في هذه الأرض عاش البوذيون والمسلمون الروهينغا في سلام متجاورين، ولكن اليوم امتد التمييز إلى السكك الحديدية، ممثلاً في قطار الفصل العنصري.
يغادر القطار محطة سيتوي، عاصمة ولاية راخين الغربية في غرب ميانمار، ويبدأ ببطء في الرحلة التي تمر عبر 11 ميلاً (17.7 كم) إلى قرية زاو بو غيار (Zaw Pu Gyar)، المحاذية لمنطقة ريفية ممتدة حيث عاش البوذيون والمسلمون في مرحلة ما في الماضي بسلام بصفتهم جيراناً، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
لقد أصبح قطار الفصل العنصري وسيلة الروهينغا الوحيدة للتنقل عبر المناطق البوذية
هذه الأرض الآن باتت معروفة بالفصل العنصري وتحمل ندوب اشتباكات وحشية بين الطائفتين. وقد ظلت التوترات شديدة منذ أعمال الشغب العنيفة التي اندلعت عام 2012، عندما طُرد المسلمون الروهينغا من عاصمة الولاية ودُفِعوا للعيش إلى مستوطنات مؤقتة.
يمر هذا القطار، الأبعد مما يكون عن تمثيل حرية الحركة، بمخيمات تعمل تحت الرقابة الصارمة للدولة إذ تمتد بين جيبين بوذيين محظورين على المسلمين.
لقد أصبح القطار ذو اللونين الأحمر والكريمي المسافر بين جيبين بوذيين، ماراً عبر مخيمات الروهينغا في طريقه، رمزاً للفصل العنصري. يتكون القطار من عربةٍ واحدةٍ مقسمة إلى ثلاث مقصورات، حيث يقتصر وجود الركاب المسلمين على القسم الأوسط فحسب. ليس هناك علامات استرشادية، لكنَّهم ينصاعون بهدوء للقوانين تحت مراقبة الحراس المسلحين.
ومنذ شهر أغسطس/آب 2017، فر أكثر من 700 ألف من الروهينغا من المنطقة، والتمست الأغلبية العظمى منهم اللجوء إلى بنغلاديش المجاورة بعد الفظاعات التي ارتكبها ضدهم جيش ميانمار والمتطرفون البوذيون المحليون.
وأطفالهم يتضورون جوعاً بين الأبنية المتداعية للمخيمات
بالنسبة لحوالي 150 ألفاً من الروهينغا الذين بقوا في المنطقة، فقد صار الوطن يعني لهم سلسلة من الأبنية المتداعية المفصولة بمسارات طينية، حيث يجوع الأطفال الذين يعيشون في ظروف مزرية.
حين خرجت القاطرة الصغيرة من غابة الأمطار الموسمية وهي تعلو مسارات السكك الحديدية في الجزء الشمالي من سيتوي، لم يكن على متنها سوى أربعة رجال: السائق، وميكانيكي، ومُحصلا تذاكر.
يدخل أول الركاب بعد اجتياز القطار للجدران والأسلاك الشائكة التي ترسم حدود مستوطنة الروهينغا.
ورجال الشرطة المسلحون يقولون إنهم يحمون البورميين من البنغال
يتبع ثلاثة من رجال الشرطة المسلحين بالكلاشينكوف عن كثب حوالي عشرة من المسلمين المنتظرين على المحطة أو نحو ذلك، وكان الرجال من أصحاب اللحى الطويلة، والنساء يرتدين أغطية رأس زاهية الألوان.
وفي مرح شرح أحد قاطعي التذاكر ويدعى ثان مين كو: "الحراس هنا لكي لا تقع أي مشكلات مع المسلمين".
وأضاف: "ينبغي أن نحمي البورميين من البنغال"، مستخدماً المصطلحات الشائعة بين السكان البوذيين لوصف الروهينغا.
والمنطقة غير ودودة حتى مع البوذين من باقي أنحاء ميانمار
ويفضل قاطع التذاكر ذاك، المنتمي إلى عرقية البامار والذي أجبر على العمل سنتين في هذه المنطقة كجزء من عقد حكومي، العمل المريح في مدينة يانغون العاصمة السابقة لبورما، بدلاً من هذه المنطقة التي يصفها بأنَّها "غير ودودة مع الأجانب، حتى مع البامار البوذيين".
لكنَّ ذلك لم يمنعه من تبني الخطاب السائد ضد الروهينغا، حسب الصحيفة البريطانية.
كانت العداوة تجاه الروهينغا قد تعمقت خلال السنوات الأخيرة. ويعتقد الكثير من سكان راخين أنَّ الروهينغا مهاجرون غير شرعيين جاؤوا من بنغلاديش ويرجع ذلك إلى حقيقة أنَّ بعض الروهينغا يعود أصلهم إلى البنغال، التي هاجر الكثير من الناس منها خلال سنوات الاستعمار البريطاني.
والمسلمون الروهينغا يتحملون قطار الفصل العنصري لأنه سبيلهم الوحيد للقمة العيش
ويكرر هذا القطار، حيث يُحصر المسلمون في المقصورة الوسطى بعيداً عن الركاب البوذيين، الفصل العنصري المتنامي في ولاية راخين.
لكنَّ الروهينغا يتحملون دفعهم من رجال الشرطة المسلحين، لأنَّ قطارالفصل العنصري يعطيهم فرصة للوصول إلى أحد الأسواق على طول الخط.
وينبغي امتلاء المقصورة قبل أن يسمح لرجل مسلم بالوقوف تحت الرقابة الصارمة في الجزء البوذي.
يسافرون عبر القرى العديدة المحاطة بمراكز للشرطة قبل الوصول إلى دار بينغ، التي تعتبر نقطة التقاء شهيرة. وبينما يتباطأ القطار، يصطف الركاب وينتظرون إعلان قاطع التذاكر التوقف قبل عبور العربة للنزول.
ينزل معظم الركاب هنا لأنَّ هذه القرية تستضيف سوقاً متواضعة حيث يمكن للروهينغا التجارة بأي سلع صغيرة كانوا قادرين على إنتاجها داخل حدود المخيمات.
ومع ذلك، فالغالبية العظمى منهم تعتمد على المساعدات الخارجية التي تقدمها المنظمات غير الحكومية التي تعمل تحت رحمة سلطات ميانمار ولوائحها الصارمة.
وبعد أن كانوا يشكلون 40 % من السكان، باتت المدينة خاوية من آثارهم
شَكل الروهينغا في الماضي 40٪ من السكان في سيتوي، لكنَّ المتاجر التي كانوا يديرونها قد أغلقت أو دمرت. ولن يرى السائح الذي يمر عبر المدينة اليوم أي آثار للطائفة المسلمة لولا المسجد المسور في وسط المدينة.
ويعد طريق السكك الحديدية، المار بالمدينة إلى القرية البوذية عبر مخيمات الروهينغا، خدمة القطارات الوحيدة العاملة في ولاية راخين.
ويمر قاطع التذاكر بين كل محطة، خلال المقصورة ويجمع أجرة 100 كيات (0.07 دولار) من الركاب الجدد، مضيفاً رسوماً إضافية في حال وجود أمتعة.
ولا ينالون حتى تذاكر من قطار الفصل العنصري بل علامات ترسم على أيديهم
وتمشياً مع الخصوصيات البيروقراطية للبلاد، فإنَّ التذاكر الورقية تظل مع قاطع التذاكر قبل أن يعدها من جديد موظف آخر لدى وصوله، ثم ترسل إلى العاصمة نايبيداو. وبدلاً من التذاكر، يحصل الركاب على علامة بالقلم الأزرق على أياديهم.
وأثناء مرور قطار الفصل العنصري بمخيم باو دو فا للاجئين تمكن رؤية صف من القوارب الخشبية مستقرة في الحقول. هذه القوارب التي كانت ذات يوم للصيد، أصبحت الآن حطاماً مهجوراً يمنع استخدامه لأغراض تجارية.
ولو اُستخدمَّت تلك القوارب مرة أخرى، فمن المرجح أنَّها سوف تكون للمساعدة في الهروب اليائس لبنغلاديش أو ماليزيا.
ينبغي أن يغادروا، ولكن المشكلة فيما يسمى حقوق الإنسان
يتوقف القطار على حافة قرية زاو بو غيار البوذية، وينزل آخر الركاب في المحطة المتداعية، ويفترق البوذيون والمسلمون دون النظر حتى لبعضهم بعضاً.
وقال قاطع التذاكر: "هذه قرية من قرى راخين. لا مشكلات هنا. لكن بجانبها مباشرة قرية بنغالية لذا فينبغي لنا الحذر".
ورداً عن سؤال حول ما يخبئه المستقبل للمنطقة، هز قاطع التذاكر كتفيه قائلاً: "ينبغي أن يغادروا -الروهينغا- وينبغي أن نُبعدهم. لكن لا يمكننا فعل أي شيء ضدهم بسبب الأمم المتحدة وما يسمونه (حقوق الإنسان)".
في الوقت الحالي، كل ما يمكنه فعله هو التوقف بمتجر محلي لاحتساء الشاي بينما ينتظر القطار لساعة ونصف. وقال قاطع التذاكر، بينما استرخى على كرسي بلاستيكي وأخذ يمضغ جوز التنبول في فمه: "تمنح هذه الاستراحة الجميع وقتاً كافياً لإنهاء أعمالهم قبل العودة".
والحكومة لا تريد إصلاح الجسر من أجل القطار لأنه لا يوجد بوذيون بعده
وحتى العام الماضي 2017، كان الخط يستمر لخمسة أميال أخرى. لكنّ انهيار الجسر الذي كان مشيداً فوق مجرى مائي خارج القرية قد حجب هذا الامتداد الأخير.
يقول أحد العاملين في منظمة غير حكومية إنَّ السلطات لا ترى فائدة من إعادة الخط إلى العمل مرة أخرى لأنَّه لا توجد قرى بوذية أخرى على طول الطريق. ويقول آخرون ببساطة إنَّه لا توجد ميزانية لإصلاح الجسر.
وفي الوقت الحالي، ينتظر قطار الفصل العنصري في هذه المحطة التي تبدو عشوائية، والواقعة على بعد ثلاث ساعات مشياً من أي طريق مرصوف، قبل العودة من الطريق الذي جاء منه، مع الركاب أنفسهم إلى النقطة التي بدأوا منها رحلتهم.
ويشرح قاطع، مع ظهور الباغودا (المعابد البوذية) الموجودة في سيتوي في الأفق وتوقف القطار للمرة الأخيرة في رحلة العودة: "وراء هذه النقطة، ليس هناك المزيد من البنغاليين. هم ممنوعون في المدينة".
وتخترق أشعة الشمس السحاب بينما يغادر آخر الركاب المسلمين القطار ويعبرون القضبان في طريق عودتهم لمخيمهم، في طريق محاط بالأسلاك الشائكة من الجانبين.