حين اختفى جمال خاشقجي بعد دخوله القنصلية السعودية في إسطنبول، الأسبوع الماضي، بالكاد فاجأ ذلك السعوديين المقيمين خارج البلاد، إلى أن قال المسؤولون الأتراك إنَّهم يعتقدون أنَّ خاشقجي قُتِل.
ففي الوقت الذي دفع فيه وليّ العهد محمد بن سلمان برؤيته لتحديث السعودية، أظهر ضيقاً متزايداً بالنقد. فسجن ناشطات في مجال حقوق المرأة، واعتقل رجال أعمال وأمراء منافسين، وتجاوز حدود بلاده إلى خارجها لإبقاء المغتربين السعوديين ملتزمين بخط الدولة، ما أثار بدرجةٍ كبيرة مخاطر إعلان الآراء، حتى في البلدان الأجنبية، وفق تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.
حتى إن الأمثلة طالت مَن في الخارج، كانت ناشطةٌ سعودية في مجال حقوق المرأة تقود سيارتها بدولة الإمارات العربية المتحدة حين أُوقِفَت من جانب ضباط الأمن، ووُضِعَت على متن طائرة متجهة للسعودية، ثُمَّ سُجِنَت.
وفي كندا، حين رفض طالبٌ سعودي التوقُّف عن نشر مقاطع فيديو على موقع يوتيوب ينتقد فيها حكام المملكة، سُجِن اثنان من إخوته الموجودين داخل البلاد.
ولا يزال من غير الواضح ماذا حدث مع خاشقجي، الذي لم يُرَ منذ دخل القنصلية الثلاثاء الماضي 2 أكتوبر/تشرين الأول.
ويقول المسؤولون الأتراك إنَّ عملاءً سعوديين قتلوه وقطَّعوا جثته. لكنَّ المسؤولين السعوديين ينفون ذلك، قائلين إنَّ خاشقجي غادر القنصلية بعد فترةٍ قصيرة من وصوله.
المعارضون السعوديون يعتقدون أن الرياض استهدفت خاشقجي بسبب نقده وعلاقاته الدولية
المعارضون السعوديون في الخارج ليس لديهم أدنى شك في أنَّ حكومتهم استهدفت خاشقجي بسبب مكانته. فكان خاشقجي، المقيم في الولايات المتحدة، يظهر بانتظام على شاشات التلفاز ويسهم بأعمدة رأي في صحيفة The Washington Post الأميركية.
وقال غانم الدوسري، المعارض القديم في لندن، الذي يملك عدداً كبيراً من المتابعين على الشبكات الاجتماعية: "هذه رسالة واضحة جداً، مفادها أنَّ أيادينا يمكن أن تطالكم أينما كنتم".
وفي حال وُجِد أنَّ عملاء سعوديين قتلوا خاشقجي، فإنَّ أصداء هذا قد تُخرِّب علاقات السعودية الدولية، بدءاً من جارتها تركيا.
وطالب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أمس الإثنين 8 أكتوبر/تشرين الأول، السعوديين بإثبات ادعائهم بأنَّ خاشقجي غادر القنصلية. وكان خاشقجي ذهب إلى القنصلية للحصول على بعض الوثائق التي كان يحتاجها لإتمام زواجه.
ووفقاً لوكالة الأناضول شبه الرسمية، قال أردوغان في مؤتمر صحافي بالعاصمة المجرية بودابست: "إن كان غادر، عليكم إثبات ذلك بالصور".
ويمكن أن يُقوِّض موت خاشقجي علاقات السعودية بإدارة ترمب، التي أقامت علاقاتٍ وثيقة مع القيادة السعودية.
وقال الرئيس الأميركي دونالد ترمب للصحافيين أمس الإثنين: "أشعر بالقلق حيال ذلك. لا أحب سماع هذا. آمل أنَّ يُسوَّى الأمر سريعاً. في الوقت الراهن لا أحد يعلم أيَّ شيءٍ حول الأمر، لكنَّ أنباءً بالغة السوء تنتشر في الأرجاء. لا أحب هذا".
ودعا وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الحكومة السعودية إلى "دعم تحقيقٍ شامل في اختفاء خاشقجي، وأن يتمتَّعوا بالشفافية بشأن نتائج التحقيق".
خاصة أن ولي العهد السعودي لا يتحمل أي نمط من أنماط النقد على الإطلاق
ودفع وليّ العهد محمد بن سلمان (33 عاماً)، وهو الحاكم الذي يُسيِّر شؤون المملكة اليومية، باتجاه تحرير المجتمع السعودي عن طريق السماح للنساء بقيادة السيارات، وإضعاف الشرطة الدينية (هيئة الأمر بالمعروف) التي كانت قوية في السابق، وتوسيع فرص المرح عن طريق السماح بإقامة الحفلات ودور السينما.
لكنَّ تلك الإصلاحات صاحبتها قبضة استبدادية أقوى حاولت إسكات المنتقدين داخل وخارج البلاد.
وبالفعل، شعر الكثير من المعارضين السعوديين المقيمين بالخارج بضغط الحكومة.
ففَقَد البعض المنح الدراسية الحكومية، في حين أُغري آخرون للعودة إلى البلاد، ليجدوا الاعتقال أو التهديد إن لم يلزموا الصمت.
والبعض الآخر اعتُقِل أقاربه أو مُنِعوا من السفر. وقال عددٌ منهم إنَّهم يتجنَّبون السعوديين الآخرين في الخارج الآن خوفاً من الجواسيس، وإنَّهم لا يسافرون إلى أيِّ بلد عربي آخر، خشية تعرُّضهم للاعتقال والترحيل إلى السعودية.
قال عمر عبدالعزيز، المعارض المقيم في كندا: "إنَّهم لا يكترثون بما إذا كنت مشهوراً أو لديك متابعون كثر أم لا. إن انتقدتنا، حتى ولو قليلاً، سنلاحقك".
ولا يمثل المعارضون معارضةً مُنظَّمةً ومتجانسة، بل هناك عدد صغير من النشطاء والكُتَّاب وروَّاد الشبكات الاجتماعية من شرائح مختلفة يُعبِّرون عن آرائهم حيال مجموعة من القضايا. ويتراوحون بين أولئك الذين ينادون بإسقاط المَلَكية، وحتى أولئك الذين يرغبون في مزيدٍ من الحريات داخل النظام الحالي.
برز اسم لجين الهذلول، وهي ناشطة جريئة في مجال حقوق المرأة، في 2014 حين سُجِنَت لمدة 73 يوماً بسبب محاولتها قيادة سيارتها إلى داخل السعودية قادمةً من الإمارات، حيث كانت تعيش.
وقال أصدقاؤها إنَّ الحكومة حاولت في مناسباتٍ عدة بعد ذلك إسكاتها أو اعتقالها أو استجوابها. لكن في مارس/آذار الماضي، أوقفتها سيارات مليئة بضباط الأمن على الطريق السريع في الإمارات، حيث كانت تدرس للحصول على درجة الماجستير. قيَّدوها، واقتادوها إلى المطار، ووضعوها على متن طائرة خاصة مُتَّجهة إلى السعودية، وهناك سُجِنَت لبضعة أيام.
كان زوجها فهد البتيري، وهو ممثل وكوميدي سعودي مشهور، يُمثِّل في مشروعٍ بالأردن. اعتقلته قوات الأمن هناك. ووفق بعض الأصدقاء، قيَّدوه، وعصبوا عينيه، ووضعوه على متن طائرة متجهة للسعودية.
وقالت منال الشريف، وهي ناشطةٌ وصديقة للزوجين، عبر الهاتف من أستراليا حيث تعيش الآن: "الأمر كما لو أنَّك لست بمأمن. فيمكن أن تُعتَقَل في أيِّ مكانٍ وتُرحَّل بالقوة".
وبعد إطلاق سراحها، بقيت لجين هادئةً، إلى أن اقتحم ضباط الأمن منزلها في مايو/أيار الماضي واعتقلوها كجزءٍ من موجة اعتقالات لنساءٍ دافعن عن حق قيادة المرأة للسيارة. لا يزال معظمهن محتجزات، وليس واضحاً إن كُنَّ اتُّهِمن رسمياً بأي جريمة.
انتهى زواج لجين، وحذف البتيري حسابه على موقع تويتر، وكان يكتب في سيرته الذاتية بالحساب أنَّه فخور بكونه زوجاً للجين. وفي يوليو/تموز الماضي، بلغت عامها الـ29 وهي داخل السجن.
قالت منال: "أرادوا تحطيمها؛ لأنَّها امرأةٌ قوية جداً".
ولم تستجِب الحكومة السعودية لطلبٍ من أجل التعليق على مساعيها لإسكات المعارضين في الخارج.
حتى إن ولي العهد لا يجد غضاضة في استهداف النساء السعوديات بالاعتقال والتنكيل
وليّ العهد قال، في مقابلةٍ مع وكالة Bloomberg الأميركية الأسبوع الماضي، إنَّ بعض النساء المعتقلات كُنَّ يُسرِّبن المعلومات بشأن المملكة إلى أجهزة استخبارات قطر وإيران، وكلتاهما دولتان تُعتبران من أعداء المملكة.
وأضاف أنَّ التغيير في السعودية لن يأتي دون "ثمن"، تماماً مثلما لم يأتِ إنهاء العبودية في الولايات المتحدة إلا بحربٍ أهلية عنيفة.
وتابع: "هنا، نحاول التخلُّص من التطرُّف والإرهاب دون حربٍ أهلية، ودون وقف نمو البلاد، وفي ظلِّ تقدُّمٍ مستمر بكل العناصر. لذا إن كان هناك ثمنٌ صغير في هذا المجال، فهذا أفضل من دفع دَينٍ كبير للقيام بتلك الخطوة". وأضاف: "نحاول التأكُّد من عدم تعرُّض أي أحدٍّ للأذى قدر الإمكان".
استخدمت المملكة أساليب مختلفة ضد عمر عبدالعزيز، المعارض المقيم في كندا. فوفقاً له، ألغت الحكومة منحته الدراسية بعدما بدأ ينتقد قادة المملكة على الشبكات الاجتماعية حين كان طالباً جامعياً. وأُبلِغ بالعودة إلى المملكة لتسوية تلك المشكلة، لكنَّه تقدَّم بطلب لجوءٍ سياسي عوضاً عن ذلك، وحصل على ذلك في 2014.
ومنذ ذلك الحين، بنى عمر قاعدة متابعة كبيرة لفيديوهاته على موقع يوتيوب، التي يسخر فيها من قيادة المملكة وينتقد سجلها الحقوقي.
وقال إنَّ ممثلين عن المملكة حاولوا دفعه للتوقف عن نشر فيديوهاته والعودة إلى المملكة، لكن حين رفض ذلك، اعتُقِل اثنان من إخوته وعدد من أصدقائه في السعودية.
وفي أغسطس/آب الماضي، خلُص باحثون بمعهد Citizen Lab بجامعة تورونتو الكندية إلى أنَّ مخترقي إنترنت يعملون في السعودية تسلَّلوا إلى هاتفه الخلوي باستخدام برنامج مُشترى من شركة إسرائيلية.
وذكر تقريرٌ من المعهد أنَّ المُخترِقين كان لديهم إمكانية للوصول إلى "سجل أرقامه، وصوره العائلية الخاصة، ورسائله النصية، ومكالماته الصوتية الحية من تطبيقات التراسل الهاتفية الشهيرة". وكان بمقدورهم تفعيل كاميرته وميكروفونه لاعتراض محادثاته وأنشطته الأخرى.
وكان عبدالعزيز (27 عاماً) مندهشاً بمدى سعي الحكومة لإسكاته.
وقال: "نعم، كنتُ أنتقد النظام. كنا نتطلَّع إلى حرية التعبير، وكنا نتطلَّع إلى حقوق الإنسان. لكن أن تمتد إلى عائلات المعارضين، وتخترق هواتفهم، وتخطف الصحافيين، هذا جنون".
وأضاف: "أنا مجرد رجل لديه حساب بموقع تويتر وقناة على موقع يوتيوب. إذاً لماذا يخشاني محمد بن سلمان، الذي يُعَد أحد أقوى الرجال في العالم؟!".