كانت الحياة تبتسم لجون مورماندو حين لاحظ وجود كتلة صلبة بارزة في صدره، في شهر مارس/آذار الماضي؛ إذ كان عدَّاء في سباقات الماراثون، وكان يشارك في تدريب لسباق ترايثلون، استعداداً لخوض مسابقة الرجل الحديدي (أو آيرون مان).
ذهب جون إلى الطبيب لفحص تلك الكتلة، وسرعان ما تلقَّى ذاك التشخيص الصادم: سرطان الثدي.
يقول جون لصحيفة الغارديان البريطانية: "صُعقت حين سمعت التشخيص وظللت عاجزاً عن الكلام".
مرض لا يصيب الرجال، لكن هجوم 11 سبتمبر تسبب فيه!
تعذَّر على جون مورماندو، 51 عاماً، أن يستوعب سبب تشخيصه بمرض يندر انتشاره بين الرجال (بنسبة أقل من 1%)، ولم يسبق لأحد من أفراد عائلته أن شُخص بهذا المرض. ثمّ ذكره زملاؤه بالأشهر التي قضاها في العمل قرب موقع حدوث هجمات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية، التي استهدفت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك.
وجد عشرات الآف ممن عاشوا أو عملوا في هذا الحي آنذاك أنفسهم يستنشقون هواءً سميكاً معبئاً بالأبخرة السامة والجسيمات المنبعثة من ناطحتي السحاب المحترقتين. منذ ذلك الحين شاعت الأمراض وارتفعت أعداد الوفيات، وهناك حالات جديدة تُكتشف إصابتها كل يوم وجميعها مرتبطة بالسموم، التي انتشرت في الهواء حول موقع الحطام. ومن أمثلة تلك الحالات إصابة عددٍ من الرجال بسرطان الثدي، بينهم مورماندو.
يعمل جون مورماندو الآن سمسار سلع أساسية في مكتب شركة RJ O'Brien في المدينة، في حين كان يعمل وقت وقوع الهجوم في بورصة نيويورك التجارية، على بُعد شارع من مركز التجارة العالمي في جنوب مانهاتن، حيث اختطف المتطرفون طائرات نقل ركاب مدنية وحلقوا بها في اتجاه برجي مركز التجارة الدولية لتصطدم بهما صبيحة ذلك اليوم، من شهر سبتمبر/أيلول 2001، متسببة في انهيار البرجين في الحال.
صار موقع البرجين يُعرف باسم غراوند زيرو، فيما عُرفت الهجمات التي تضمنت طائرتين أخريين مختطفتين، حلقت إحداهما باتجاه مقر وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون"، بينما كان من المفترض أن تصطدم الطائرة الأخرى بالبيت الأبيض، لكنها تحطّمت قبل وصولها للهدف في طريقها إلى واشنطن العاصمة، باسم هجمات 11 سبتمبر/أيلول.
يقول جون مورماندو: "عُدنا إلى عملنا بعد أسبوع من أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وكانت النيران لا تزال مشتعلة في البرجين، كل شيء يتهاوى من حولنا. قيل لنا إنّ الهواء آمن ولن يلحق بنا أي ضرر، وكان علينا أن نعود إلى العمل". وأضاف: "كان الأمر مُروعاً، لن تتخيل كيف كانت رائحة الهواء وسط المدينة، كانت نفاذة للغاية، كان هناك مبنيان لا يزالان يحترقان، ومكثا كذلك لشهور".
رجال المنطقة صفر أُصيبوا بسرطان الثدي!
وجون مورماندو الذي يخضع للعلاج الكيميائي واحد من بين 15 رجلاً على الأقل من الذين قضوا وقتاً قرب المنطقة صفر (غراوند زيرو)، والذين شُخصوا بمرض سرطان الثدي، وفقاً لما يقوله محاميهم مايكل بيرا. ويحتمل أن يكون هناك مزيدٌ من الضحايا غير هؤلاء الرجال.
وتعد إصابة هؤلاء الرجال بمرض سرطان الثدي مجرد جزء صغير من الأزمة الصحية التي حدثت بعد هذه الهجمات الإرهابية، التي لا تزال تزداد سوءاً بعد مرور 17 عاماً عليها.
وبينما يجتمع مَن فقدوا أحباءهم في هذه الهجمات، يوم الثلاثاء الموافق 11 سبتمبر/أيلول 2018، لإحياء الذكرى السنوية في موقع البرجين، تقف مدينة نيويورك على أعتاب مرحلة قاتمة جديدة، إذ تم تشخيص 10 الآف شخص بمرض السرطان نتيجة للهجمات.
يقتصر معدل إصابة الرجال بسرطان الثدي عادة على 100 ألف رجل سنوياً.
أما مايكل جيوديس، رقيب شرطة متقاعد من قسم شرطة نيويورك، فقد اندفع إلى منطقة غراوند زيرو وقت الهجوم، وعمل في الشهور التالية له في مدفن النفايات المعروف باسم Fresh Kills في جزيرة ستاتين، في التنقيب في نفايات الهجوم وبقاياه التي أُلقيت هناك، فقال إنَّه لم يُلق بالاً أبداً للعواقب الصحية في ذلك الوقت. وقال الأسبوع الماضي: "حقاً إننا لا نشغل بالنا، ولا نهتم لأمر صحتنا، كل ما خطر لنا هو أن ننجز عملنا وننتهي منه".
شُخص مايكل جيوديس، البالغ من العمر 65 عاماً، بسرطان الثدي منذ ثلاثة أعوام، بعد أن وجدت صديقته كتلة صلبة في صدره. خضع مايكل لعملية جراحية وعلاج كيميائي وإشعاعي، ولا يزال مواظباً على تناول الأدوية.
وقال مايكل: "أنا متأكدٌ أنّني كنت سأموت بهذا المرض، لو لم تكتشف صديقتي تلك الكتلة، على الأقل حصلت على فرصة لمقاومة ذلك المرض".
وأضاف: "لا تنطبق عليّ أسباب الإصابة بهذا المرض، ولم يصب به أي شخص في عائلتي، أكره أن اقول إنني متأكدٌ من أنّ المزيد من الأشخاص سيصابون بهذا المرض في المستقبل، كنت دائماً شخصاً كتوماً وأفضل الاحتفاظ بخصوصياتي، لكنّ أمراً كهذا لا يحتمل الصمت".
قبل أن يعرف جيف فلين، 65 عاماً، تشخيص مرضه عام 2011، لم يكن يدرك حتى أن هناك احتمالية أن يُصاب الرجال بسرطان الثدي. وقال: "تجمدت الدماء في عروقي، في لحظة واحدة وجدت حياتي قد انقلبت رأساً على عقب".
عمل جيف فلين لدى شركة لتخزين البيانات قرب مركز التجارة العالمي، وسرعان ما عاد إلى عمله بعد الهجمات كي يُساعد الشركات في الحصول على نسخ احتياطية لأعمالها ومواصلة العمل. يقول جيف: "في الواقع شعرت بمذاق الهواء في حلقي، وكان عفِناً".
استغرق جيف بعضَ الوقت حتى تمكَّن من ربط إصابته بالمرض بالوقت الذي أمضاه حول موقع الحطام، وبمجرد معرفته سجل اسمه في برنامج لتلقي الخدمات الصحية.
الأبخرة السامة والجسيمات المتطايرة هي السبب!
في منتدى انعقد الأسبوع الماضي، في النصب التذكاري والمتحف الوطني لأحداث 11 سبتمبر/أيلول، الموجود في منطقة غراوند زيرو، أشار مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI كريستوفر واري إلى أنَّه فقد ثلاثة من زملائه الذين استجابوا لهجمات 2001، خلال الستة أشهر الماضية فقط. ودعا كريستوفر واري مزيداً من الناس إلى التسجيل في البرامج الصحية التي تدعمها الحكومة، التي تستهدف اكتشاف الأمراض الناجمة عن استنشاق الأبخرة السامة والجسيمات التي نتجت عن حطام البرجين المحترقين وعلاجها.
في نهاية شهر يونيو/حزيران الماضي، كان هناك حوالي 9375 فرداً مسجَّلين في البرنامج الصحي للمتضررين من أحداث مبنى مركز التجارة العالمي، كمصابين بمرض السرطان نتيجة ما حدث في 11 سبتمبر/أيلول، وفقاً للأرقام الصادرة عن البرنامج، إضافة إلى وفاة 420 فرداً نتيجة إصابتهم بمرض السرطان.
وفي المجمل، تم تسجيل أكثر من 43 ألف شخص باعتبارهم مصابين بمشاكل صحية، مرتبطة بهجمات 11 سبتمبر/أيلول.
وتم توثيق تأثير الهجوم على من أبدوا الاستجابة الأولى له توثيقاً جيداً؛ إذ قضى 182 عنصراً من قسم الإطفاء بنيويورك وحده، جراء أمراض مرتبطة بالهجوم، بيد أن حصيلة الوفيات امتدت إلى ما هو أبعد من ذلك، مؤثرة على القاطنين في جنوب مانهاتن والعاملين بالشركات والمعلمين والطلاب في المدارس المحلية.
يقول المحامي مايكل بيرا: "لم يفرق هذا الغبار السام بين طالب أو رجل إطفاء، أو حتى ملياردير من مجموعة جولدمان ساكس، إنه يؤثر على الجميع ويقتلهم على حد سواء، يا له من غبار ديمقراطي نزيه!"
وتمثل شركة مايكل 25 مدعياً ما بين أناس كانوا طلاباً في المرحلة الثانوية أو الجامعية وقت الهجمات، وجميعهم شخصوا بمرض السرطان في العشرينيات والثلاثينيات من أعمارهم.
أُصيب كثيرون بأمراض مزمنة في الجهاز التنفسي والجهاز الهضمي، بمن فيهم طلاب مدرسة ستايڤسانت الثانوية، التي تقع على بُعد ثلاثة شوارع من البرجين، حيث تم إخلاء المدرسة من الطلاب يوم الهجمات، ليعودوا بعد أقل من شهر.
مبادرات لمساعدة الناجين الآخرين!
كانت ليلى نوردستورم، 34 عاماً، في الصف النهائي في المدرسة الثانوية وقت حدوث هجمات 11 سبتمبر/أيلول، وقد أصيبت بمرض ارتجاع المريء، وقالت إنَّها صُدمت حين علمت بمدى اتساع نطاق الأزمة الصحية، حين كانت في العشرين من عمرها وبصحبة مجموعة من زملائها في حفل عشاء، ثم أخذوا يتحدثون عن موضوع المرض، تقول ليلى: "كل شخص كان حاضراً معنا على تلك المائدة أصيب بالمرض".
أسست ليلى نوردستورم مجموعة StuyHealth لمساعدة الناجين الشباب الآخرين. وتقول ليلى: "نحن في عزّ شبابنا، وهذا ليس خيارنا، كنا مراهقين ولم نكن نعي أنه لا ينبغي علينا الذهاب إلى هناك للحفاظ على سلامتنا، ونعرف أيضاً أن وكالة حماية البيئة لم تصارحنا بالحقيقة وقتها".
اعترفت رئيسة وكالة حماية البيئة أنّها أخطأت حين طمأنت الناس، وأكدت لهم أنَّه لا ضرر من الهواء في منطقة غراوند زيرو.
يبوح الناجون بمعاناتهم لكي يشجعوا الآخرين على تسجيل أسمائهم في برنامج تقديم الخدمات الصحية، وعلى أن يخضعوا للفحص الطبي. ويحق لأي شخص عاش لفترة أو عمل أو ذهب لمدرسة قرب موقع الهجوم وأُصيب بمرض له علاقة بما حدث، الحصول على الرعاية الصحية والتعويضات الممكنة بموجب قانون Zadroga Act.
وتواصل اتحاد المعلمين مع أعضاء هيئة التدريس الذين كانوا يعملون في عشرات المدارس في جنوب مانهاتن عام 2001، وطلبوا منهم الخضوع للفحص الطبي.
ومن بين هؤلاء المعلِّمين ماريا سانابريا، 52 عاماً، التي عملت مساعد مدرس في المدرسة الثانوية للقيادة والخدمة العامة، وفرّت يومها من المدرسة رعباً وفزعاً. شُخّصت ماريا بعد أكثر من 15 عاماً بمرض سرطان الغدة الدرقية. وفارق اثنان من زملائها الحياة بسبب إصابتهما بمرض السرطان. تقول ماريا: "كنت في قمة الذعر".
ويشحذ المدافعون همتهم لمواجهة جديدة في الكونغرس بشأن صندوق التعويض المالي للضحايا، والمزمع أن تنتهي صلاحية العمل به في ديسمبر/كانون الأول عام 2020، ما لم يُصوت المُشّرعون لتمديد المدة. وعلى عكس التعويض المالي، يحظى البرنامج الصحي بتمويل يمتد لمدة 75 سنة.
يقول المحامي: "ليس للسرطان أجل مسمى، لن يختفي بفعل السحر في ديسمبر/كانون الأول عام 2020، لن يسقط السرطان بالتقادم".
قدم الصندوق المالي منحاً بأكثر من 4.3 مليار دولار، لأكثر من 19 ألف شخص من أوائل المُستجبين والناجين.
ويشير المسؤولون إلى أنّ عدداً قليلاً من الموظفين الفيدراليين انضموا إلى البرنامج، رغم تعرض العديد منهم للغبار السام.
وكانت الموظَّفة الفيدرالية لو ليبر أحد المستجبين في منطقة غراوند زيرو، وتذكرت أنَّها في يوم 12سبتمبر/أيلول عام 2001، عندما ركبت سيارتها وشغلت جهاز تكييف الهواء، وجدت غباراً ينبعث من المكيف، وبقي هذا الغبار في نظام التدفئة لشهور. وشُخصّت ليبر بنوعين من السرطان، وتقول: "تحول جنوب مانهاتن إلى بؤرة سرطانية".
حتى النصب التذكاري يتغير، ليعكس حقيقة أنَّ هذه الهجمات لا تزال تحصد أرواح الناس، حتى بعد مرور سنوات على سقوط البرجين. وهناك ممرٌ حجريٌّ جديدٌ يتم رصفه للإشادة بمن فارقوا الحياة جراء إصابتهم بأمراض مرتبطة باستنشاقهم لهذه الأبخرة السامة التي انبعثت في موقع الهجوم.
وقالت أليس غرينوالد، مدير المتحف: "أعتقد أن تأثير الهجمات سيكون أبعد من حدود استيعابنا".