بدا جمال خاشقجي، الصحافي السعودي الذي قضَّت كتاباته مضاجع قادة بلاده، هادئاً في الأيام التي سبقت اختفاءه بعد زيارة القنصلية السعودية هنا، في إسطنبول، غير عابئ بشأن تعقّب الجواسيس الحكوميين له، وظلَّ كثير التجوّل، كما هي حاله دائماً، على الرغم من إصابته بالبرد.
ويضيف تقرير صحيفة The Washington Post الأميركية، أنه اعترض أثناء وجوده في لندن لحضور أحد المؤتمرات، على عرضٍ كي يقيم في فندق متواضع بدل الإقامة في الفندق الذي حجزه المُنظِّمون (لإشعاره براحة أكبر بعيداً عن التركيز والضغوط). وخلال استراحة الغداء، ترك هاتفه المحمول بإهمال شديد على الطاولة، لدرجة أنَّ أحد أصدقائه أحسَّ بضرورة إبقائه تحت ناظرَيه.
وقال صديقه عزام التميمي، إنَّ خاشقجي بدا أكثر تركيزاً على المستقبل، فقد كان يتحدث عن تأليف كتابه الثالث وفرحته الغامرة بحفل زفافه الوشيك. وقال التميمي إنَّ خاشقجي أخبره عن موعده في القنصلية السعودية في إسطنبول صباح الثلاثاء 2 أكتوبر/تشرين الأول الأسبوع الماضي. فقد كان عليه إثبات أنَّه مُطلَّق حتى يتمكن من الزواج مرة أخرى.
وأضاف التميمى: "قال (خاشقجي) لا داعي للقلق، وكان شديد التفاؤل. وقال إنَّه لقي معاملة طيبة في زيارةٍ سابقة للقنصلية. وإنَّهم رحّبوا به ترحيباً حاراً ووعدوه باستيفاء أوراقه. وأخبرني أنَّ الموظفين في القنصلية كانوا مجرد أشخاص عاديين. وأنَّه لن يواجه أي مشكلة".
لكنَّ ما حدث بعد دخول خاشقجي القنصلية يُمثِّل لغزاً؛ إذ قال المسؤولون الأتراك على مدار اليومين الماضيين، إنَّهم يعتقدون أنَّ عملاء سعوديين قتلوه بعد فترةٍ وجيزة من دخوله. وسبَّبت الادعاءات التي تردد صداها في جميع أنحاء العالم -بما في ذلك الادعاء بأنَّ فريقاً من الرجال أُرسِلوا من السعودية لقتله- صدمة لأصدقائه وأثارت ذعر منتقدين آخرين للحكومة السعودية.
ونفت السعودية بشدة هذه الاتهامات، قائلةً إنَّ خاشقجي غادر القنصلية بمفرده. وأشار متحدث رسمي سعودي إلى أنَّ خاشقجي زار السفارة السعودية في واشنطن عدة مرات في الماضي، و"لم يواجه أي مشكلات أثناء زياراته".
شعور زائف بالأمان
يقول أصدقاؤه إنَّ الزيارات الودية للسفارة السعودية ربما منحت خاشقجي شعوراً زائفاً بالأمان. وكان يفتقر كذلك إلى ردود الفعل التلقائية الحمائية التي يتمتع بها المعارضون؛ فقد قضى خاشقجي حياته المهنية جزءاً من المؤسسة السعودية، واستقرَّ في مؤساساتها الحاكمة، ولم يُنظَر له باعتباره مُنتقِداً لقيادة البلاد إلا مؤخراً.
ويقول بعض أصدقائه إنَّه عندما سافر إلى إسطنبول في أوائل سبتمبر/أيلول الماضي، كان مشغولاً بزواجه الوشيك من خديجة جنكيز، وهي سيدة تركية كان قد التقى بها قبل بضعة أشهر، وكان يفكر في اتخاذ إجراء دائم يستطيع من خلاله تقسيم وقته بين تركيا والولايات المتحدة.
وقال أصدقاؤه إنَّه زار القنصلية السعودية في 28 سبتمبر/أيلول، وقِيل له إنَّ عليه العودة الأسبوع التالي لتسلّم أوراقه. وغادر إسطنبول بعد ظهر ذلك اليوم وسافر مباشرة إلى لندن، حيث تحدَّث في مؤتمرٍ استغرق يوماً واحداً في 29 سبتمبر/أيلول نظَّمته Middle East Monitor، وهي منظمة رقابية صحافية غير ربحية تُركِّز على القضايا الإسرائيلية – الفلسطينية.
قال داوود عبدالله، مدير المنظمة، في مقابلةٍ، إنَّه كان يعرف أنَّ خاشقجي "تحت ضغط كبير من النظام السعودي"، وأضاف عبدالله أنَّه سأل خاشقجي عما إذا كان سيشعر بارتياح أكبر بإقامته في فندق متواضع، وليس في الفندق الذي حجزه منظمو المؤتمر.
لكنَّ خاشقجي قال إنَّ الترتيبات الأصلية كانت جيدة، وقضى مساء الجمعة 28 سبتمبر/أيلول حتى بعد ظهر الإثنين الأول من أكتوبر/تشرين الأول في فندق Ambassadors وسط لندن.
قال عبدالله: "كان يشعر بارتياح كبير بشكل عام".
"كان يشعر بالسعادة
ركَّز المؤتمر الذي انعقد تحت عنوان "Oslo at 25: A Legacy of Broken Promises" (اتفاق أوسلو في الذكرى الـ25.. إرث من الوعود الكاذبة) على الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، والاحتلال العسكري الإسرائيلي، والفشل الدبلوماسي في إقامة دولتين.
وفي كلمته، تحدث خاشقجي عن تحسُّن العلاقات السعودية مع إسرائيل في الآونة الأخيرة. وشدَّد على أنَّه ينبغي أن يكون الفلسطينيون هم مَن يقررون مستقبلهم، وليس مصر أو السعودية أو غيرهما من القوى الخارجية.
وقال التميمي، وهو مُحاضِر فلسطيني – بريطاني ومقدِّم برامج في قناة الحوار الفضائية، إنَّ خاشقجي كان يعاني من البرد الشديد يوم الأحد 30 سبتمبر/أيلول ولم يغادر الفندق الذي يقيم به.
وانضم خاشقجي يوم الإثنين إلى التميمي في مكتبه بغرب لندن. وتناقشا حول اجتماعهما في إسطنبول هذا الأسبوع، حيث كان من المقرر أن يظهر خاشقجي في برنامج التميمي الحواري يوم الخميس 4 أكتوبر/تشرين الأول. وخرجا لتناول طعام الغداء.
وقال التميمي: "كان يشعر بالسعادة؛ لأنَّه كان سيتزوج".
وقال أصدقاء خاشقجي وخطيبته خديجة إنَّه عاد إلى إسطنبول يوم الإثنين. وقالت خديجة إنَّه عند حوالي الساعة الواحدة والنصف مساء يوم الثلاثاء، عندما كان يستعد لدخول القنصلية، ساوره شعورٌ مزعج بالقلق من أنَّ شيئاً ما قد يحدث أثناء وجوده في الداخل، حلّ محل شعوره بالفرح والتفاؤل الذي استشعره أصدقاؤه في لندن.
وقد ترك هاتفه مع خديجة، وأوصاها بالاتصال بمسؤول تركي كبير إذا لم يخرج في غضون ساعات قليلة.
قالت خطيبته: "كان قلقاً".