حظي محمود قادري وعائلته الكبيرة أخيراً بمنزل في مدينة جنديرس بريف عفرين، منهياً بذلك كابوساً لاحَق أحلام أطفاله في أثناء النوم نحو شهر بالعراء، بعد تهجيرهم من مدينة عربين في الغوطة الشرقية بريف دمشق.
لم يكن هذا الأمر هو الوحيد المفرح لمحمود؛ فقد حصل على عمل في إحدى وكالات بيع المواد الغذائية بالجملة، وبدأت أحواله بالتغير نحو الأفضل، حسبما يحكي لـ"عربي بوست": "نحن مهجَّرون.. لم نأتِ طواعيةً إلى هنا"، واستدرك: "لكننا نعمل بجد ونأكل مما نكسب".
إقامة مؤقتة، والاعتماد على النفس واجب
"قادري" لا ينوي البقاء والعيش في جنديرس، ويعتزم الاعتماد على نفسه لكسب رزقه، قائلاً: "أنا ما استوليت على بيت حدا.. أنا كمان مهجَّر وراح بيتي وراحوا أهلي"، مستدركاً: "بس بدي أكل من تعبي، ما بدي ظل عايش على المساعدات".
"القادري" يبلغ من العمر 47 عاماً، ويعيش مع زوجته و5 من أولاده، كانوا قد خرجوا من مدينة عربين في الغوطة الشرقية بريف العاصمة دمشق في منتصف شهر مايو/أيار 2018، نتيجة اتفاق أُبرم بين المعارضة المسلحة والنظام السوري.
ويؤكد أنه ما كان ليخرج من منزله لولا أن الحياة باتت أصعب من الموت في عربين، حسب تعبيره، فالمواد الغذائية شحَّت، وصاروا يتنفسون الغاز في شوارع المدينة، "بدنا نرجع لبيتنا، وقت الله يفرجها ويصحلنا".
نقلوا تجاربهم التجارية معهم
منذ وصولهم إلى مناطق الشمال السوري، افتتح أهالي الغوطة عدداً من المشاريع التجارية.. حاتم، من مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي الواقعة ضمن مناطق درع الفرات التي تم تحريرها من تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) بمساعدة الجيش التركي، يشرح أن هناك العديد من المحال والأعمال والمشاريع الصغيرة التي أسسها أهالي الغوطة منذ وصولهم إلى المنطقة.
وأكد لـ"عربي بوست" أن هناك حركة تجارية أوسع في المنطقة، وخاصة مع وجود عدد سكان أكبر بعد حملات التهجير القسرية التي حصلت بحق سكان مناطق المعارضة السورية.
محمد الحسيني خرج من دوما بالغوطة الشرقية، في شهر أبريل/نيسان 2018، بعد تعرُّض المدينة لهجوم كيماوي، ومنذ وصوله إلى مدينة الباب بريف حلب افتتح محل جزارة، وهي مهنته الأساسية، كما أسس مشروعاً جديداً لتربية المواشي، وقال لـ"عربي بوست" إنه يسعى "إلى توسيع العمل، وتأمين فرص عمل لأكبر عدد من المهجَّرين"، وأضاف: "لكوني مهجراً أشعر بمعاناة بقية المهجرين".
وأكد الحسيني أنه ما دام الأسد موجوداً فلن يعود إلى دوما، وأشار إلى أنه في حال بقاء النظام سيشتري أرضاً ويبنيها ويسكن فيها إلى حين تغيير النظام.
محمد يشترك مع أخيه شاكر في مشاريع أخرى بـ"الباب" وأعزاز ومارع وعفرين، بمجال تجارة المواد الغذائية والتجارة العامة والحوالات المالية والصرافة، وبيّن شاكر أن هناك سوقاً كبيرة في المنطقة، يحاولون التحرك فيها وإثبات أنفسهم.
واستفادوا من شبكات التواصل الاجتماعي لتوسيع أعمالهم
وأسس التجار من أهالي الغوطة النازحين إلى الشمال السوري العديد من المجموعات على شبكات التواصل الاجتماعي، ومنها مجموعة "محلات ومنتجات غوطانية في الشمال" على تطبيق تلغرام، وتضم المجموعة نحو 700 عضو، وفي وصف المجموعة كُتب "مجموعة تهتم بنشر كل ما يتعلق من محلات منتجات مشاريع تجارات أهل الغوطة المهجَّرين في الشمال السوري.. الغوطة كالجسد الواحد.. عائدون بإذن الله".
وقال أبو خالد، أحد أعضاء المجموعة، إنه اشترى كمية من التمور عبر تاجر غوطاني يقيم بالسعودية، ثم باعها في "الباب" و"أعزاز"، ولفت إلى أن تلك المجموعة تسهل عليه شراء البضائع وتصريفها، وخاصة أنه يتعامل مع تجار يعرفهم أو يثق بهم؛ لكونهم من المنطقة نفسها.
وجلبوا معهم مشاريع الإغاثة الخاصة بهم
بعد إغلاق المنظمات الإنسانية والإغاثية كافة في الغوطة الشرقية، قام العاملون في تلك المنظمات بتأسيس مكاتب جديدة في الشمال السوري؛ لإغاثة المهجرين، مستفيدين من خبرتهم السابقة خلال سنوات الحصار الطويلة.
إحدى تلك المنظمات هي "المكتب الإغاثي الموحد"، الذي أطلق مشاريع تنموية عدة، من شأنها دمج مهجَّري الغوطة الشرقية في سوق العمل، بما يضمن لهم مصدر دخل ثابتاً يساعدهم على تأمين سبل عيش كريمة.
وافتتح المكتب مشروعاً زراعياً تنموياً، مطلع يونيو/حزيران 2018، في ريف حلب الشمالي، وحسب صحيفة "عنب بلدي" المحلية، فإن 58 عائلة من مهجَّري الغوطة الشرقية يستفيدون من المشروع بشكل مباشر، بالإضافة إلى وجود مستفيدين غير مباشرين.
وبدأ المشروع بزراعة البندورة والكوسا والباذنجان والفليفلة والجبس (البطيخ)، محاولاً الاستفادة من موسم الزراعات الصيفية.
ووصفت صحيفة The Guardian البريطانية ما يجري في عفرين بأنه "عمليات تغيير ديموغرافي"، وقالت إن هناك عوائل عربية سكنت بالمنطقة، في حين رحل السكان الأصليون إلى مناطق أخرى.
وشهدت سوريا منذ عام 2011، عمليات نزوح وتهجير مختلفة أصابت مختلف الأعراق والطوائف والمذاهب، بدأت -حسب ناشطين حقوقيين- في مدينة بانياس بريف اللاذقية، حيث عملت قوات النظام على تهجير سكان المدينة (غالبية سنية) نتيجة مشاركتهم في التظاهرات المطالبة بإسقاط النظام، ثم توالت تلك العمليات في حمص ودمشق والحسكة وعفرين ودرعا وآخرها في كفريا والفوعا.