داخل الأوساط المسيحية ، يحدث الآن صراع ربما هو الأكبر في تاريخ الكنيسة المعاصر. فالبعض يرى أن الأنبا أبيفانيوس تمت تصفيته، والبعض الآخر يرى أنها عمل إرهابي على يد "مسلم متطرف"، وما بين هذا وذاك، اندلعت المعارك داخل "الجروبات" المسيحية على الشبكات الاجتماعية، وفي منتدياتهم الخاصة، وسط ترقّب حذِر من المسلمين، في انتظار ما ستسفر عنه نتائج التحقيقات.
وأعلنت الكنيسة القبطية رسمياً، الأحد، وفاة الأنبا أبيفانيوس، أسقف ورئيس دير أبومقار (القديس مقاريوس) بوادي النطرون داخل ديره في ساعة مبكرة من صباح الأحد 29 يوليو/تموز.
وذكر بيان الكنيسة: "نظراً لأن غموضاً أحاط بظروف وملابسات رحيله، تم استدعاء الجهات الرسمية وهي تجري حالياً تحقيقاتها حول هذا الأمر، وننتظر ما سوف تسفر عنه نتائج هذه التحقيقات، على أن يتم تحديد موعد وترتيبات صلاة جنازته".
"عربي بوست" تواصلت مع أحد رهبان دير "أبومقار" في محاولة لفهم ما حدث وسر تلك الأزمة القائمة.
حادثة قتل واضحة
لم يكن دخول الدير سهلاً أو ممكناً في تلك اللحظة، حيث الأمن يحيط بكل شبر به؛ لذا فقد فضّل الراهب القبطي أن نجري حوارنا معه عبر الهاتف شريطة ألا نذكر اسمه.
"الأنبا أبيفانيوس اتقتل يا فندم بدم بارد"، هكذا بدأ الراهب حديثه واصفاً تفاصيل المشهد.
وأضاف: "لم أكن في نطاق مسرح الجريمة حين تم اكتشافها، كنت في الجانب الآخر من الدير، لكن أصوات الصراخ لفتت أنظار الجميع، ذهبت عدْواً صوب مصدر الصوت لأجد الأنبا أبيفانيوس ملقى على الأرض قرب بلوك 5، حيث محل إقامته وهو غارق في دمائه".
انقسام حول التغطية على الحادثة
وقال إنه كان واضحاً أن الأنبا ضُرب أثناء توجهه صوب الكنيسة لإقامة صلاته الصباحية، "لكن الذي لم يكن واضحاً ما الذي حدث؟ وما الذي سنفعله؟"، هكذا يصف الراهب لحظة الارتباك تلك.
وأضاف أنه في البداية كان التوجه العام هو أن "نطفي على الخبر ماجور (مثَل يُضرب عند الشروع في التكتم على خبر أو واقعة ما)، ولا نتحدث عنه، ويذاع أن الأنبا أبيفانيوس وفاته كانت طبيعية". لكنه ذكر أن عدداً من أصوات تلامذته أصرت على عدم "الطرمخة"؛ ليرد الفريق الآخر "ومن قال إننا نريد التغطية، نحن فقط نحافظ على منظر وهيبة الكنيسة".
ووسط تهديدات من هنا وانفعالات من هناك، حسم البابا تواضروس، رأس الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، الجدل بقرار الاتصال بالشرطة لتحري أسباب الجريمة، ولم تمضِ دقائق حتى بدأت القصة تخرج من نطاق الدير لعالم صفحات التواصل الاجتماعي.
انقسام داخل الكنيسة هو السبب وراء حادثة القتل
الراهب القبطي يجزم بكل ثقة أن ما حدث للأنبا أبيفانيوس هو "اغتيال بأيدٍ قبطية، وليست عملية إرهابية".
واستطرد شارحاً: "هناك انقسام عنيف جداً داخل الكنيسة، بين مَن يطلق عليهم الحرس القديم (رجال البابا السابق شنودة)، وبين التيار المجدد (تلامذة الأب متّى المسكين)، "نتحدث هنا عن صراع حقيقي لا أستبعد أن يفضي إلى ارتكاب جريمة"، على حد تعبيره.
يلخص الراهب لنا أسباب الصراع قائلاً إن الحرس القديم يمكن وصفهم بالمحافظين أو الراديكاليين، ومواقفهم "أكثر تزمتاً وتشدداً" حيال كثير من القضايا الدينية والسياسية إلى حد بعيد، خصوصاً ملف المصالحة والتقارب مع الكنائس الأخرى. وتابع: "أما الفريق الآخر فهم مع المصالحات والتقارب".
وأوضح أن البابا تواضروس هو من رجال متّى المسكين، وقد تحرك الرجل فعلاً صوب الاعتراف بالكنائس الأخرى، وذلك في اللقاء التاريخي الذي جمعه ببابا الفاتيكان بالقاهرة، "الرجل كان يسعى لوقف تاريخ طويل من التكفير بين الكنائس المختلفة والمصالحة التامة، وهو ما لم يعجب رجال الحرس القديم الذين يرون ذلك هرطقة (كُفر)".
وقد شنت معركة شرسة عليه حينها دفعته للتراجع قليلاً، وإن كان لم يتوقف نهائياً.
مقتل الأنبا أبيفانيوس يحمل رسالة إلى البابا تواضروس
يعتبر الأنبا أبيفانيوس أحد رؤوس الحربة في فريق المجددين الذي يضم البابا تواضرس شخصياً، ويضم أيضاً الأنبا رافائيل أسقف وسط القاهرة وسكرتير المجمع المقدس، والأنبا أنجيلوس الذي أرسله تواضروس إلى أميركا لحمايته هو وآخرين خشي عليهم البابا فأرسلهم لأميركا.
لكن ما يميز الأنبا أبيفانيوس، الذي كان يشرف على مكتبة المخطوطات والمراجع بكل اللغات في الدير، أنه "رجل دين مجدد وعالم لغويات ومهتم بالتراجم"، على حد تعبير الراهب، الذي أضاف أنه جرى شن حملة شنعاء على الرجل اتهمته بالكفر من قبَل الحرس القديم، وحاولت اغتياله معنوياً، ووصفه بالمهرطق.
والأنبا إبيفانيوس من مواليد 27 يونيو/حزيران 1954 في مدينة طنطا بمحافظة الغربية، وهو حاصل على بكالوريوس في الطب، والتحق بالدير في 17 فبراير/شباط 1984، قبل أن يرسم راهباً في 21 أبريل/نيسان 1984، باسم الراهب أبيفانيوس المقاري، ورسم قِساً في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2002، وكان يشرف على مكتبة المخطوطات والمراجع بكل اللغات في الدير، واختير رئيساً للدير بالانتخاب في 10 مارس/آذار 2013.
وأضاف أن هذا تماماً مثلما حدث مع الأب متّى المسكين، الذي شن البابا شنودة ورجاله "حرباً منظمة" عليه لسنوات طويلة، لكن الرجل لم يأبه بذلك واستمر في مساره، سواء صوب المصالحة أو صوب قضايا لاهوتية (عقائدية) أخرى، وهو ما لم يُرضِ الغاضبين.
يستكمل الراهب حديثه قائلاً: "مستحيل أن يكون شخص ما جاء من خارج الدير، فهذا الدير معزول تماماً عن أديرة وادي النطرون، هو أشبه بالحصن، هذا أولاً".
ودير الأنبا مقار يقع بوادي النطرون، وينسب للأنبا مقار وهو تلميذ الأنبا أنطونيوس الكبير مؤسس الرهبنة القبطية، ويعود تاريخة إلى القرن الرابع الميلادي، ويعد الأب متّى المسكين الأب الروحي للدير في العصر الحديث، واشتهر الدير ورهبانه بخلافهم فكرياً مع الكنيسة في بعض الأمور اللاهوتية، وحدث صدام بين الدير والكنيسة في عهد البابا الراحل شنودة الثالث، إلا أن البابا تواضروس اهتم به، وسيّم عليه الأنبا أبيفانيوس.
وتبلغ مساحة الدير الإجمالية حوالي 11.34 كم2 شاملة المزارع والمباني التابعة، ويحتوي على 7 كنائس، وملحق بالدير متحف صغير ومشفى ومحطة لتوليد الكهرباء ومطبعة ومكتبة تضم مخطوطات نادرة، وهناك مساكن للعاملين بالدير من غير الرهبان.
وأكمل الراهب حديثه: "ثانياً، الرجل استشهد الساعة 3 فجراً أثناء تحركه من قلايته (سكنه) صوب كنيسته، لا يعلم أحد أنه يقطن البلوك الخامس ولا يعلم أحد أنه يسير لمسافه 100 متر مرتجلاً وحده صوب الكنيسة إلا شخص من الدير، شخص مألوف، ووجوده لا يثير أي شبهات، فالقاتل إما عامل أو راهب من الكنيسة".
الأمن مسيطر بالكامل
وعن الموقف الآن داخل الدير، يجيب الراهب بأن الأمن مسيطر تماماً على كل شيء، ورجال الأمن الوطني (وسمعت أن المخابرات العامة أيضاً حاضرة) يستجوبون الجميع سعياً لمعرفه الجاني، وإن كان الكثير يقولون إن الأمر لن يتم الإفصاح عنه خشية إحراج الكنيسة والرئاسة.
"دعنا ننتظر ونرَ ماذا سيحدث، نحن أمام جريمة تاريخية يصعب تجاهلها أو التغطية على فاعلها، مقتل اسقف داخل الدير عمل لا يمكن أن يمر هكذا".
ويختتم الرجل حديثه قائلاً: "لا شك لدي أن قتل الأنبا أبيفانيوس هو رسالة للبابا تواضروس شخصياً، هم يقولون له تراجع عما تفعل وإلا ستلقى أنت الآخر مصير رجالك، وها هو رأس حربتك الفكرية قُتل أمام مسكنه، فتدبّر واعلم جيداً خطورة ما تفعل".
وحاولت "عربي بوست" التواصل مع وزارة الداخلية المصرية، لكنها رفضت التعليق، قائلة إن القضية قيد البحث ولا يوجد حتى الآن ما يقال.
وعلمت "عربي بوست" من مصادر مطلعة أن تشريح الجثة يشير إلى أن سبب الوفاة هو ضربة بآلة حادة على الرأس، مما يعني أننا أمام جريمة قتل.