في ظلِّ تصاعُد حدة التوتر بين روسيا والغرب، أثار التودُّد الروسي لتركيا قلقاً على كلتا ضفَّتي الأطلنطي، واتُّهِمت روسيا بمحاولة "قلب ولاء" تركيا من خلال بيعها نظام الدفاع الجوي "S-400" وصفقات الطاقة المُبرمة بين الدولتين. لكن هذا التقارب الروسي التركي كان أيضاً بفضل الخطة التي اعتمدتها روسيا والتي نجحت في استمالة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأيضاً في تغيير نظرة الأتراك السلبية إليه.
فقد كان شهر يونيو/حزيران 2018 عصيباً على مجلس إدارة محطة أكويو للطاقة النووية، المشروع التركي-الروسي الضخم وأول مفاعلٍ نووي في تركيا. وكشف تقرير لمجلة The National Interest الأميركية، أنه في يوم 19 يونيو/حزيران 2018، اعتقلت السلطات الروسية كارينا تسوركان؛ على خلفية تهمٍ بالتجسس، وهي مديرة تنفيذية بشركة Inter RAO الروسية، الواقع مقرُّها في موسكو، والعضوة السابقة بمجلس إدارة "أكويو".
الغرب "قلِق" من التقارب الروسي التركي
وبعد يومين، في يوم 21 يونيو/حزيران 2018، كشف صحافيٌّ تركي، باستخدام وثائق مسرَّبة من المؤسسة القانونية نفسها التي سُرِّبَت منها وثائق بنما، عن صفقة بقيمة 15 مليون دولار تضمَّنت تضارباً مزعوماً في المصالح بين عملاق البناء التركي محمد جنكيز وشركة استشارية خارج البلاد مقرها جزر فيرجن البريطانية. كان مدير هذه الشركة الاستشارية، الروسي-الأذربيجاني فؤاد أخوندوف، هو المدير التنفيذي السابق لـ"أكويو" وعضواً بمجلس إدارتها حتى فبراير/شباط 2018. وكان جنكيز نفسه أحد المزايدين على تملُّك حصةٍ بمحطة أكويو، في صفقةٍ باءت بالفشل عام 2017.
وفي ظلِّ تصاعُد حدة التوتر بين روسيا والغرب، أثار التودُّد الروسي لتركيا قلقاً على كلتا ضفَّتي الأطلنطي. وبالفعل، صرَّحت مبعوثة الولايات المتحدة لدى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كاي بيلي هوتشيسون، يوم 8 يوليو/تموز 2018، بأنَّ روسيا تحاول "قَلب ولاء" تركيا من خلال بيعها نظام الدفاع الجوي "S-400" وصفقات الطاقة المُبرمة بين الدولتين.
وفي حين أنَّ تلك الصفقات بين حكومتي البلدين مهمة بالتأكيد، فإنَّها تطغى على حملةٍ روسية أكثر هدوءاً، لكنَّها تضاهيها في الأهمية، لـ"قلب" مجتمع الأعمال التركي النافذ. وسلَّطت محطة أكويو النووية، والفضائح التي لحقت بمجلس إدارتها، الضوء على المحاولات الروسية للحصول على تأثيرٍ على أردوغان ومستشاريه من خلال القطاع الخاص المحلي، فيما يبدو أنَّه عملية بناء تدريجي لقُدرةٍ "حرب هجينة" ضدَّ حليف أساسي للولايات المتحدة في الناتو.
خاصة بعد نجاح روسيا في "استمالة" تركيا
أصبح مصطلح "الحرب الهجينة" مصطلحاً شاملاً يُعبِّر عن
تسخير روسيا مواردها الاقتصادية والسياسية والمالية والخفية والعسكرية لتحقيق أهداف سياستها الخارجية المرجوَّة في دول الاتحاد السوفييتي سابقاً وفي الغرب.
إذ تستخدم موسكو الموارد الاقتصادية والشركات الروسية لممارسة نفوذها على وسطاء السلطة الرئيسيين في الدولة المُستهدَفة، وعادةً ما تمارس ضغطاُ للحفاظ على -أو زيادة- اعتماد الدولة على الطاقة الروسية على المستوى الحكومي. وفي كتيب القواعد الذي يتبعه الكرملين، تتقرَّب الشركات الروسية من رجال الأعمال المحليين وصُنَّاع القرار في البلاد من خلال إغرائهم بصفقاتٍ تجارية مربحة ومناصب عُليا في مجالس إدارتها.
بل ونجحت حتى في تغيير النظرة السلبية للأتراك عنها
وفي تركيا -التي خاضت بدورها حروباً عدة مع روسيا على مدار القرنين الماضيين- يتوقَّع المرء أن يكون لدى العامَّة انعدام ثقة طبيعياً في روسيا والنفوذ الروسي المحتمل بالسياسة التركية. ولهذا، عمل الكرملين جاهداً لحيازة نفوذ، ليس فقط من خلال حملاتٍ دعائية نُفِّذَت ببراعة؛ بل أيضاً من خلال العقود بين الشركات الروسية ونظيرتها التركية، التي تُجريها شركاتٌ مثل شركة Rosatom، وهي الشركة المالكة لمحطة أكويو النووية. ويبدو أنَّ الجهود الروسية تلك تؤتي ثمارها؛ إذ بيَّن استطلاع رأيٍ في عام 2017، أنَّ أكثر من 70% من المواطنين الأتراك كانت لديهم آراء إيجابية تجاه عَقد تحالفٍ سياسي واقتصادي وأمني مع روسيا.
فضلاً عن التغلغل الروسي في "مشروعات أردوغان" الضخمة
ومحطَّة أكويو واحدة بين عدة مشروعات ضخمة أثيرة لدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويُشار إليها في الإعلام باعتبارها عامل بناء ثقةٍ أساسي في العلاقات التركية-الروسية. وسيكون المشروع، الذي تبلغ قيمته 20 مليار دولار، أول مفاعل نووي في تركيا، ويُتوقَّع أن يمد البلاد بنسبة 10% من احتياجها من الطاقة.
وكجزءٍ من الاتفاقية المشتركة بين الدولتين، قدَّمت شركة Rosatom الروسية للطاقة النووية التمويل لمحطة أكويو في مقابل تملُّكها حصة بنسبة 51% من المشروع. جادل منتقدو المشروع بأنَّه على تركيا السعى لتنويع مصادر الطاقة التي تحصل عليها من روسيا، لا أن تُضاعفه. وروسيا هي بالفعل أكبر مورِّدٍ للغاز الطبيعي وثالث أكبر مورِّد للنفط إلى تركيا.
وخلف الكواليس، لا بمن د أنَّ الطبيعة الحساسة لمشروع أكويو اقتضت الحصول على موافقة الحكومة الروسية على المُعَيَّنين بمجلس إدارته، ويمكننا افتراض أنَّ موسكو أرادت أن يتولَّى مجلس الإدارة أشخاص يَعون التبعات السياسية للمشروع الاقتصادي.
لكن.. ما الدور الذي لعبته "قضية التجسس" في ذلك!
وفي حين تتواصل قضية التجسُّس المتَّهمة فيها كارينا تسوركان، سلَّطت تفاصيل ماضيها الآخذة في الظهور ضوءاً على الدوافع الروسية لتعيينها بمجلس إدارة "أكويو". في الواقع، تُظهِر السيرة الذاتية لكارينا مرورها بأهمِّ النقاط الجغرافية الساخنة التي كُتِب فيها كُتيِّب قواعد الكرملين؛ إذ توضِّح قضيتها أنَّه في عالم سياسة الطاقة المُظلِم، يمكن لمسؤولي الشركات أن يعملوا كوكلاء للدبلوماسيين، وينخرطوا في نشاطاتٍ تفُضِّل القنوات الرسمية عدم التورُّط فيها.
كانت كارينا تسوركان، التي تدرَّبت على المحاماة، قد أبلغت بوجود صلات لها بشركة Dubossarskaya GES، وهي شركة طاقة تقع بجمهورية بريدنيستروفيه المولدوفية (ترانسنيستريا) التي انفصلت عن مولدوفا عام 1992 وظلَّت منذ ذاك الحين جمهورية مستقلَّة بحكم الأمر الواقع، لكنَّها تقبع فعلياً تحت سيطرة روسيا في ظلَّ وجودٍ مكثِّف لـ"قوات حفظ سلام" روسية.
وفي عام 2005، اشترت شركة الكهرباء الروسية العملاقة Inter RAO شركة Dubossarskaya GES، التي ما زالت تمدُّ مولدوفا بنسبة 70% من احتياجاتها من الكهرباء، ما يمنح ترانسنيستريا ورقة ضغط مهمة على مولدوفا. ويبدو أنَّ شركة Inter RAO وظَّفت كارينا لديها في أثناء دخول الشركة إلى السوق المولدوفية، وترقَّت المحامية شيئاً فشيئاً في صفوف الشركة قبل أن تُقال أخيراً مِن منصبها كـ"عضوة مجلس إدارة، ورئيسة الكُتلة التجارية" بعد 9 أيامٍ من اعتقالها.
وبالإضافة إلى جمهورية مولدوفا، تضمَّن ملف كارينا شبه جزيرة القرم، التي ضمَّتها روسيا، وجمهورية دونباس، وهي دولةٌ دُمية صنعها الكرملين من المنطقة المحتلَّة شرق أوكرانيا. وفي القرم ودونباس، تماماً كما هو الحال في ترانسنيستريا، يمثِّل إمداد الكهرباء سلاحاً فعالاً في يد روسيا، ويمكن للوكلاء الانفصاليين ورُعاتِهم اتِّخاذ المواطنين الأوكرانيين والمولدوفيين رهائن في شتائهم القارس بإشارة إصبع. لا عجب إذاً في أنَّ "الناتو" ومعه الاستخبارات الرومانية كانا مهتمَّين بالمعلومات التي امتلكتها كارينا.
وكيف أسهم ذلك أيضاً في تغلغل أشخاص مقرَّبين من أردوغان؟
حلَّ محل كارينا في مجلس إدارة محطة أكويو أحد المقرَّبين من أردوغان، وهو مستشار سابق بارز ومُدبِّره البارع، حسن جنيد زابسو. ويُعَد كلٌ من زابسو وعملاق البناء جنكيز -الذي نعرف الآن أنَّه حاول الحصول على خدمات استشارية من الرئيس التنفيذي السابق لـ"أكويو" فيما كان يحاول أن يصبح شريكاً بالمشروع- شخصين مُقرَّبين للغاية من رئيس تركيا أردوغان.
ويُوفِّر كلا الرجلين لموسكو قنواتٍ فعَّالة يصلون بها إلى الحاكم الأوحد لتركيا. والأهم من ذلك، أنَّه من المرجَّح أنَّ انخراط الدائرة المقرَّبة من أردوغان في مشروعات للطاقة بالشراكة مع روسيا قد يخلق "حلقةً مثمرة" في استراتيجية الحرب الهجينة الروسية؛ وذلك نظراً إلى المبالغ والعقود الماثلة على المحك.
وبدءاً من الانكشاف التركي المتزايد في مجال الطاقة لصالح روسيا وحتى وضع المقرِّبين من أردوغان في جيبها، يبدو أنَّ "أكويو" والكرملين قد ضربا عصفورين بحجرٍ واحد. وفي ظل الدعوات المُتصاعدة بواشنطن لفرض عقوباتٍ مُحتملة على تركيا لشرائها نظام الدفاع الجوي "S-400" روسيّ الصنع، فإنَّ مثل هذا التأثير الروسي في تركيا قد يكون ذا قيمة أكثر من أي وقتٍ مضى.
اقرأ أيضا
تركيا تسحب ذهبها من أميركا.. فما علاقة صواريخ إس-400 بهذه الخطوة التصعيدية المفاجئة؟