الحكومة العراقية الجديدة يبدو أنها لن ترى النور قريباً رغم التحركات الإيرانية والأميركية المحمومة لتشكيلها. وفي الوقت الراهين يقوم المسؤولون الأميركيون والإيرانيون بأدوارٍ واضحة على غير العادة، للتأثير على تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وفقاً لتقرير لصحيفة The Washington Post الأميركية. لكن كلا الطرفين لم يحقق مسعاه حتى الآن، ويتجلى ذلك في فشل كل طرفٍ في تمكين حلفائه من الوصول إلى المناصب الهامة. أما النجاح الوحيد الذي حققه الخصمان، فهو منع أحدهما حلفاء الآخر من تشكيل الحكومة العراقية الجديدة .
سليماني يواجه ماكغورك في صراع النفوذ
منذ أن أجرى العراق الانتخابات البرلمانية في شهر مايو/أيار 2018، يتنافس بريت ماكغورك مبعوث البيت الأبيض، واللواء قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، في حشد الدعم من أجل وصول الشخصيات المفضلة لكل طرفٍ منهما إلى مناصب رئيس مجلس النواب العراقي ورئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.
وقضى ماكغورك وسليماني وقتاً طويلاً من الأشهر الماضية، في عقد اجتماعاتٍ مع ساسة شيعة وسُنة وأكراد، ضمن محاولاتٍ من كليهما لبناء أغلبيةٍ برلمانية، تتحكم في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.
وقال عباس كاظم، وهو مؤرخ عراقي ومحلل سياسي: "أبطل ذلك النفوذُ الأجنبيُّ نفسَه بنفسه. وفي نهاية اليوم، الولايات المتحدة وإيران تعمل إحداهما ضد الأخرى، وكلتاهما أفشلت محاولات الأخرى في الوصول إلى ما تريد".
لكن الإحباط الشعبي يعكر المشهد السياسي
وفقاً لكاظم، عقب انتهاء الانتخابات العراقية السابقة لتلك التي جرت في مايو/أيار 2018، انخرطت الولايات المتحدة وإيران في صفقاتٍ محمومة خلف الكواليس؛ حتى يكون كلاً الطرفين راضياً عن خيار رئيس الوزراء الذي سيشكل الحكومة العراقية.
وأضاف: "جميع رؤساء الوزراء كان جرى الاتفاق عليهم عن طريق كلٍّ من الولايات المتحدة وإيران".
لكن في هذا العام (2018)، لم يتمكن المسؤولون الأميركيون والإيرانيون من العثور على موطئ قدم لهم في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.
فقد تعكر المناخ العام للمشهد السياسي العراقي نتيجة لحالة غليان بسبب الإحباط الشعبي من عدم الكفاءة الحكومية، وبسبب الخطاب العدائي بين واشنطن وطهران.
ورغم كل نفوذ سليماني فشلت خططه لتوجيه دفة القرار
قضى سليماني وقته في تشجيع الأحزاب الشيعية على تنحية خلافاتها جانباً والاندماج لتشكيل أغلبيةٍ برلمانية؛ ومن ثم الفوز بحق اختيار رئيس الحكومة العراقية الجديدة.
وشارك سليماني فترةً طويلةً في تشكيل سياسات العراق، إضافةً إلى علاقته مع الجماعات المسلحة المدعومة من إيران. وتعززت مكانته؛ لدوره البارز في الحملة العسكرية لطرد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) من العراق.
وخلال الأشهر الماضية منذ الانتخابات العراقية، أرسل سليماني رسالة واضحة إلى المسؤولين العراقيين والأميركيين على حد سواء، مفادها أن إيران ستكون لها سيطرة كبيرة على عملية تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، والكتل الانتخابية.
وبدا هذا واضحاً بعد قيامه بتشكيل كتلة معارضة مكونة من 145 عضواً في البرلمان، بقيادة هادي العامري ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي، حسبما يقول جمال الآلوسي العضو السابق في البرلمان العراقي ومؤسس حزب الأمة العراقية.
لكنَّ سليماني، الذي اعتاد السير بخُطاً ثابتة، شاهد بعينيه تبدُّد جهوده السياسية، وابتعاد مرشحه المفضَّل لمنصب رئيس الوزراء عن المنافسة.
والمبعوث الأميركي يبدو حظه أسوأ بعدما خسر رئاسة البرلمان
أما ماكغورك، وهو مبعوث البيت الأبيض للتحالف الدولي ضد تنظيم داعش، فلم يكن أفضل حالاً في بغداد، فضلاً عن أنَّ الكثير من العراقيين صاروا يعتبرونه وجهاً لتراجُع نفوذ الولايات المتحدة في العراق، وفقاً لصحيفة The Washington Post.
فعلى الرغم من نفوذ الولايات المتحدة التقليدي على الكثير من الساسة السُّنة والأكراد، لم يستطع ماكغورك الحصول على دعم منهم لرئيس الوزراء حيدر العبادي، الشيعي المؤيد للولايات المتحدة، الذي قاد العراق لتحقيق انتصاراتٍ في المعارك ضد تنظيم داعش، وقاد البلاد خلال أزمةٍ اقتصادية، وفي الوقت ذاته أكد الوحدة الوطنية في مواجهة الطائفية، غير أنَّ قائمته لم تحقق نجاحاً كبيراً في الانتخابات الوطنية الأخيرة.
وفي وقتٍ سابق من هذا الشهر (سبتمبر/أيلول 2018)، اختير محمد الحلبوسي، المحافظ السابق لمحافظة الأنبار السُّنية، لمنصب رئيس مجلس النواب العراقي، على حساب المرشح المدعوم من الولايات المتحدة، خالد العبيدي، وزير الدفاع السابق. كان اختيار الحلبوسي نتاجاً لمفاوضاتٍ عراقية داخلية، غير أنَّه لمح إلى استعداده للعمل مع كلٍّ من واشنطن وطهران.
وبصرف النظر عن الطرف الفائز بمعركة تشكيل الحكومة فالخاسر هو الشعب
وقال النائب البرلماني يوسف الكلابي، وهو على وفاق مع العبادي: "كان هناك دائماً تنافس بين الولايات المتحدة وإيران على تشكيل الحكومة، لكنَّه لم يكن معلناً مثلما هو الآن".
ويضيف: "كلتاهما تستخدم نفوذها لاختيار رئيس الوزراء… إذا استمرت هذه المنافسة هكذا، فلا أعرف من منهما ستفوز، لكنِّي أعرف بالتأكيد من الذي سيخسر: إنَّه الشعب العراقي".
وكلما مرت الشهور من دون تشكيل حكومة عراقية جديدة، تتحول هذه الممارسات العدائية لكسب التأييد -على ما يبدو- إلى حالة عنف.
والنتيجة أن العنف يندلع في البصرة ضد الدور الإيراني
ففي مدينة البصرة المصدِّرة للنفط، أشعل محتجون النار بالقنصلية الإيرانية هذا الشهر (سبتمبر/أيلول 2018).
وقال المحتجون إنَّهم فعلوا ذلك بسبب غضبهم من الدور الإيراني في السياسات العراقية، والدعم الإيراني للميليشيات العراقية التي تعيث فساداً في المدينة.
وألقت ميليشيات سليماني العراقية اللائمة على عاتق الولايات المتحدة، واتهمت القنصلية الأميركية في البصرة بدعم المتظاهرين ووضع المخرِّبين بينهم. ولم يُقدَّم أي دليل على هذه الادعاءات.
والصواريخ تستهدف القنصلية الأمريكية هنا أيضا
وفي الوقت ذاته، أُطلقت صواريخ تجاه القنصلية الأميركية بالبصرة والسفارة الأميركية في بغداد. ولم تصِب أيٌّ من هذه القذائف البعثات الدبلوماسية.
وقال مسؤول غربي إنَّ الصورايخ أطلقتها ميليشيات مسلحة موالية لإيران، وهو ما يعكس إحباط إيران من عجزها عن فرض إرادتها على عملية تشكيل الحكومة العراقية الجديدة. ولم يكن هناك أيُّ دليلٍ على أنَّ الهجمات أمر بها سليماني أو طهران.
وقال مسؤولٌ تحدث بشرط عدم الإفصاح عن هويته؛ لمناقشة المداولات الخاصة: "بسبب كل هذه الصدامات، جاءت الصواريخ. لم تنجح (إيران) في بناء أكبر كتلة، وكانوا محبَطين للغاية؛ لأنَّهم اعتقدوا أنَّ الولايات المتحدة منعتهم عن القيام بذلك".
ولم يردَّ السفير الإيراني لدى العراق على اتصالاتٍ تطلب منه التعليق على دور بلاده في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.
وفي بيانٍ مُرسل عبر البريد الإلكتروني، قال السفير الأميركي لدى العراق دوغلاس سيليمان: "تحترم الولايات المتحدة العملية الديمقراطية في العراق، وتدعم وجود دولة عراقية مستقلة وقوية وذات سيادة. وتتطلع حكومة الولايات المتحدة إلى العمل مع الحكومة العراقية الجديدة من أجل مساعدتها وتوفير الخدمات الضرورية لجميع مواطنيها".
والآن الكونغرس يتحرك لمعاقبة من تلطخت أياديهم بالدماء الأميركية
ويُنتظر تصويت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي، يوم الخميس 26 سبتمبر/أيلول 2018، على تشريع تقدَّم به الحزبان، قد يؤدي إلى تجميد أصول الإيرانيين الذين وُجد أنَّهم يشكلون تهديداً بالتسبب في العنف بالعراق.
وفي غضون ذلك، قدم السيناتور الجمهوري، من ولاية جورجيا، ديفيد بيردو، مشروع قانون إلى مجلس الشيوخ يقضي بفرض عقوباتٍ على اثنتين من الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، وذلك حسبما أفاد موقع Al-Monitor .
وقال آدم كينزينجر، النائب الجمهوري عن ولاية إلينوي الذي اقترح مشروع القانون أمام مجلس النواب، وذلك في بيانٍ أصدره عندما تقدَّم في شهر ديسمبر/كانون الأول 2017 بمشروع قانون لمنع إيران من زعزعة الاستقرار في العراق: "أفتخر بالتقدم بمشروع القانون هذا، وأرسل رسالةً قوية بأنَّنا لن نتسامح مع جهود النظام الإيراني لزعزعة الاستقرار عندما يتعلق الأمر بالحكومة في العراق".
ومرَّر مجلس النواب بالإجماع تشريعاً مشابهاً لبيردو في وقتٍ سابق من هذا العام (2018)، ليكون تعديلاً على مشروع قانون تفويض الدفاع. لكنَّ البند الذي أدخله تيد بو، النائب الجمهوري من ولاية تكساس، أُسقط عندما دُمج مشروع القانون مع نسخة مجلس الشيوخ.
وأخبر بو موقع Al-Monitor، في بيانٍ مرسل بالبريد الإلكتروني يوم الإثنين 24 سبتمبر/أيلول 2018: "يُعاقب تعديلي (عصائب أهل الحق) وحركة (حزب الله النجباء)، وهما ميليشيتان شيعيتان مدعومتان من إيران، وتُعتبران الأكثر تسبباً في زعزعة الاستقرار بالعراق، إضافة إلى أنَّ أياديهم ملطخة بالدماء الأميركية. وقد مُرر بالإجماع في مجلس النواب".
وأضاف: "كانت إزالة البند خطأً، ويعزز فحسب من قوة هذه الجماعات الإرهابية المدعومة من إيران".
ويزداد الأمر إرباكاً لأن الصدر الذي تصدَّر الانتخابات معاد للطرفين
جديرٌ بالذكر أنَّه في انتخابات شهر مايو/أيار 2018، فاز ائتلاف يدعمه رجل الدين الشيعي الشعبوي مقتدى الصدر، الذي ينتقد كلاً من التدخل الأميركي والإيراني في شؤون العراق، بأغلب المقاعد في البرلمان العراقي، وخلفته في عدد المقاعد قائمةٌ تتكون من رموزٍ من الميليشيات الشيعية الموالية لإيران. في حين جاءت قائمة العبادي، التي تُعتبر القائمة الأكثر تأييداً للولايات المتحدة، في المركز الثالث.
ولم تترك هذه النتائج أساساً كافياً للولايات المتحدة ولا لإيران يُمكِّنهما من بناء أغلبية برلمانية.
وقال قصي السهيل، وهو مفاوض بارز تابع لرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي وكتلة هادي العامري، الذي يقود ميليشيا شيعية موالية لإيران: "كلتاهما (أميركا وإيران) وصلتا إلى طريقٍ مسدود".
الولايات المتحدة تريد نفوذاً بتمويل عربي أوروبي
وفي الوقت ذاته، تُقدِّم الولايات المتحدة حوافز أقل إلى النواب مقابل دعمها.
إذ لم تُقدم واشنطن تمويلاتٍ من أجل إعادة إعمار المدن التي دُمرت بسبب قتال تنظيم داعش، وبدلاً من ذلك تستحث الدول العربية والاتحاد الأوروبي على دفع المليارات من أجل البنية التحتية العراقية.
كان الإسهام الأكبر من جانب الولايات المتحدة وحدةً كبيرةً من القوات الأميركية، بهدف تدريب قوات الأمن العراقية والمساعدة على الحفاظ عليها. ويرى معظم الساسة أنَّ وجود القوات ضروري، غير أنَّها أثارت غضب حلفاء إيران في البلاد.
أما إيران فتعبت من ضخ المال والسلاح للميليشيات
ودعمت إيران من جانبها الميليشيات العراقية الموالية لها بالمال والسلاح. لكنَّ هذه الميليشيات صارت إشكاليةً؛ بسبب جمهورٍ يرى الجماعات المدعومة من إيران وهي تحقق أرباحاً، وفي الوقت ذاته يعاني السكان صعوبات اقتصادية.
ويقول الكلابي، وهو النائب الموالي للعبادي، إنَّ السياسات العراقية تشهد "صحوةً"؛ نظراً إلى أنَّ الشعب يُنحِّي جانباً الولاءات الدينية والعِرقية، ويطالب بدلاً من ذلك بتحسيناتٍ ملموسة في نوعية الحياة.
والمحصلة أنه لأول مرة باتت الانقسامات داخل الطوائف أكبر
ترك هذا التطور الصفقات السياسية التقليدية في حالة فوضى. ولأول مرة منذ أن بدأ العراق إجراء انتخابات ديمقراطية في 2005، يشهد الشيعة والسُّنة والأكراد انقساماً عميقاً داخل كل طائفة على حدة حول من يستحق دعم الفصيل من أجل تولي المناصب العليا المكفولة لكل مجموعة بموجب نظام المحاصصة السياسية في العراق.
فقد انقسم السُّنة حول الشخصية التي سيدعمونها لرئاسة البرلمان. ورشحت الأحزاب الكردية السياسية مرشحين متنافسين لمنصب الرئيس، ما مثَّل تخلِّياً درامياً عن جبهتهم الموحدة المعتادة في بغداد.
أما الشيعة، فلم يتمكنوا من الاتحاد خلف مرشح واحد لمنصب رئيس الوزراء.
والسيستاني هو الذي قد ينقذ الموقف ويأتي برئيس الحكومة الجديدة
وقال المسؤول الغربي إنَّه من المرجح أنَّ رئيس الوزراء القادم سيظهر من التيارات السياسية الوسطية، ويُعزَى جانب كبير من هذا إلى آية الله العظمى علي السيستاني.
إذ إنَّ رجل الدين الشيعي، التي تحمل توصياته تأثيراً كبيراً بين الساسة العراقيين وبين الشعب العراقي، استجاب لحالة الجمود السياسي بإعلانه أنَّ القائد القادم للعراق يجب أن يكون مستقلاً، لم يتقلَّد أي مناصب بالسلطة في الماضي.
وقال كاظم، المحلل السياسي: "من الأفضل للعراق أن يضع في عين الاعتبار حصوله على قدرٍ من الاستقلال. من الأفضل لكلا الطرفين أن يتصور العراق حليفاً بدلاً من تصوره وكيلاً أو لعبة يلعب بها".