري ؟
في الثاني عشر من شهر سبتمبر/أيلول 2018، تنقل الفريق قايد صالح إلى ولاية بشار أقصى الجنوب الغربي للبلاد حيث قاد مناورة حربية سميت "اكتساح 2018".
بعدها بأربعة أيام صدرت مذكرة عن القضاء العسكري، تمنع خمسة ألوية من السفر مع سحب جوازات السفر الخاصة بهم، وتعلق الأمر باللواء شريف عبد الرزاق، اللواء لحبيب شنتوف، اللواء سعيد باي، اللواء بوجمعة بودواور واللواء مناد نوبة.
ومثل هؤلاء الجنرالات رفقة عقيد سابق في جهاز المخابرات، الأحد 15 أكتوبر/تشرين الأول أمام قاضي التحقيق للمحكمة العسكرية للبليدة (جنوب العاصمة)، ليتقرر وضعهم رهن الحبس المؤقت، وأتبعت قناة النهار التي انفردت بنقل الخبر عناوين "العاجل"، بعبارة "رئيس الجمهورية أمر بعدم التسامح مع الفساد".
وفي صبيحة اليوم التالي، توجه الفريق أحمد قايد إلى الناحية العسكرية الخامسة شرق البلاد حيث أشرف على مناورة ضخمة سميت بـ"ضحى 2018″ استخدم فيها طائرات حربية ومروحيات متطورة ومدرعات.
لا أحد تحدث عن الفساد
أمام حالة الذهول التي صاحبت إذاعة أخبار، وضع خمسة ألوية (جنيرالات) بتلك المسؤوليات التي شغلوها، طفت إلى السطح عديد الأسئلة عن أسباب هذه النهاية غير المسبوقة لضباط بهذا الوزن.
ولم يصدر عن وزارة الدفاع أو القضاء العسكري أو أية جهة رسمية أخرى، أي بيان يوضح أسباب سحب الجوازات ومنع السفر وإيداع الحبس الاحتياطي لهؤلاء، وتكفلت وسائل إعلام خاصة بنقل التسريبات للرأي العام وأرفقتها بأن السبب "هو الكسب غير المشروع والفساد المالي وامتلاك عشرات الشركات بأسماء أبنائهم".
وكان الفريق أحمد قايد صالح قد أرجع سبب التغييرات في الجيش الجزائري أثناء تعيين القائد الجديد للناحية العسكرية الأولى إلى مبدأ التداول على المناصب وقال "إن مقياس الجدارة ومعيار الاستحقاق، هما منارة الطريق الأصوب الذي نسلكه دون سواه، نحو تثبيت نهج التداول على الوظائف والمناصب، وجعله تقليداً عسكرياً راسخاً وسنّة حميدة".
وتحدث قايد صالح في اجتماع للهيئات المركزية لوزارة الدفاع منتصف سبتمبر/أيلول بلهجة مختلفة وقال "الإنسان المسؤول في أي موقع كان، ومهما كان مستوى المسؤولية التي يتحمل وزرها، يتعين عليه أن يتحمل نتائج أعماله بالتمام والكمال".
وتابع الرجل القوي "المسؤولية هي اختبار دائم للإنسان، هل يستطيع خلاله أن يؤدي ما عليه من مهام بكل أمانة ووفاء، وهل يستطيع خلاله أيضاً أن يكون دائم الالتزام بالقوانين السارية المفعول ومراعياً لضوابط المهنة العسكرية."
ويمكن أن يفهم من كلامه أن المتابعين من قبل القضاء العسكري في إطار التغييرات في الجيش الجزائري ، قد أخلوا بضوابط المهنة العسكرية ولم يلتزموا بالقوانين وعليهم تحمل نتيجة أعمالهم.
ما علاقة رئاسيات 2019
فرض السياق السياسي الذي تمر به الجزائر، ربط كل ما يجري داخل المؤسسة العسكرية بالرئاسيات المقبلة التي لم يتبق عنها سوى 6 أشهر، ويقابل هذا الطرح، تحليل آخر يحصر مجمل القضية في فضيحة استيراد 701 كلغ من الكوكايين بميناء وهران في 31 مايو/أيار 2018، وتهم تورط هذه الشخصيات العسكرية المرموقة مع المتهم الرئيسي كمال شيخي المدعو (البوشي).
وحسب مصادر خاصة بـ"عربي بوست"، فإن ملف حجز الكوكايين يحظى بمتابعة دقيقة من قبل أجهزة الاستخبارات الأميركية، لكون القضية مصنفة في خانة "الجريمة المنظمة والإرهاب"، وبموجب القانون تستطيع الولايات المتحدة فرض عقوبات على المتورطين وحتى محاسبتهم أمام القضاء الأميركي، وهو ما جعل هرم السلطة العسكرية يتحرك بسرعة وصرامة شديدة.
وفي السياق، أكد الصحافي المتخصص في الشأن الوطني، وليد أشرف "بأن قضية الكوكايين صنفت كتهديد على الأمن القومي، وتولت فرقة تابعة للقوات البحرية إيقاف وتفتيش وحجز السفينة المعبئة بالسلعة المحظورة، وهو ما سمح للجيش بالعودة إلى الواجهة والضرب بكل قوة ومحاسبة كل المتورطين مهما كانت منزلتهم وهذا هو سبب التغييرات في الجيش الجزائري ".
وتابع المتحدث لـ"عربي بوست"، أن "الفضحية ورغم صداها الهائل، استخدمت كوسيلة مناسبة لإبعاد أكبر عدد من الأشخاص الذين قد يصدر منهم أي إزعاج لعملية التحضير للرئاسيات المقبلة".
وأمام شح المعلومات الرسمية وحتى المسربة، تؤكد مصادر "عربي بوست" أن الجنرالات المحالين على الحبس الاحتياطي كانوا يريدون التأثير على مستقبل بوتفليقة في الحكم وتحديد خليفته.
وفي السياق أفاد مصدر أمني لـ"عربي بوست"، بأن منصب قائد الناحية، يتيح سلطة كبيرة وصلاحيات معتبرة، تتجاوز القبعة العسكرية، وقال "هل تعلم ما تعنيه قيادة ناحية عسكرية؟ إنها تعني أن كل السلطات المدنية بكامل إقليمها (3 ولايات فما فوق) تخضع لها وتسيرها كيف ما تشاء".
من هذا المنطلق يملك قائد الناحية العسكرية وزناً يمكنه من التحكم في مسار العملية الانتخابية بالإقليم الخاضع إليه.
وأوضح الخبير في الشؤون العسكرية، أكرم خريف أن " التغييرات في الجيش الجزائري التي لحقت كبار الضباط وإحالة خمسة منهم على القضاء العسكري، معادلة تحتوي على عدة مجاهيل".
وقال خريف لـ"عربي بوست"، أنه "لا أحد يعرف شيئاً عن الملف ولا التهم الموجهة للمعنيين وبالتالي لا نستطيع التأويل"، ليستطرد بعدم اعتقاده بأنها "مجرد حملة لمحاربة الفساد لكونها محصورة في خمسة أشخاص لا يجمعهم شيء في المؤسسة العسكرية وبالتالي نحن لسنا أمام شبكة".
وخلص المتحدث إلى اعتبار ما يجري "محاولة لترهيب قيادة الجيش حتى لا يكون لها كلام فيما بعد بوتفليقة".
وأياً كانت القراءات للزلزال الذي ضرب المؤسسة العسكرية، يعتقد أكرم خريف أن وضع خمس جنرالات ثلاثة منهم شغلوا مناصب قادة النواحي لسنوات طويلة الحبس المؤقت ومعاملتهم بتلك الطريقة "سابقة خطيرة لن تمر مرور الكرام، وقد تؤدي إلى إحداث شرخ داخل الجيش وخلق أزمة ثقة".