في منتصف يوليو/تموز الجاري، وقبل زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ "التاريخية" إلى الإمارات، ظهر على السطح صراع بين البلدين على النفوذ في جيبوتي، مبرزاً أهمية تلك الدولة الصغيرة، وأكثر منها منطقة القرن الإفريقي ككل "استراتيجياً" بالنسبة لبكين، و"مصيرياً" إلى حد كبير بالنسبة لإمارة دبي، على وجه الخصوص.
وكانت شركة شركة "موانئ دبي"، الذراع الاقتصادية والاستراتيجية للإمارة الثرية، قد هددت باتخاذ إجراءات قانونية ضد جيبوتي والصين، على خلفية إنشاء الأخيرة منطقة تجارة حرة دولية في محطة حاويات "دوراليه"، على سواحل جيبوتي، تزعم الشركة امتلاكها امتيازات تطويرها بموجب اتفاقيات سابقة.
خلاف بين جيبوتي والإمارات
وجاء التحذير بعد أسبوع من إطلاق بكين المرحلة الأولى من أعمال إنشاء المنطقة، التي يُخطط لها أن تكون الأكبر من نوعها في إفريقيا، وبعد أسابيع من إلغاء جيبوتي امتيازات الشركة الإماراتية التي تعود إلى عام 2004 وتمتد 50 عاماً، بزعم أنها تنضوي على "انتهاك صارخ لسيادة الدولة والمصالح الوطنية".
والشركة الإماراتية العملاقة، التي تدير 78 ميناءً في 40 دولة حول العالم، لم تكن حتى قبل تدهور الموقف في جيبوتي مطمئنة، إزاء تموقعها في القرن الإفريقي وبوابات البحر الأحمر.
وفي هذا السياق، سعت مؤخراً إلى امتلاك امتيازات في موانئ كل من اليمن، وإريتريا، وجمهورية أرض الصومال (صوماليلاند) المنفصلة فعلياً عن مقديشو.
لكن ذلك النفس التوسعي، مع عدم رضا جيبوتي من عوائد الاتفاقية بعد 14 عاماً من توقيعها؛ شكك في اهتمام الإمارات بتطوير تلك النقاط الاقتصادية المهمة، بقدر حرصها على الاستئثار بها، وحرمانها من منافسة الموانئ المحلية، خصوصاً لصالح طرف ثالث.
وتجدر الإشارة هنا إلى اعتماد اقتصاد الإمارات، لا سيّما إمارة دبي بشكل كبير، على موانئ البلاد، إذ تتوسط الطريق البحري الأهم في التجارة العالمية، بين الشرق والغرب.
كما تتميز تلك الموانئ، وأكبرها "جبل علي"، بطاقة استيعاب واستقرار وخدمات تفوق نظيراتها على امتداد المسافة التي تقطعها السفن منذ أن تغادر موانئ سنغافورة، في الجنوب الشرقي، حتى وصولها ميناء روتردام الهولندي، في الشمال الغربي، أو العكس (بمعدل 30 يوماً من الإبحار).
في المقابل، فإن الصين معنية بامتلاك موطئ قدم على امتداد هذا الطريق التجاري، الذي يعد الشريان الرئيسي لاقتصادها العملاق، وقد تنامى ذلك الاهتمام منذ إطلاقها استراتيجية "الحزام والطريق"، عام 2013.
وتتضمن الرؤية الطموحة تطوير عدة مشاريع في عشرات دول، تشكل ممرات أو أسواقاً لمنتجاتها أو مصادر للمواد الخام، بتكلفة إجمالية تبلغ تريليون دولار، وأعمالاً قد تستغرق عقوداً؛ لتتحول الاستراتيجية إلى العمود الفقري لسياسة البلاد الخارجية.
بل إن "الحزام والطريق" قد يتحول إلى جزء أساسي في استراتيجية بكين العسكرية الخارجية، ولسوء حظ دبي، فقد ظهرت أولى إشارات ذلك التحول المحتمل في جيبوتي بالذات، التي استضافت العام الماضي أول قاعدة عسكرية تنشئها الصين خارج أراضيها.
"الشكوى" لن تفلح.. فما خيارات الإمارات؟
ولا يبدو أن التهديد بتقديم شكوى لدى القضاء الدولي سيفلح في مواجهة النفوذ الصيني المتنامي في المنطقة، وقد يكون القبول بالأمر الواقع بصيغة اتفاقية تضمن لدبي موقعاً مهماً على الطريق التجاري الصيني، أمراً وارداً، وإن أدى ذلك إلى تقليص طموحات الإمارات الكبيرة، وأثار استياءً لدى حلفائها الأميركيين.
كما ظهرت في الأسابيع الأخيرة فرصة لعب ورقة أخرى، تمثلت في تقدم إثيوبيا وإريتريا نحو إنهاء نزاعهما الذي استمر عقوداً، والذي أسهم إلى حد كبير في تضخيم أهمية جيبوتي الاقتصادية.
وكانت جيبوتي، ولا تزال حتى اللحظة، تشكل معبراً رئيسياً لصادرات وواردات إثيوبيا، الدولة الإفريقية الكبرى، المحرومة من سواحل بحرية، نظراً إلى الخلافات الحادة بين أديس أبابا وأسمرة، والاضطرابات في الصومال.
إلا أن إعادة البلدين الجارين جسور التواصل بينهما، قد تفرز ظهور إريتريا كبديل للموانئ الجيبوتية، برعاية إماراتية، ولكن هذه المرة من خلال عمل حقيقي وكبير لمنافسة الحضور الصيني، وتعويض الخسائر المحتملة للموانئ المحلية، واستعادة ثقة دول المنطقة.
ولكن هذا الخيار يواجه العديد من التحديات، أولها تمتع أديس أبابا بعلاقات جيدة مع بكين وجيبوتي، وقطع الأخيرة أشواطاً في إنشاء البِنى التحتية الاقتصادية التي تفتقر إليها إريتريا؛ إذ أعلنت العام الماضي عن العمل على إنشاء ثلاثة موانئ جديدة وسكة حديد تربطها بإثيوبيا.
يُذكر أن أبوظبي تتمتع بالفعل بعلاقات جيدة مع أسمرة (عاصمة إريتريا)، وقد سمحت الأخيرة لها باستخدام ميناء "عصب" في إطار حرب اليمن، التي تخوضها إلى جانب السعودية ضد "الحوثيين"، منذ سنوات.
وباستثناء التصريحات البروتوكولية، لم يرشح حتى الآن ما هو أهم من لقاءات الرئيس الصيني في الإمارات، إلا أن الأخيرة ستناور بالتأكيد، وقد تسعى إلى استخدام جميع الخيارات المتاحة في آن واحد، بالنظر إلى "مصيرية" الملف بالنسبة لها، وفي كل الأحوال، سيكون لتحدي العملاق الصيني أثمان باهظة بالتأكيد.