تخلى أكثر من ألفي مقاتل من فصائل المعارضة السورية كانوا يقاتلون ضد قوات نظام بشار الأسد، عن مواقعهم جنوب سوريا وسلَّموا أسلحتهم الثقيلة إلى ضباط روس في يوليو/تموز الماضي من دون إطلاق رصاصة واحدة.
واعتبر تقرير نشرته صحيفة Wall Street Journal الأميركية، أمس السبت 1 سبتمبر/ أيلول 2018، أن هذه الواقعة أوضحت كيف أنَّ موسكو تسعى لاستعراض "القوى الناعمة" في الحرب السورية، بينما تحاول تهدئة الحملة العسكرية الشرسة التي كلفتها المليارات، وحشد المانحين للمساهمة في إعادة إعمار الدولة الممزقة.
وأشادت روسيا بتخلي مقاتلي المعارضة في تلك المنطقة عن مواقعهم، الأمر الذي مهد الطريق لعودة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة إلى المنطقة منزوعة السلاح في هضبة الجولان، واعتبرتها انتصاراً للنجاح المتزايد الذي تحققه التكتيكات غير العنيفة.
رجّحت الكفة لصالح الأسد
وتسببت الغارات الروسية في تغيير مجرى الحرب السورية لصالح الأسد، وأرسلت موسكو كذلك مؤخراً سفناً حربية إلى شرق البحر المتوسط، على الأرجح استعداداً لشن هجوم عسكري على آخر كبرى معاقل المعارضة السورية في منطقة إدلب، بحسب الصحيفة الأميركية.
لكن روسيا كانت تتفاوض كذلك على استسلامات مشروطة تماثل تلك التي جرت في يوليو/تموز الماضي، متعهدة بوضع نهاية للعنف، ومنح عفو شامل، والسعي نحو عودة الخدمات العامة، وكل ذلك مقابل الولاء للأسد.
ويقول محللون، إنَّ الجيش الروسي يعتبر أنَّ التخطيط يصبح أهم، مع تجاوزهم لدور ينحصر في قيامهم بالعمليات العسكرية، وتطوره إلى تولي أدوار وظيفية تشوبها مخاطر محتملة تتطلب حداً أدنى من الثقة.
وأضاف المحللون أنه في أنحاء مناطق جنوبي غرب سوريا، يركز تكتيك التفاوض الروسي على تقديم وعود أولاً لجماعات المعارضة والمدنيين الأضعف والأصغر حجماً، لجذب العناصر الأضعف بعيداً عن المعارضة المتشددة. وأصبحت تلك المهمة أسهل مع نضوب الدعم الدولي للمعارضة.
أما من رفض من المعارضة التخلي عن أسلحتهم، فقد وافقوا خلال المفاوضات على الرحيل إلى إدلب -دون ارتكاب أية أعمال عنف- في حافلات مع عائلاتهم.
وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية الجنرال إيغور كوناشينكوف: "فهم المتطرفون أنَّ وقتهم هنا انتهى. أطحنا بقاعدتهم، وأدركوا أنها مسألة منتهية"، وفق الصحيفة الأميركية.
إدلب ليست مستثناة
ويقول دبلوماسيون روس إنَّ موسكو ترغب في تطبيق الاستراتيجية ذاتها في إدلب، فيما يقول محللون إنَّ من سيمتنعون عن توقيع اتفاقيات على الأرجح سيُقصَفون. ويُثني قادة المعارضة هناك بعضهم البعض عن الانخراط في محادثات مع الروس؛ مما يدل على كفاءة الضباط في تفتيت المعارضة التي تعاني بالفعل من الانقسامات الداخلية والموارد المتضائلة.
وفي هذا الصدد، علق نيكولاس هيراس، زميل في Center for a New American Security الذي يقدم استشارات للإدارة الأميركية حول سوريا، قائلاً: "وصل الروس لمرتبة تكاد تكون أسطورية بين صفوف المعارضة لقدرتهم على استمالة المنشقين من خلال عملية المصالحة".
أما المسؤولون العسكريون والدبلوماسيون الأميركيون فيتبنون رؤية متشككة للغاية حول الدور الروسي في سوريا، معربين عن مخاوف متزايدة بشأن ما يعتبرونها إشارات على هجوم وشيك في إدلب.
وقالت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية هيذر نويرت إنَّ مسؤولين من الوزارة اجتمعوا بالسفير الروسي لدى واشنطن أناتولي أنطونوف في مطلع الأسبوع الجاري للتأكيد على مخاوف الولايات المتحدة.
وذكرت السفارة الروسية أنَّ أنطونوف دعا إلى الاجتماع لتحذير الولايات المتحدة من شن ضربات ضد قوات الأسد، على خلفية اتهامات باستخدامه أسلحة كيماوية، وهو التحذير الذي وصفه متحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بأنه حملة تضليل.
وبالنسبة لحكومة الأسد، تدعم عملية المفاوضات التي تجريها روسيا مع المعارضة الرواية التي تقول إنَّ النظام يتصالح مع المعارضة. وتدفع روسيا بهذه الحجة للضغط على حكومات الدول الغربية لضخ أموال لإعادة إعمار سوريا وتشجيع اللاجئين السوريين في أوروبا على العودة لوطنهم، وفي الوقت نفسه تفادي مسألة التسوية السياسية في البلاد.
ووفقاً للجيش الروسي، يكفل مركز المصالحة التابع لوزارة الدفاع الروسية، ومقره قاعدة حميميم الروسية على أطراف اللاذقية، أغلب الاتفاقيات، لكن المعارضة السورية تؤكد دائماً أنها لا تثق بوعود النظام وروسيا.
وأشارت صحيفة Wall Street Journal أن ضباطاً روس تلقوا تدريبات نفسية، يعملون في المركز على التواصل مع القرى والجماعات العرقية والدينية في أنحاء الدولة، حتى خلال أحلك الأوقات، منذ بداية التدخل الروسي في سوريا عام 2015.
"عهود لم تتحقق"
وفي هذا الصدد، أوضح تشارلز ليستر، أحد كبار الزملاء في معهد الشرق الأوسط، وهو فريق بحثي غير ربحي مقره واشنطن ويجري دراسات حول المنطقة: "حتى حينما كان الروس يقصفون مناطق المعارضة في كافة أنحاء الدولة، كانوا يتواصلون سرياً، على الأغلب عبر وزارة الدفاع، مع الجماعات المسلحة وقياداتها السياسية".
وفي المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، أبلغ معارضون سابقون عن وقوع انتهاكات من جانب ضباط الأمن والقوات الحكومية، من بينها اعتقالات عديدة لمن لهم صلة بالمعارضة المسلحة، وذلك برغم منحهم عفواً.
ويقول المحللون إنَّ الروس حاولوا السيطرة على أسوأ الفظائع التي ارتكبها نظام الأسد في هذه المناطق واكتسبوا مكانة محكِّمين موثوقين. وقال ليستر: "الروس لا يضفون أية عداوة طائفية إلى الصراع، ويُرَون على أنهم يحاولون بذل جهد".
وبحسب ما قاله المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية الجنرال كوناشينكوف، فإنَّ الأساليب التي يعمل بها مركز المصالحة تأخذ في الاعتبار جوانب النجاح والفشل في الغزو الأميركي للعراق.
وأضاف أنَّ موسكو قيّمت تجربتها في أفغانستان قبل قرار انسحاب الكرملين من هناك عام 1989 بعد أنَّ مني بالهزيمة، وكذلك حربين خاضتهما، وعصياناً استمر طويلاً قاتلت ضده في الشيشيان والذي أثار الكثير من السكان المحليين ضد الرئاسة الروسية.
ومع ذلك، فوفقاً لشركة Airwars، وهي مجموعة رصد مقرها لندن، تسببت القوة العسكرية الروسية في تفاقم الخسائر في أرواح المدنيين ودفعت مئات الآلاف للفرار من منازلهم جراء القصف الذي بدأ منذ سبتمبر/أيلول 2015. وخلال النصف الأول من عام 2018، أسفرت الغارات الروسية عن مقتل ما لا يقل عن 2882 مدنياً، أي بزيادة نسبتها 34% عن الفترة ذاتها من العام السابق.
وترجع هذه الزيادة في عدد القتلى جزئياً إلى هجمات النظام في الغوطة الشرقية ودرعا، إضافة إلى التفجيرات المتواصلة في إدلب. وتعرض الجهود الأخيرة للتفاوض حول استسلام مشروط لمعارضي نظام الأسد بديلاً عن هذا النوع من العنف.
إذ يقول هيراس: "فور أنَّ تدرك أية جماعة أنَّ المصالحات تعمل بالأساس نحو منع وقوع المزيد من العنف، سينضم المزيد والمزيد إليها، وسترى حينها تأثيراً تعاقبياً"، على حد تعبيره.