بعد الاتفاق الذي توصل إليه مع روسيا بشأن مسألة إدلب لا يزال الوضع في سوريا محل اهتمام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان.
في الوقت الراهن، بات الرئيس التركي يولي أهمية قصوى لمنطقة شرق نهر الفرات حيث يقترح إقامة مناطق آمنة. ولا تخفي أنقرة أن هذه الخطوة مُوجهة بالأساس ضد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وبشكل خاص جناحه العسكري، وحدات حماية الشعب وفق تقرير لصحيفة izvestia الروسية.
لن تطال تبعات تنفيذ النوايا التركية مصالح حلفاء تركيا فقط، التي تجمعها بهم بالأساس علاقات سيئة، وإنما سيُساهم ذلك أيضاً في تفاقم الأوضاع في سوريا. وغالباً ما تنجح تركيا في التوصل بكل سهولة إلى أرضية تفاهم مشتركة مع روسيا.
وقد تطرقت صحيفة izvestia إلى مدى احتمال ازدياد الوضع سوءاً في المناطق الشرقية من سوريا، وما إذا كانت روسيا ستتمكن من الاصطياد في المياه العكرة.
تركيا تتهم أميركا بدعم الأكراد في سوريا بالسلاح وهو مما يفاقم الأزمة بين البلدين
في النهاية، توصل طرفان فقط من بين الجهات المتدخلة في الصراع السوري، ألا وهما روسيا وتركيا، إلى اتفاق حول إدلب.
في وقت لاحق، حدد أردوغان استراتيجية جديدة لبلاده للتعاطي مع الوضع في سوريا، حيث سترتكز كل خطواته بشكل كبير عليها. ويبقى السؤال المطروح هنا: ما هي المناطق التي يسعى الاتحاد الديمقراطي و وحدات حماية الشعب إلى السيطرة فيها على الموارد والأسلحة؟
في وقت سابق، أعلنت تركيا أنها ستُدمر الممرات الإرهابية في شمال سوريا، مما جعلها تسارع بالدخول إلى مدينة جرابلس، وعفرين، والباب.
في تصريح له، أكد الرئيس التركي، أنه "للأسف، في الوقت الذي قررت فيه تركيا تنفيذ هذه الخطوات، اتخذ حلفاؤها الاستراتيجيون خطوات مخالفة، حيث تم إرسال الأسلحة والذخائر للأكراد. نحن نسعى إلى حماية الأراضي السورية من الإرهابيين، لذلك قمنا بإنشاء مناطق آمنة تصل مساحتها إلى أربعة آلاف متر مربع، وسنواصل ذلك وصولاً إلى الجزء الشرقي من نهر الفرات".
تتجهُ أنقرة نحو تطبيق خطتها، التي لم يتم الإعلان عنها بعد، مع العلم أن الطريقة التي سيتم اعتمادها لتنفيذ هذه الخُطة ستكون مختلفة عن سابقاتها.
وفي حال نجحت تركيا في مساعيها، ستكون المرة الثالثة التي تشن فيها عملية ضد الأكراد. لكن، لا يمكن لأنقرة أن تُقحم نفسها في عملية عسكرية جديدة وخطيرة في سوريا دون توخي الحذر. ومن الواضح أن الحلفاء الاستراتيجيين الذين ذكرهم أردوغان آنفاً ضمن تصريحاته هم الأميركيون.
وهو أمر ترفضه أنقرة بشكل قطعي ولا تريد النقاش فيه
على مدار سنوات من الصراع السوري، أوضحت تركيا مراراً وتكراراً أن استقلال الأكراد أمر غير مقبول بشكل قطعي. وعندما أعلن الأكراد في شهر مارس/آذار عام 2016، عن إنشاء منطقة فيدرالية خاصة بهم في شمال سوريا، كانت أنقرة من أول المنتقدين الرئيسيين لهذه الخطوة.
لكن الأكراد لم يتوقفوا عند هذا الحد، حيث أنه وبدعم من الأميركيين، شرعوا في توسيع مناطق نفوذهم، من خلال الاستيلاء على الأراضي السورية التي تمكنوا من استعادتها من تنظيم الدولة.
نتيجة لذلك، يسيطر الأكراد حالياً وبشكل كامل تقريباً على جميع المناطق السورية الواقعة شرق نهر الفرات بما في ذلك الرقة "عاصمة" تنظيم الدولة سابقاً.
علاوة على ذلك، بدأت القوات الكردية في السيطرة بصفة تدريجية على الحدود السورية التركية منذ 2016. وفي شهر أغسطس/آب، تمكن الأكراد من طرد عناصر تنظيم الدولة من منبج السورية، وأعلنوا ضمها إلى أراضيهم في عفرين. وعندما أخذ "حزام كردي" شمال سوريا يلوح في الأفق، بات الأمر يمثل مصدر قلق بالنسبة للأتراك.
ما دفعها للبدء في عملية درع الفرات ونشر قواتها في عفرين ومنبج
بطبيعة الحال، لم تبق أنقرة مكتوفة الأيدي أمام هذه التطورات، حيث شنّت خلال شهر أغسطس/آب عام 2016، عملية درع الفرات وانتشرت القوات التركية في الأراضي السورية بين عفرين ومنبج.
بحلول شهر مارس/آذار عام 2017، تمكنت القوات التركية من طرد الأكراد من مدينة الباب. أما العملية التركية الثانية، فانطلقت في شهر يناير/كانون الثاني عام 2018، وكان هدفها الجيوب الكردية في عفرين. وقد أطلق على هذه العملية اسم "غصن الزيتون".
على المستوى السياسي، تتعامل أنقرة بنفس القدر من الصرامة مع المسألة الكردية، حيث تُعارض بشكل قطعي مشاركة الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب في محادثات جنيف المتعلقة بالتسوية السورية (علماً وأن روسيا كانت الطرف الذي اقترح مشاركة الأكراد في مفاوضات التسوية).
أخذت موسكو الموقف التركي بعين الاعتبار، عند انعقاد مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي في شهر يناير/كانون الثاني. وعلى الرغم من أنه كان من المُخطط أن يشارك ممثلون عن حزب الاتحاد الديمقراطي في هذا المؤتمر، إلا أنهم لم يتلقوا سوى دعوات شخصية في وقت لاحق. عموماً، ترفض أنقرة طرح مسألة أي نوع من أنواع الحكم الذاتي الكردي للنقاش، حتى وإن كان ذلك على المستوى الثقافي فقط.
لكن أميركا لم تتراجع واستخدمت الورقة الكردية ضد تركيا
ازدادت العلاقات بين واشنطن وأنقرة توتراً عندما قررت الولايات المتحدة الأميركية، حليفة تركيا في حلف شمال الأطلسي، استخدام الورقة الكردية لصالحها.
كان التعامل مع المليشيات الكردية فرصة متاحة أمام الأميركيين لكسب موطئ قدم في سوريا. حتى انطلاق العمليات العسكرية الروسية في سوريا، اقتصر نشاط تركيا والولايات المتحدة على مراقبة كيفية توسيع تنظيم الدولة والجماعات الإرهابية الأخرى لنفوذها في المنطقة.
ومع بداية توجيه روسيا لضربات عسكرية على مواقع المعارضة، بات من الواضح أن سلطات دمشق الرسمية وبدعم من موسكو يمكنها استعادة سيطرتها الكاملة على معظم الأراضي السورية.
نتيجة لذلك، تم إنشاء ما يسمى بالجبهة الثانية لمحاربة تنظيم الدولة، كما تمت المراهنة على الأكراد، الذين رأوا بدورهم في ذلك فرصة لمواصلة مسار الانفصال عن القيادة السورية.
أثار تطور الأحداث غضب وانزعاج السلطات التركية، حيث أعربت أنقرة عن عدم موافقتها على إنشاء قوة أمن الحدود، التي تتألف أساساً من المليشيات الكردية، الأمر الذي أعلنت عنه الولايات المتحدة في شهر كانون الثاني/يناير لعام 2018. وقد اعتبرت تركيا أن التشكيلات الجديدة أقرب إلى جيش إرهابي.
ما دفع أنقرة للتفاوض مع واشنطن حول خارطة طريق بخصوص مدينة منبج السورية
في الأثناء، لم تكتف أنقرة بتوجيه تصريحات حادة في هذا الشأن، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، لتقوم بإجراء مفاوضات. ففي شهر يونيو/حزيران، اتفقت تركيا مع الولايات المتحدة على إنشاء خارطة طريق فيما يتعلق بمدينة منبج السورية.
وتتضمن الخطة انسحاب القوات الكردية من المدينة الواقعة تحت سيطرتهم منذ منتصف عام 2016، بالإضافة إلى قيام الأتراك رفقة الأميركيين بدوريات مشتركة في المناطق المتاخمة للمدينة. ومع ذلك، لا تزال المليشيات الكردية تحافظ على وجودها هناك وفقاً لماً ذكرته وكالة RIA Novosti.
أجبرت الاتفاقيات الموقعة بين واشنطن وأنقرة، وكذلك، خطط الرئيس الأميركي لسحب القوات الأميركية من سوريا، القادة الأكراد على الدخول في مفاوضات مع سلطات دمشق الرسمية. وإثر عقد جملة من الاجتماعات، تم التوصل إلى اتفاق بشأن القيام بأنشطة اقتصادية مشتركة في المناطق الشرقية من الفرات.
من الواضح أن الولايات المتحدة قد أعادت النظر بشأن سياستها في سوريا ولن تغادر البلاد، بل على العكس من ذلك. فقد بادرت واشنطن بتعزيز وحداتها هناك، وذلك حسب العديد من المصادر، متذرعة بالوجود الإيراني والقوات الموالية لها داخل سوريا. وستساهم الخطوة التي اتخذتها الولايات المتحدة في عرقلة سير الحوار بين دمشق والأكراد، وقد تبقى الاتفاقيات السابقة معلقة دون تنفيذ.
ومع تراجع أميركا عن الخروج من سوريا، سوف تضطر تركيا إلى إنشاء مناطق آمنة شرق الفرات
في ظل قرار الأميركيين القاضي بعدم مغادرة سوريا، سيصبح الأمر أكثر تعقيداً بالنسبة لتركيا، التي ستضطر لتنفيذ خططها المتعلقة بإنشاء مناطق أمنية شرق الفرات. ومن غير المرجح أن تتخلى واشنطن عن الأكراد الذين يعتبرون حليفها الرئيسي في سوريا، وتقوم بإعطاء الضوء الأخضر لتركيا لمباشرة العمل على إنشاء المناطق الآمنة.
في الأثناء، لن تبادر روسيا، في هذه الحالة، بالتدخل، حيث يتوجب على الأميركيين والأكراد وتركيا التوصل إلى أرضية تفاهم مشتركة.
بات من الواضح أن روسيا تعارض تمركز القوات الأميركية داخل الأراضي السورية. وفي حال نفذت تركيا بعض الخطوات التي تجعل وجود الوحدات الأميركية في سوريا أكثر تعقيداً، فلن تمانع روسيا ذلك على الإطلاق. وينطبق الأمر ذاته على موقف أنقرة تجاه الأكراد.
عملت روسيا على الضغط على الأكراد، محاولة دفعهم إلى طاولة المفاوضات وتمكينهم من حقوق خاصة في إطار الاستقلال الذاتي الثقافي. لكن سياسة روسيا باتت دون جدوى، حيث يسعى الأكراد لتحقيق استقلال كلي عن دمشق.
وفي حال استطاعت تركيا إجبار المليشيات الكردية ودفعها للحوار مع السلطات الرسمية في دمشق، فذلك سيكون بمثابة خطوة تصب في مصلحة مسار العملية السياسية لتسوية الأزمة السورية.
على الرغم من أن أنقرة تعتبر شريكاً مناسباً نجح في إقامة حوار بناء مع روسيا، إلا أن لها مصالحها الخاصة في سوريا التي لا تتوافق في بعض الأحيان مع المصالح الروسية. وفي حال اختلفت تركيا مع بعض الجهات ووقعت في مستنقع المواجهات مع الولايات المتحدة والأكراد، ستكون كل من روسيا وسوريا، المستفيدين الوحيدين من ذلك.