تحمل الوقائع في سوريا إشارات إلى أن الحرب المستمرة هناك منذ العام 2011 قد شارفت على الانتهاء، وهو ما يأمله السوريون، لكن هذه الحرب دخلت مرحلة جديدة أكثر حساسية، فلم يعد التنافس والصدام فيها مقتصراً على الفصائل المحلية المدعومة من دول، بل أصبحت بين الدول نفسها الفاعلة في سوريا، والتي تتضارب مصالحها في البلد المليء بالقوات الأجنبية.
وهذا ما خلص إليه مقال نشرته مجلة The National Interest، الجمعة الماضي 10 أغسطس/آب الجاري، تحدثت فيه عن عودة النظام إلى كثير من المناطق التي خسرها طيلة السنوات السبع الماضية، والتي استعادها بفضل الدعم الروسي الكبير المُقدم له.
واعتبرت أنه بعودة نظام بشار الأسد إلى خط التماس مع الحدود الشمالية لإسرائيل، فإن تلك كانت نهاية رمزية للقتال جنوبي سوريا، حيث هُزِم آخر جيب للمعارضة جنوبي البلاد، في المكان عينه الذي اندلعت فيه الاحتجاجات عام 2011 ضد الأسد.
3 تحالفات رئيسية في سوريا
بدأت الشرطة العسكرية الروسية في الأسبوع الأول من شهر أغسطس/آب 2018، بإقامة 8 نقاط مراقبة على طول هضبة الجولان، التي تحتل إسرائيل جزءاً منها يطل على خط وقف إطلاق لعام 1974 بين إسرائيل وسوريا. وأفضت العمليات العسكرية التي أعادت النظام للجنوب السوري إلى تهجير عشرات آلاف السكان من مناطقهم متوجهين نحو الشمال السوري.
وأشارت المجلة الأميركية في مقالها الذي كتبه سيث فرانتزمان، إلى أن نظام الأسد اكتسب القوة والثقة والسلطة على مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة، منذ بدأت روسيا التدخُّل بقوة في سوريا، والآن بات الصراع منقسماً بين ثلاث مناطق خاضعة للقوة الجوية لثلاثة تحالفات رئيسية.
ففي الشرق التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وشركاؤها في قوات سوريا الديمقراطية، وفي الشمال تركيا وحلفاؤها من المعارضة السورية، وفي الوسط وبقية سوريا النظام مدعوماً بروسيا وإيران.
وتدخل الحرب الآن في سوريا مرحلة جديدة، والقرارات تُتخذ فيها بأنقرة وواشنطن وموسكو، وفقاً للمجلة الأميركية. وكانت إرهاصات هذا التغيُّر واضحة بالفعل حين بدأت روسيا تتحدث عن مناطق "خفض التصعيد" واستضافة محادثات في أستانا مع إيران وتركيا.
العودة إلى المربع الأول
ولدى نظام الأسد الآن هدف واضح، فهو وحلفاؤه يريدون عودة سيطرة النظام إلى كل المناطق في سوريا، وأمام ذلك طرحت المجلة الأميركية سؤالاً عن الجدول الزمني المُتعلق بالمدى الذي سيستغرقه النظام لاستعادة حدوده؟
وقال السفير الأميركي السابق روبرت فورد في مقابلة مع مركز الشرق الأوسط للتقارير والتحليل، إنَّه حتى "لو لم تكن الحرب انتهت بعد، فالمسار بات واضحاً". مشيراً إلى أن النظام يريد العمل على طرد القوات التركية والأميركية، لكن ليس واضحاً ما الدور الذي ستضطلع به روسيا.
وأضاف: "ليس بمقدوري تصوُّر أنَّ روسيا سترفض مساعي الأسد للضغط على تركيا في إدلب". وعلى نظام الأسد أن يكون حذراً ألا يشعل صراعاً مع تركيا، وأن يُحقِّق هدفه عبر عملية طويلة.
وإن كانت رؤية النظام واضحة، فإنَّ الرؤية التركية بشأن دورها على المدى الطويل في الشمال السوري غامضة. إذ تستثمر تركيا في مبادرات تعليمية في مدن جرابلس وعفرين والباب، وترغب في عودة ملايين اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا.
وتساءلت المجلة: "هل سيكون مصير الشمال السوري مثل قبرص الشمالية بطريقةٍ ما، أم سيجد النظام السوري وتركيا تسوية؟ وأشارت إلى أن النظام يجهِّز بالفعل هجوماً للاستعادة التدريجية لمحافظة إدلب التي تمتلك تركيا فيها نقاط مراقبة. وإن كانت تركيا تنوي البقاء، فإنها ستضع خطاً أحمر في مرحلةٍ ما.
وفي الشمال السوري حيث توجد مدينة منبج أيضاً والتي كانت سبباً رئيسياً للخلاف بين أنقرة وواشنطن قبل أن يتوصل الطرفان إلى خارطة طريق بشأنها، فإن مصير المدينة لا يزال غير واضح.
وتوجد في هذه المدينة قوات أميركية إلى جانب حلفائها من قوات سوريا الديمقراطية، وقد توصل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو وأنقرة إلى اتفاق حول منبج، تضمَّن تسيير 22 دورية مستقلة من جانب الولايات المتحدة وتركيا قرب المدينة.
ووفقاً للتحالف، فإنَّ تلك الدوريات سارت على ما يرام، لكن لا يزال غير واضح ما إن كانت التوتُّرات المتصاعدة بسبب القسّ الأميركي المحتجز في تركيا أندرو برونسون ستتسبَّب في أزمة.
ويشير مقال المجلة الأميركية إلى أن دور تركيا قرب منبج لا يتعلَّق فقط بدعم المعارضة ضد النظام، بل يتعلَّق بإبعاد قوات سوريا الديمقراطية إلى الضفة الأخرى من نهر الفرات. وإن كانت الولايات المتحدة ستغادر شرق سوريا على سبيل المثال ويعود النظام إلى المنطقة، فستتقلص أسباب بقاء تركيا شمال البلاد.
وفي 27 يوليو/تموز 2018، قال وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس: "ستكون معركة أطول وأقوى"، في إشارة إلى المعركة مع داعش شرقي سوريا. وأضاف: "إنَّك لا تغادر وحسب، ثُمَّ تجد داعش يعود".
وتتوافق تصريحاته تلك مع الإشارات المستمرة إلى "إرساء الاستقرار" من جانب مبعوث الرئيس ترمب إلى التحالف الدولي لمحاربة داعش بريت ماكغورك وآخرين في الإدارة الأميركية.
ويبدو أن الولايات المتحدة تعتقد أن الأسد سيغادر هو الآخر في نهاية المطاف، أو على الأقل أنَّ بإمكانها إعاقة إعادة إعمار غربي سوريا إلى أن يفعل ذلك. وأشار ماتيس إلى أنَّ الأموال الإضافية لإعادة إعمار سوريا ستكون "بانتظار مغادرة الأسد". وهذا يعني أنَّ الولايات المتحدة تتوقع البقاء شرقي سوريا في المستقبل القريب.
مصير الشرق السوري
ورأت The National Interest أن هناك ثلاثة سيناريوهات لما قد يبدو عليه شرقي سوريا في ظل بقاء الولايات المتحدة.
السيناريو الأول: يتضمَّن خفضاً تدريجياً للقوات الأميركية وقوات التحالف طالما هُزِم داعش. وفي ظل سير عملية إرساء الاستقرار على ما يرام ستستمر قوات سوريا الديمقراطية في المفاوضات مع النظام والتي بدأت بزيارة من مجلس سوريا الديمقراطية المرتبط بقوات سوريا الديمقراطية في يوليو/تموز.
ويكمن الخطر هنا في إمكانية اندلاع جولة جديدة من القتال بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية بينما تسحب الولايات المتحدة دعمها الجوي، وكذلك في أن يُنظَر إلى الولايات المتحدة باعتبارها تتخلّى عن حلفائها الذين ساعدوها على هزيمة داعش.
السيناريو الثاني: أن تستثمر الولايات المتحدة بقوة في إرساء الاستقرار وتطيل أمد المعركة ضد داعش لسنوات أخرى عديدة بحجة أن داعش لم يُهزَم فعلاً. ومن شأن هذا وضع ضغوط على نظام الأسد من أجل التغيير، "وسنرى الولايات المتحدة تُحذِّر تركيا من أي هجمات على منبج"، وفقاً للمجلة.
ومن شأن هذا أن يعني استثماراً كبيراً في الرقة وإيجاد موطئ قدم للسلك الدبلوماسي والوكالة الأميركية للتنمية الدولية والمنظمات الأخرى التي تعيد إعمار سوريا. ولم تقم الولايات المتحدة حتى الآن إلا بالحد الأدنى من الجهود لإعادة الإعمار، وتدير الكثير من المناطق مثل منبج أمورها دون دعم. لكنَّ الرقة ومناطق أخرى تتطلَّب المزيد من الاستثمارات. وسيحاول النظام إجبار الولايات المتحدة على الخروج عن طريق تشجيع عدم الاستقرار بين قبائل وادي الفرات. وهذا أمرٌ فعله النظام للتسبُّب بمشكلات للولايات المتحدة في العراق.
والسيناريو الثالث: الاستثمار القوي في منطقة حكم ذاتي شرقي سوريا على نحوٍ مشابه لما فعلته الولايات المتحدة شمال العراق بعد 1991، والذي أدَّى إلى إنشاء إقليم كردستان العراق.
ولدى الولايات المتحدة بالفعل التزامات بلا نهاية مُحدَّدة في مناطق كأفغانستان وعشرات الدول حول العالم، لاسيما في إفريقيا، حيث تنشط القوات الأميركية الخاصة والمدربين الأميركيين للمساعدة في مكافحة الإرهاب.
ويشير السفير السابق فورد إلى أن الولايات المتحدة قامت بعمل جيد في تفاديها سقوط ضحايا شرقي سوريا. لكن إن تغيَّر ذلك، يقول فورد إنَّ الناس سيتساءلون: "ما الذي نتورط فيه؟".
وهذا يشير إلى السؤال الأكبر بشأن الاستراتيجية. إذ قالت الولايات المتحدة إنَّها تقاتل داعش في شرق سوريا. لكنَّ بومبيو وترمب كليهما وضعا برنامجاً قوياً للتصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة.
فقال بومبيو في مايو/أيار الماضي: "على إيران سحب كل القوات الموجودة تحت القيادة الإيرانية عبر كامل سوريا".
وقد تساعد القوات الأميركية شرقي سوريا بأن تكون سداً في وجه النفوذ الإيراني، وحاجزاً بين النفوذ الإيراني في العراق والنفوذ الإيراني في دمشق. وفي هذا السياق يقول فورد: "ينصح البعض ترمب بترك القوات هناك للتصدي لإيران". لكنَّه متشكك في حدوث ذلك. فيضيف: "تأمل إدارة ترمب بأن يُخرِج الروس إيران، لكن الروس لن يخرجوها".
خيارات واشنطن في سوريا
وتواجه الولايات المتحدة مفترق طرق في سوريا. فالإدارة كانت مُتكتِّمة بشأن الإعلان عن سياسة جديدة في شرق سوريا. والدور الأميركي هناك لا يُمثِّل سابقة. إذ أرسلت الولايات المتحدة قوات إلى سوريا لقتال داعش، ووجدت حلفاء مهمين، والآن تجد نفسها تساعد في حماية منطقة في إحدى الدول.
تشعر واشنطن بالارتياح تجاه التعامل مع الحكومات أكثر من التعامل مع كيانات مثل قوات سوريا الديمقراطية. ويتعقَّد هذا أكثر بحقيقة أن تركيا، الحليف التاريخي لأميركا، تعارض الدور الأميركي.
وتواجه الولايات المتحدة كذلك صعوبة في الموازنة بين رغبات الأطراف المحلية التي تعمل معها وسياستها الأكبر. وقد رأت واشنطن مدى التنازع الذي قد يثيره هذا الأمر في شمال العراق، حيث رفضت حلفاءها في إقليم كردستان من أجل العمل بصورة أوثق مع بغداد.
هذا برغم حقيقة أن الأحزاب السياسية الرئيسية في بغداد مُقرَّبة من طهران، التي يُزعَم أنَّ السياسة الأميركية الحالية تتصدى لها. وستُشجِّع الأصوات البراغماتية والمصالحية اتباع النهج ذاته مع تركيا، والعمل معها حتى في ظل انجراف أنقرة أقرب وأقرب باتجاه روسيا.
وبالفعل تشعر قوات سوريا الديمقراطية بتشكك حيال الولايات المتحدة بعد رؤية تركيا تسيطر على عفرين، التي كانت وحدات حماية الشعب الكردية تتولى السيطرة عليها حتى يناير/كانون الثاني الماضي.
وأمام هذا الواقع الجديد في سوريا، رأت المجلة الأميركية أن المستوى الدبلوماسي سيكون هو الجزء الأخير من الصراع السوري. مشيرةً إلى أن الولايات المتحدة استثمرت في عملية جنيف التي لم تؤدِّ إلى أي نتائج بشأن الحل السياسي في سوريا.
في حين استثمرت روسيا في عملية أستانا التي أسفرت عن سلسلة من اتفاقات خفض التصعيد. وتمكَّنت روسيا بذلك من إبقاء الولايات المتحدة خارج مفاوضات مستقبل سوريا عن طريق العمل مع إيران وتركيا فقط.
وهذا يعني أن الدور الأميركي شرقي سوريا يتم في فراغ دون مسارٍ دبلوماسي أو مسار يمزج بين الدبلوماسية والشؤون العسكرية.
وختمت المجلة الأميركية بالقول: "الخيار الأمثل للولايات المتحدة الآن هو تبنّي سياسة تمزج بين برنامجها لمحاربة داعش وسياستها تجاه إيران من جهة، ومهمة جديدة شرقي سوريا من جهةٍ أخرى".