عواقب وخيمة ستجنيها الرياض بسبب مقتل خاشقجي.. كيف يمكن أن يكون لاختفاء صحافي سعودي تأثير عالمي؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/10/09 الساعة 15:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/10/09 الساعة 15:42 بتوقيت غرينتش
A demonstrator holds picture of Saudi journalist Jamal Khashoggi during a protest in front of Saudi Arabia's consulate in Istanbul

لم يكن جمال خاشقجي يحتاج إلَّا إلى إنجاز بعض الأعمال الورقية الروتينية. ففي 3 أكتوبر/تشرين الأول، وصل الصحافي إلى قنصلية السعودية في إسطنبول التركية لإنهاء إجراءات طلاقه، بينما انتظرته خطيبته بالخارج. إلا أنَّ خاشقجي لم يعاود الظهور  منذ دخوله القنصلية السعودية ، بينما تواترت تقارير بشأن مقتل جمال خاشقجي .

وعقب ذلك بثلاثة أيام، أعلنت السلطات التركية أنَّ لديها من الأسباب ما يدفعها للتصديق بأنَّ فريق أمن سعودي مؤلفاً من 15 فرداً أمعنوا في تعذيب الصحافي في جريدة Washington Post الأميركية وقتله وتقطيع جسده لأشلاء. ونقلت هذه المفاجأة المدوية الاختفاء المريب للصحافي إلى مستوى جديد هائل من الخطورة؛ مما سيسفر بالتأكيد عن تبعات في المنطقة بأكملها، يوضح تقرير لموقع Stratfor الأميركي.  

ليست مجرد تكميم لأفواه الصحافة الحرة

بيد أنَّ واقعة مقتل جمال خاشقجي -التي أعلنت تركيا أنها عملية قتل وحشية– ليست مجرَّد تكميمٍ لأفواه الصحافة الحرة، بل تتعلق أيضاً بالمدى الذي قد تذهب إليه السعودية لقمع المعارضين من بين مواطنيها، وكذلك العواقب واسعة النطاق التي ستنشأ عن مثل هذا التغير في السياسات.

وإذا ثبتت صحة فرضية تركيا، كيف سيردُّ الحلفاء الأساسيون للسعودية، من الولايات المتحدة إلى الدول الأوروبية الشريكة، على مثل هذا الفعل السافر المتمثل في ارتكاب عملية اختطاف خارج نطاق الدولة؟ وكيف سيستجيب المستثمرون الأجانب، القلقون بالفعل من النزعات المتقلبة للعائلة الملكية؟ وكيف ستردُّ تركيا العالقة في علاقةٍ متوترة بالفعل مع إحدى القوى السنية؟

هناك عدد من الأسباب التي قد تدفع شخصاً ما إلى إسكات خاشقجي

الصحافي المعروف في المملكة بعمله على مدى عقود في التحقيقات الصحافية وكتابة مقالات افتتاحية. وأثارت آخر كتاباته غضب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إذ انتقد خاشقجي فيها الجوانب القاسية لحملة الأمير الإصلاحية.                      

ولطالما أعرب خاشقجي عن اعتقاده بأنَّ الإصلاح ضروري ولكنه لا يكون مثالياً حين يكون مجرد نهجٍ بأوامر عُليا.

ولم يعارض خاشقجي المملكة في أهداف الإصلاح النهائية -إذ كان يتفق في العموم مع الكثير من الإصلاحات الاجتماعية التي استحدثتها المملكة- وإنما في قضية أصول هذه التغيرات الاجتماعية.

ففي السعودية، حيث ثقافة التسلسل الهرمي السائدة تفضل وجود قيادة مباشرة منعزلة، انتقد خاشقجي صميم القيم الوطنية السعودية، ليُغضِب بذلك العائلة الملكية التي هدد مشروعيتها، وكذلك المواطنين السعوديين العاديين الذين يعتمدون على هذا الهيكل من السلطة للتغلُّب على صعوبات الحياة اليومية.

وهذا ما جعله يتفرد بكونه صوتاً خطراً من بين الكثير من منتقدي العائلة الملكية السعودية.              

فهل انتقلت السعودية إلى مستوى جديد لإسكات المعارضة؟

إذا صح تقرير الشرطة التركية (إذ ما زال التحقيق مستمراً) بشأن مقتل جمال خاشقجي ، فقد انتقلت السعودية إذاً إلى مستوى جديدٍ من الفجاجة في جهودها لإسكات المعارضة -ومن الواضح أنَّها مستعدة لتجاوز حدود دولتها لفعل ذلك.

ورفضت السعودية تقرير الشرطة التركية الأولي رفضاً قاطعاً، ولكن إذا كانت الرياض قد أسكتت الصحافي بالفعل، أو إذا ظل الغموض يكتنف مكان وجوده؛ فسيترتب على ذلك عواقب وخيمة.        

كما أن للرياض مقصداً "واضحاً" من إسكات خاشقجي

أما على الصعيد الداخلي، فلدى السعودية مقصدٌ واضحٌ مفيد من مقتل جمال خاشقجي ، ثم إنكار أنَّها فعلت بذلك. إذ يعد احتمال أنَّ خاشقجي واجه نهاية عنيفة تحذيراً قوياً لكل من قد يسير على خطى هذا الصحافي، بعبارةٍ أخرى: انتقد المملكة وستواجه العواقب، وبالأخص إذا كان صوتك مسموعاً مثل خاشقجي. وإلى الآن، أيَّد بعض السعوديين بشدَّة نفي حكومتهم تورطها في اختفاء خاشقجي.

فعلى سبيل المثال، اتهمت وسائل إعلام سعودية وإماراتية قطر بترويج رواية الشرطة التركية حول مقتل خاشقجي داخل القنصلية، وهي الفكرة التي يؤيدها المواطنون السعوديون. ويتمتع كذلك ولي العهد -على الأقل إلى الآن- بما يكفي من سيطرة على الرسائل التي تصل إلى الداخل السعودي ليُشير بوضوح إلى العواقب التي تستتبع المعارضة والانشقاق، ويحافظ على دعم الناس.                  

فهل ستفلت المملكة بفعلتها؟

منذ وفاة الملك عبد الله في يناير/كانون الثاني من 2015، أصبحت السياسة الخارجية للمملكة السعودية جريئة، ويمكن القول حتى إنَّها جانحة، إذ تسعى الرياض لمواجهة الضروريات الداخلية الملحة للحفاظ على النظام الملكي قائماً. وفي كل مرة، أبدت السعودية استعداداً للمخاطرة بعلاقاتها الاقتصادية والخارجية، وأفلتت في العديد من المرات دون أي ضرر حتى بعد فشل سياساتها.

فعلى سبيل المثال، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي 2017، أجبرت السعودية رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري على التقدم باستقالته، ثم احتجزت المئات من رجال الأعمال والمسؤولين رفيعي المستوى في فندق ريتز كارلتون في حملة صارمة. ولكن بعد ذلك بأشهر قليلة، شوهد الحريري يلتقط صوراً مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وكذلك الكثير ممَّن كانوا محتجزين في فندق ريتز.

وقطعت الرياض علاقاتها التجارية مع شركات ألمانية حين انتقدت برلين تعاملها مع مسألة الحريري، وخفضت كذلك علاقاتها مع كندا وابتعدت عنها، وذلك على خلفية تغريدةٍ كتبتها وزارة الخارجية الكندية في أغسطس/آب الماضي علَّقت فيها على اعتقال ناشطين سعوديين.

إلا أنَّ ألمانيا استغلت اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة الأخير للتفاوض حول عودة سفير الرياض إلى برلين، بينما ما زالت كندا ملتزمة بصفقة تسليم أسلحة ضخمة للمملكة. وبالنسبة للرياض، فإنَّ تقديراتها بأنَّها قادرة على تحمُّل تكلفة قطع العلاقات مؤقتاً مع الدول الصديقة واستعادتها لاحقاً منطقية.              

لكن هناك خطراً أكبر تواجهه السعودية بسبب مقتل جمال خاشقجي

أما الخطر الأكبر الذي تواجهه السعودية من جرَّاء اتخاذها خطوات شرسة مقتل جمال خاشقجي لإسكات المعارضة -وزعزعة العلاقات الدولية في هذه الأثناء- هو التأثير الذي يُخلِّفه ذلك في المستثمرين الأجانب. وفي الوقت الحالي، تستميت السعودية لجذب استثمارات أجنبية. وإلى الآن، يعد حجم الاستثمار الأجنبي المباشر ضئيلاً مقارنة بالمستوى الذي ترغب السعودية في الوصول إليه لتنفيذ حملتها الإصلاحية الطموحة.

وحتى تاريخنا هذا، أعربت فرنسا والمملكة المتحدة وكندا والولايات المتحدة عن "قلقها" إزاء اختفاء خاشقجي، بيد أنَّه ما زال يتعيَّن عليها أنَّ تضغط بقوة على الرياض للإجابة عن بعض الأسئلة. وقد يراود الشركات الأجنبية التي تسعى لضبط تصرفات الحكومة السعودية أو التنبؤ بها الخوف على سلامة استثماراتها. وفي الوقت الذي تقيِّم فيه هذه الشركات المخاطر الجيوسياسية لتعزيز انخراطها في السعودية، ترغب في ضمان أنَّ الحكومة لن تتعامل معها بذات الطريقة المضطربة التي تتعامل بها مع مواطنيها وعلاقاتها الأجنبية.                       

كما قد يؤثر ذلك على علاقتها بحليفها الأبرز

وإلى جانب ذلك، قد لا يلقى تصرف السعودية ضد معارض خارج أراضيها رداً واحداً من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الصديقة، لكنَّه سيثير بالتأكيد رد فعل من الكونغرس الأميركي. وتُعزى الثقة المتزايدة للسعودية جزئياً إلى الغطاء السياسي الذي توفره لها علاقاتها المميزة مع الإدارة الأميركية الحالية. إذ يعتمد البيت الأبيض بقوة على السعودية في جهوده لاحتواء إيران عدوتهما المشتركة. وتسعى واشنطن كذلك لأن تتعاون السعودية معها للسيطرة على أسعار النفط.

لكن كلما تصاعد الجدل حول السياسات السعودية، ازداد احتمال إعادة الكونغرس تشكيل العلاقات الأميركية السعودية. وقد مرَّر مجلس النواب بالفعل اقتراحاً مقدماً من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول التصرفات السعودية في اليمن، لكنَّ الكونغرس عرقله. ولكن مع اقتراب الانتخابات النصفية الأميركية، يمكن أنَّ تجد السعودية نفسها قريباً في مواجهة تشريع أميركي أشد عداءً.                

وفي تصدع أكبر في العلاقات بين السعودية وتركيا

وعلى الصعيد الإقليمي، قد يتسبب مصير خاشقجي في تصدع العلاقات بين السعودية وتركيا، التي كانت تعمل سراً على استعادة السيطرة والنفوذ في العالم الإسلامي. وترى الرياض أنَّ تركيا تقترب أكثر من اللازم من قطر. ويتابع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التحقيقات عن كثب، وقد يستغل هذه المسألة لتعزيز مكانة تركيا كدولة إسلامية وسطية مقارنة بالسعودية.

وما زال من غير الواضح إلى أي مدى قد تستمر أنقرة في الدفع بهذه المسألة، خصوصاً في ظل وجود قضايا أخرى قد تسترعي مزيداً من الاهتمام السياسي والدبلوماسي لأنقرة، مثل الأزمة الاقتصادية التي تعانيها الدولة واتفاقيتها الهشة حول تشكيل منطقة منزوعة السلاح في سوريا.

والسؤال الأبرز، من أمر بتنفيذ عملية قتل جمال خاشقجي؟

وأخيراً، فاستخدام السعودية الجريء للقنصلية كمقرٍ لنشاطٍ أمني عقابي، متمثلا في مقتل جمال خاشقجي ، يُحدِث تغييراً جذرياً في طبيعة البعثات الدبلوماسية السعودية في كل مكان. ويثير كذلك تساؤلاً حول هوية من أمر بتنفيذ العملية المزعومة ولماذا. أمَّا الأسئلة حول ما إذا كان الملك سلمان متورطاً مباشرة في القرار أم لا فما زال دون إجابة.

ومن غير المعروف ما إذا كان ولي العهد هو من أمر بتنفيذ هذه العملية بمبادرة منه، أم كانت هناك بالأساس نية لاغتيال خاشقجي (في حال ثبتت صحة هذه الاتهامات)، إلا أنَّ الإجابات لهذه الأسئلة ستسفر عن عواقب وخيمة على مستقبل المملكة. ويمكن كذلك أنَّ تدفع هذه الأفعال الملك سلمان إلى محاولة تقويض استقلالية نجله.          

وأوضحت المملكة أنها ستحمي ضرورياتها الجوهرية حتى إذا كان الثمن باهظاً. وبالنسبة للمنتقدين السعوديين في كل مكان، فهناك خطر من أنَّ البعثات الدبلوماسية والقنصلية تصبح مناطق محفوفة بالخطر، وبخصوص العلاقات السعودية الخارجية، فستختبر هذه الواقعة مدى تسامح الدول الأخرى مع السياسات الخارجية الجريئة للرياض. ومع ذلك، فبخلاف مصير الصحافي المعارض، ستثير عملية إسطنبول في النهاية شكوكاً هائلة حول مستقبل السعودية السياسي والاقتصادي.   

تحميل المزيد