لم يكن يدور في خلد الطفل البوسنيّ الصغير عز الدين، الذي كان يقطن في سربرنيتشا ويلعب مع أترابه في السَّهلِ الأخضر الممتدِّ إلى ما لا نهاية، أنَّ ملعبهم الصغير سيتحوَّلُ إلى مقبرةٍ جماعية تضمُّ أهله وجيرانه ممن قُتلوا في المذبحة على يد الصرب خلال عام 1995، لم يكن يعلم أيضاً أن أيامه في هذا المكان ستكون معدودة، وأنه سينشأ في مكانٍ آخر مختلف تماماً لن يكون وطنه؛ فسوف يتحول إلى لاجئ.
ربما لو كان يعلم حينها لكان ودَّع المكان، ولكنه عوضاً عن ذلك كان يتجول بطمأنينة وينتقل بخفة من مكان إلى آخر غير عابئٍ بنظرات الهلع في عيون والدته، وبالخوف الكامن في صوت والده، والنظرات الزائغة في أعين جيرانه؛ فقد التقى الجنرالَ الصربيَّ راتكو ملاديتش وأخبره بأن أحداً لن يمسهم بسوء. ولكنّ الجنرال كان يكذب، ووعدت الأمم المتحدة أيضاً أهله بالحماية، ولكنها لم تفعل.
"عربي بوست" ينشر صوراً تُعرض لأول مرة لعشرات الفارين بعد وقوع مذبحة سربرنيتسا قبل 23 عاماً
كيف بدأت الحكاية؟
"أرض الفضة"، هكذا يعني اسم "سربرنيتشا" باللغة البوسنية؛ تلك المدينة الهادئة والواقعة في أقصى شرقي البوسنة، التي كانت تقع ضمن الاتحاد اليوغسلافي. كان المسلمون البوشناق يمثِّلون الأغلبية؛ إذ كانوا نحو 75% من السكان، وبعد إعلان السيادة الوطنية في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1991، بدأ تفكك الاتحاد اليوغسلافي. وفي 29 فبراير/شباط، أجري استفتاء لاستقلال البوسنة والهرسك، وجاءت نتائجه في صالح الاستقلال. وفي 6 أبريل/نيسان 1992، اعترف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية رسمياً بجمهورية البوسنة والهرسك.
رفضت الحكومة الصربية الاعتراف باستقلال البوسنة والهرسك، وعليه فقد هاجمت قوات صرب البوسنة، تدعمها الحكومة الصربية بقيادة الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش والجيش الشعبي اليوغسلافي، أراضي البوسنة والهرسك تحت دعوى توحيد الأراضي الصربية، وقد خلَّف هذا الهجوم حملات إبادة وتطهير عرقي ضد المسلمين البوشناق، وعليه فقد لجأ مسلمو البوسنة إلى استخدام السلاح من أجل صد القوات الصربية والدفاع عن أنفسهم.
الجنرال كذب، والأمم المتحدة تواطأت
اندلعت الحرب في البوسنة خلال أبريل/نيسان 1992، حيث اجتاحت القوات الصربية أراضي البوسنة، واستولت على سربرنيتشا البالغ عدد سكانها 36 ألف نسمة. وفي بداية عام 1993، شن الصرب هجوماً على المناطق التي يقطنها مسلمو البوشناق، وأضحت مدينتا سربرنيتشا وزيبا جيوباً معزولة من الأراضي التي سيطر عليها الصرب؛ وعليه فقد توافد المسلمون من جميع أراضي جمهورية البوسنة والهرسك إلى سربرنيتسا حتى تضاعف عدد سكانها وبلغ 60 ألف نسمة. وبسبب محاصرة الصرب مدينة سربرنيتسا من جميع الجهات، لم يكن يصلهم سوى القليل من الطعام والماء والمواد الطبية اللازمة، حيث عاش سكان المدينة ظروفاً إنسانية صعبة للغاية؛ بسبب ذلك الحصار المطبق عليهم من القوات الصربية.
تدخَّلت قوات الأمم المتحدة في أبريل/نيسان 1993؛ إذ أعلنت سربرنيتسا وزيبا مناطق آمنة تابعة للأمم المتحدة، ونشرت الأمم المتحدة قوات من أجل الحماية تمثلت في عناصر الكتيبة الهولندية، وقد طالبت قوات الأمم المتحدة المتطوعين البوسنيِّين بتسليم أسلحتهم، وعليه فقد توقفت الهجمات الصربية على تلك المناطق، ولكنها ظلَّت تمنع وصول الطعام والماء والمواد الطبية، حيث لم يكن يصل إلى تلك الأماكن سوى القليل من القوافل الإنسانية، حتى أمر الرئيس الصربي آنذاك، رادوفان كاراديتش، بغلق آخر الأبواب في وجه المسلمين البوشناق، وقرر إيقاف جميع قوافل المعونات الإنسانية عن الوصول إلى مدينتي سربرنيتسا وزيبا، وبعدها بدأ مسلمو البوسنة يموتون جوعاً، وذلك تحت مرأى ومسمع من قوات الأمم المتحدة، التي لم تستطع حينها مساعدة سكان تلك المناطق.
يوم المذبحة..
في صباح 9 يوليو/تموز 1995، انهمر الرصاص على سكان سربرنيتشا، حيث أمر كاراديتش بشن هجوم متكامل على المدينة، وذلك بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش، وقد هاجمت القوات الصربية مركز المراقبة التابع لقوات حفظ السلام الهولندية، واحتجزت 30 جندياً رهائن، وفي اليوم التالي قصفت القوات الصربية سربرنيتسا وارتكبت أعمال قتل وترويع بحق سكانها العزَّل، وراح ضحيتها أكثر من 8 آلاف قتيل.
استدعت الكتيبة الهولندية التابعة للأمم المتحدة، بقيادة توماس كارمينس، الدعم من قوات الناتو. وفي اليوم التالي، قصفت طائرات الناتو دبابات القوات الصربية، ولكنَّ الصرب هددوا بقتل الجنود الهولنديين في حال استمرار القصف، وعليه توقفت الضربات الجوية. وفي 11 يوليو/تموز 1995، دخل القائد الصربي راتكو ملاديتش مدينة سربرنيتسا بعد أن سلمت قوات حفظ السلام جميع مراكز المراقبة وحواجز الحراسة دون أدنى مقاومة ومن دون القيام بأي محاولة تُذكر لحماية المدنيين العزل، الذين قامت القوات نفسها بسحب سلاح هؤلاء المدنيين منذ بدء الحراسة.
بعد المذبحة.. راتكو ملاديتش الذي كذب
قامت قوات الصرب، وبأوامر مباشرة من أعضاء هيئة الأركان الرئيسية للجيش الصربي، بعمليات تطهير عرقي ممنهجة ضد البوشناق؛ إذ عزلت الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و50 عاماً عن النساء والأطفال والشيوخ، وكُدسوا في المستودعات والحظائر والمدارس في المنطقة الواقعة خارج سربرنيتسا، ثم أُطلق عليهم الرصاص وأُلقيت جثثهم بمقابر جماعية، وبعدها قامت القوات الصربية بالتمثيل بجثثهم من أجل إخفاء الجريمة واغتُصبت النساء.
عندما بدأ التحقيق في الجريمة بفترة التسعينيات، حفر محققو جرائم الحرب التابعين للأمم المتحدة المقابر الجماعية وكشفوا الجريمة بالكامل، وذلك على الرغم من إصرار الصرب على عدم الاعتراف بجريمة الإبادة الجماعية؛ وخلال حفر المحققين بحثاً عن جثث الضحايا، وجدوا الرفات ممزقة، واضطر الخبراء إلى استخدام تحليل الحمض النووي لجمع أشلاء جثة واحدة ودفنها بعضها مع بعض؛ لأن العظام الموجودة في المواقع كانت على بُعد أميال بعضها من بعض.
بعد سنوات من المذبحة.. هل اعترف الجُناة؟
فور مهاجمة الصرب مدينة سربرنيتسا، ذهب الآلاف من البوسنيين إلى قاعدة الأمم المتحدة في بوتوكاري خارج سربرنيتشا، إلا أن الجنود الهولنديين سلموا الرجال والصبية إلى قوات الصرب ونقلوا النساء والأطفال إلى منطقة أخرى، وقد رفع أقارب ضحايا المذبحة قضية تحت اسم "أمهات سربرنيتسا"، وحكمت المحكمة العليا الخاصة في هولندا 2014، ومقرها في لاهاي، بأن كتيبة قوات حفظ السلام الهولندية لم تقم بواجبها لحماية ما يزيد على 300 شخص من البوشناق، وكان ينبغي لتلك القوات أن تعلم أن تسليم الرجال إلى قوات الصرب سوف يؤدِّي إلى قتلهم.
تجدر الإشارة إلى أن المحكمة الهولندية قضت بمسؤولية هولندا عن قتل 300 شخص فقط وتبرئتها من قتل ما يزيد على 7000 آخرين، وذلك بحجة أن هؤلاء لم يحتموا بقاعدة الأمم المتحدة وإنما احتموا بالغابات القريبة.
وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، حكماً بالسجن مدى الحياة على الجنرال الصربي راتكو ملاديتش، وأدانته بالتورط في جرائم إبادة جماعية خلال حرب البوسنة. يُذكر أن الجنرال ملاديتش يستأنف الحكم حالياً بهولندا.
وخلال عام 2006، أعلنت محكمة الجزاء الدولية وفاة الرئيس اليوغسلافي السابق، سلوبودان ميلوسيفيتش، داخل زنزانته بمعتقل الأمم المتحدة في شيفينينغن بلاهاي، وذلك بعد أكثر من 4 سنوات على بدء محاكمته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وعمليات إبادة سربرنيتسا.
وفي سياق متصل، مات أحد القادة العسكريين المسؤولين عن مذبحة سربرنيتسا وهو سلوبودان برالياك، عبر تجرُّعه السم في أثناء الحكم عليه من محكمة الاستئناف، التي أيدت إدانته بارتكاب جرائم حرب في البوسنة، وحُكم عليه قبل الوفاة بالسجن 20 عاماً.