بين عشية وضحاها أصبحت مصر قوة إقليمية كبيرة، في مجال تصدير الغاز الطبيعي، بعد الاكتشاف الأخير لحقل نور، الذي تم الإعلان عنه قبل أسابيع؛ ما دفع المهتمين بشؤن الطاقة للحديث عن دور هام للقاهرة في تصدير الطاقة لأوروبا.
سكوت ماكدونالد: كبير مديري شركة KWR International الاستشارية الاقتصادية وكبير الاقتصاديين في شركة Smith's Research & Gradings، سلَّط في تقرير نشرته مجلة The National Interest الأميركية، الضوء على هذا التطور الكبير في مجال الغاز الطبيعي.
وبحسب المجلة الأميركية، فإنَّ تطوُّراً جديداً شهدته المياه قُبالة الساحل الشمالي المصري قد يمنح أوروبا المتعطِّشة للطاقة خياراً جديداً، وبهذا يُغيِّر من آلية سياسات الطاقة في قارتي أوروبا وآسيا، بعد انتقادات الرئيس الأميركي دونالد ترمب للقارة العجوز بأنها أسيرة لرغبات روسيا.
اكتشاف سيغير قواعد اللعبة
في أواخر شهر يونيو/حزيران 2018، أفادت تقارير بأنَّ حقلاً ضخماً للغاز الطبيعي، يُدعى "نور"، قد اكتُشِف من جانب شركة Eni، شركة الطاقة الإيطالية الكبرى، قبالة ساحل شمال سيناء. ومع أنَّ المزاعم المبدئية لحجم حقل نور قد تكون مبالغاً فيها (إذ إنَّه لا يُتوقَّع الانتهاء من حفر بئرٍ استكشافية بالحقل قبل شهر أغسطس/آب 2018)، فإنَّ هناك احتمالاً لأن تكون إمكانات الغاز الطبيعي البحري المصري كبيرة، على نحوٍ ربما يُغيِّر قواعد اللعبة، بحسب المجلة الأميركية.
وتشير التقديرات إلى احتواء حقل نور على 2.55 تريليون متر مكعَّب من احتياطي الغاز المؤكَّد، ما قد يرفع احتياطيات مصر المؤكدة من الغاز من 1.8 تريليون متر مكعب (وفقاً لتقرير شركة British Petrolium عام 2016) لتصبح 4.4 تريليون، وهو ما يضع مصر في مستوى الجزائر ونيجيريا نفسه، لكنَّها ستظل خلف عمالقة الغاز الطبيعي قطر وإيران وروسيا والولايات المتحدة. وبهذا الاكتشاف، مقترناً بالاكتشاف السابق لحقل غاز ظهر في عام 2015، من المتوقَّع أن تعود مصر لتصبح دولة مُصدِّرةً للغاز في عام 2019.
نبأ هام بلا شك لمصر
ويعد اكتشاف حقل غازٍ طبيعي ضخم نبأً هاماً بالنسبة لمصر. فالبلاد عانت منذ ثورة يناير/ كانون الثاني عام 2011، مروراً بتجربة ديمقراطية وجيزة تولَّت فيها حكومةٌ من جماعة الإخوان المسلمين البلاد في عام 2012، ثم انقلاب عسكري عام 2013. وفي عام 2014، اعتلى الفريق عبد الفتاح السيسي السلطة، ساعياً لإبقاء البلاد بعيداً عن قبضة الإخوان المسلمين وإرساء الاستقرار في اقتصادٍ مرَّ باختلالٍ خطير، بحسب المجلة الأميركية.
وأدَّت أعوام الاضطراب السياسي إلى خروج الاقتصاد المصري عن المسار الصحيح؛ إذ تباطأ النمو الاقتصادي بشكلٍ ملحوظ، في حين ظلَّت معدلات التضخُّم مرتفعة، وفرَّ الاستثمار الأجنبيّ من البلاد، واتَّسعت فجوة العجز المالي حتى بلغت مستوياتٍ خطيرة (إذ فاق نسبة 10% عدة سنواتٍ متتالية)، وتدنَّى إجمالي احتياطي النقد الدولي لأقل ممَّا يكفي لتغطية 3 أشهر من واردات السلع والخدمات. وعلاوةً على ذلك، ارتفع معدَّل البطالة من 9.2% في عام 2009-2010 إلى أعلى معدل بلغ 13.4% في عام 2013-2014. وبالإضافة إلى ذلك، تطلَّب وضع مصر الاقتصادي تدخلاً من جانب صندوق النقد الدولي لمُساعدتها، بحسب المجلة الأميركية.
وبدايةً من عام 2018، يُعَد الاقتصاد المصري سائراً على درب الاستقرار، في ظل تعافي معدَّل نمو الناتج المحلي الإجمالي، واعتدال نسب التضخُّم، وسَير خطط الضبط المالي في المسار الصحيح. كذلك تعافت احتياطات النقد الدولي من مستوياتها المتدنية. ومع أنَّه تحقَّق تقدُّم ملحوظ، فإنَّ تحدِّياتٍ كبرى ما زالت تواجه الاقتصاد المصري. فوفقاً لأحدث تقريرٍ من مشاورات المادة الرابعة أصدره صندوق النقد الدولي، يجب بذل المزيد من الجهد "لإصلاح الإطار الاقتصادي التنظيمي، وتقوية المنافسة، وتسهيل الوصول للتمويل وللأراضي، وتعزيز الحوكمة، والشفافية، والمُساءلة في المشروعات المملوكة للدولة، ودمج النساء والشباب بشكلٍ أفضل في سوق العمل". نُقطةٌ أخرى تثير القلق بالاقتصاد المصري هي العجز في الحسابين التجاري والجاري المزمنين بمصر. ففي عام 2016-2017، بلغ العجز التجاري 11.2% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين كان عجز الحساب الجاري يبلغ 6.1% من الناتج المحلي الإجمالي.
الزيادة السكانية ومشاكل النمو الاقتصادي
وبحسب المجلة الأميركية، يعد أحد العوامل الاقتصادية الإضافية في حالة مصر حجم سكَّان مصر الكبير، الذي بلغ 95.7 مليون نسمة في نهاية عام 2016، بحسب البنك الدولي. وكي يخلق الاقتصاد فرص عملٍ كافية لهؤلاء، فإنَّه يحتاج معدَّل نمو قوياً نسبياً. كان معدَّل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي 4.2% في عام 2017، ويتوقَّع البنك الدولي أن يرتفع إلى 5% عام 2018. ومع أنَّ معدَّل النمو قد ازداد، فإنَّ مصر بحاجة لنموٍ أسرع من هذا.
يجب النظر إلى اكتشاف حقل غاز نور من خلال هذه العدسة الاقتصادية؛ إذ سيُساعد انخفاض أسعار النفط الاقتصاد المحلي المصري، في حين تُساعد صادرات الغاز الطبيعي في توازن الحساب التجاري والحساب الجاري. وفي اللحظة الراهنة، يُوجَّه الغاز الطبيعي المُستخرَج في مصر إلى سوق الطاقة المحلِّي المتعطِّش فقط. وعلى سبيل المثال، تأتي أكثر من ثلاثة أرباع الطاقة في مصر من محطات تعمل بالغاز الطبيعي، وازداد استهلاك الطاقة المحلي بمعدَّل 14% أيضاً في عام 2017.
ومن حسن الحظ، فإنَّ مصر طوَّرت بنية تحتية ملائمة لتجارة الغاز الطبيعي: تمتلك مصر محطَّتين لإسالة الغاز أُقيمتا على امتداد الساحل الشمالي المصري، وهذا عنصر بنيةٍ تحتية شديد الأهمية؛ إذ يُحوِّل الغاز المُستخرَج إلى سائل يُمكِن شحنه. ومع أنَّ هذا عامل إيجابي رئيسي لمصر في تطوير تجارتها بالغاز الطبيعي، فإنَّه قد يُعقِّد أيضاً سياسة الطاقة بشرقي البحر المتوسط، بحسب المجلة الأميركية.
ففي فبراير/شباط 2018، عُقِد اتفاقٌ بقيمة 15 مليار دولار بين مُصدِّري غاز إسرائيليِّين وشركة مصرية، تُدعَى "دولفينوس"، يسمح لإسرائيل باستخدام محطَّات الإسالة المصرية. ومن شأن هذا الاتفاق أن يخلق سوقاً لغاز حقل ليفياثان البحري التابع لإسرائيل. وتُصدِّر إسرائيل الغاز بالفعل إلى الأردن، لكنَّها لا تمتلك محطةً للغاز الطبيعي المُسال. وبناء محطةٍ كتلك سيكون مشروعاً كبير التكلفة. ومن ثم، اعتُبِرَت محطَّات مصر غير المستغلَّة بصورة كاملة حلاً محتملاً؛ إذ يمكن لإسرائيل تصدير غازها الطبيعي إلى مصر، وربما شحنه بعد ذلك إلى أوروبا. وفي الوقت ذاته، كانت قبرص، التي قامت باكتشاف حقول غازٍ طبيعي أيضاً مؤخراً، لكنَّها هي الأخرى تفتقر إلى محطَّة إسالة، تتطلَّع إلى الشركات المصرية لمساعدتها. وعلاوة على ذلك، تجري مناقشات بشأن خطةٍ لإقامة خط أنابيب يربط بين مصر وقبرص وإسرائيل واليونان وإيطاليا.
حقل نور يرسم مصر على خريطة الكبار
أضاف اكتشاف حقل نور عنصراً جديداً إلى المشهد. السؤال الذي يواجه مصر حالياً هو الآتي: هل تحتاج مصر الآن إلى الارتباط بإسرائيل وقبرص؟ يقدِّم حقل نور لمصر مرونةً أكبر في تعاملها مع جيرانها؛ إذ إنَّ هذا الاكتشاف بجانب مشروعاتٍ أخرى للغاز الطبيعي قد يُلبّي الحاجة المحلية للغاز، ويضيف المزيد إلى قاعدة صادرات البلاد.
وفي الوقت ذاته، هناك مكاسب قد تجنيها من الإبقاء على التعاون مع قبرص وإسرائيل قائماً على جبهة الغاز الطبيعي. فكما أشار خبير اقتصاد النفط الدولي والمستشار لدى البنك الدولي ممدوح سلامة، في بداية شهر يوليو/تموز عام 2018: "بصفتها مركزاً لتجارة الغاز الدولية، ستجني مصر عائداً من تحويلها الغاز الطبيعي القبرصي والإسرائيلي، ومع الوقت اللبناني والسوري أيضاً، إلى غازٍ طبيعي مسال وإعادة تصديره بجانب الغاز الطبيعي المُسال المصري أيضاً إما إلى أوروبا وإما -على الأرجح- إلى منطقة آسيا-المحيط الهادئ، حيث يزداد الطلب على الغاز الطبيعي المُسال بوتيرة سريعة"، بحسب المجلة الأميركية.
لا تمثل مصر بالنسبة إلى أوروبا بديلاً فورياً للغاز الطبيعي الروسي. ومع ذلك، فإنَّ بعض الظروف مواتية بالفعل، وبعض الظروف الأخرى في طريقها للتحقُّق لتُصبِح مصر مركزاً رئيسياً لتجارة الغاز الطبيعي في شرقي البحر المتوسِّط، إلى جانب قيام شبكةٍ معقَّدة من مُنتجي الغاز المحتمَلين، وضمن ذلك قبرص وإسرائيل، وربما -على المدى البعيد- لبنان وسوريا.
الأمر ليس بالسهل!
وبحسب المجلة الأميركية، رغم كل ما سبق يبقى هُناك عوائق كبرى يجب تخطِّيها، ويتضمَّن ذلك قرار مصر المُتعلِّق بالمضي قدماً وحدها أم بصحبة شركاء تجاريين، إلى جانب المقاومة التركية لتطوير قبرص حقول غازها البحري، والحاجة لتحقيق درجةٍ من الاستقرار السياسي في سوريا. بيد أنَّ أمراً واحداً مؤكداً: بناء الجسور بين الدول عبر دبلوماسية الغاز الطبيعي أفضل من خوض الحروب. ومن شأن تطوير مركزٍ للغاز في شرقي البحر المتوسط، مصر في منتصفه، أن يقطع شوطاً طويلاً في بناء تلك الجسور عن طريق تقوية روابط الطاقة الإقليمية.