ألينا بولياكوف*
بعد القمة يأتي رد الفعل العنيف، وبعد رد الفعل العنيف يأتي التراجع.
إذا كان الهدف الذي قصده ترمب من اجتماعه مع فلاديمير بوتين هو وضع روسيا والولايات المتحدة على مسارٍ يؤدِّي بهم لعلاقةٍ أكثر وداً، وهو ما قال الرئيس الأميركي مراراً إنَّه ما يريده، فإنَّ أداءه أثناء اللقاء قد حقَّق له العكس تماماً.
ففي أثناء حماسِه الساعي لعلاقةٍ أفضل مع بوتين -على سبيل المثال، عن طريق تشكيكه بالنتيجة التي وصل لها مجتمع الاستخبارات في بلاده بأنَّ روسيا تدخَّلت بسير الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة لتُساعد ترمب على الفوز- وضع ترمب المزيد من الذرائع لمن يريدون تقييده داخل الحكومة. لقد خرَّب سلوك الاحترام والمراعاة الذي أبداه ترمب تجاه بوتين في هلسنكي رغبة ترمب بـ"إعادة ضبط" العلاقات مع روسياً، والأرجح أنَّه ضمَن بذلك حدوث النقيض: اتِّباع حكومته لنهجٍ أكثر صرامة مع روسيا.
هناك فجوة بين ترمب والكونجرس إزاء روسيا
حاول ترمب التراجع عن تعليقاته المُنتقِصة من مجتمع الاستخبارات الأميركي، لكنَّ تصريحه المُربِك -الذي قال فيه: "قصدتُ أن أقول (لا يجعل) وليس (يجعل)" في تصريح "لا أرى سبباً يجعل روسيا هيَ الفاعلة"- من المستبعد أن يقنع منتقديه. هذا لأنَّ ترمب، حتى قبل أن يصبح رئيساً، كان ثابتاً للغاية في نظرته الإيجابية لبوتين وفي رغبته بـ"التوافق" مع روسيا. ومع ذلك، وبرغم رغباته المُعلَنة، فإنَّ إدارته (بضغطٍ من الكونغرس الأميركي) اتَّخذت سياسة ردعٍ حاسم تجاه روسيا. وقد اتسعت الهوة بين خِطاب الرئيس الموالي لروسيا وبين سياسات إدارته الصارمة تجاهها طيلة فترة ترمب الرئاسية، ومن المتوقَّع أن تتسع أكثر الآن بعد هذا اللقاء.
وترمب يوقع بيانات إدانة لروسيا تحت الضغط
منذ تولَّى ترمب المنصب الرئاسي، فرضت الولايات المتحدة عقوباتٍ على أكثر من 200 شخصية وكيان روسي، وطردت 60 دبلوماسي روسي، وأغلقت القنصلية الروسية بمدينة سياتل، ووافقت على صفقات بيع أسلحةٍ لأوكرانيا، وزادت إنفاقها بشكلٍ ملحوظ على الدفاع الأوروبي بغية ردع روسيا.
وبرغم النقد اللاذع الذي وجَّهه ترمب لحلفائه الأوروبيين في قمَّة حلف شمال الأطلسي (الناتو) المُقامة الأسبوع الفائت في بروكسل بحجَّة أنَّهم لا ينفقون المزيد على الدفاع، إلَّا أنَّ الولايات المتحدة وقَّعت على البيان المشترك الذي أصدره الناتو، والذي أدان روسيا على خلفية ضمها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، وهجوم الغاز السام الذي يُزعَم أنَّها نفَّذته في المملكة المتحدة، ورتكابها أعمال أخرى من أعمال العدوان ضد الدول الأوروبية.
وفي عام 2017، أقرَّ مجلس الشيوخ الأميركي تشريعاً يمنع الرئيس من رَفع أية عقوبات عن روسيا بصورة أحادية دون موافقة الكونغرس. كذلك يمنح القانون تفويضاً موسَّعاً للإدارة الأميركية لفرض عقوباتٍ على الشركات الروسية وزبانية بوتين. والغريب أيضاً أنَّ الرئيس نفسه عيَّن مستشارين تُعرَف عنهم آرائهم العدائية تجاه روسيا، أبرزهم وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون.
لكن لا يبدو أنَّ آراء ترمب عن روسيا قد تغيَّرت
هذا هوَ الشيء الذي أوضحه ترمب قبيل اجتماع هلسنكي.
إذ لمَّح ترمب إلى أنَّه قد يكون منفتحاً على الاعتراف بضم روسيا للقرم، لأنَّ "الجميع هناك يتحدَّث اللغة الروسية". ودعا كذلك إلى إعادة ضمّ روسيا إلى مجموعة السبع. وفي تجمُّعٍ نُظِّم بولاية مونتانا في وقتٍ سابق من الشهر الجاري يوليو/تموز، قال ترمب إنَّ بوتين "شخصٌ لا بأس به". وهُناك أدلَّة وفيرة أنَّ الانجذاب الذي يحمله ترمب لبوتين ظلَّ كما هو لم يتزحزح، رغم تشدُّقه من حينٍ لآخر بأنَّه أقسى على روسيا مما كان أوباما.
في الواقع، ربما زاد نفاد صبر ترمب تجاه القيود التي يفرضها كلٌ من مستشاريه، والكونغرس، وتحقيق المحقق الخاص مولر الآخذ بالتطور، على قدرته في السعى لتحقيق تلك الصداقة الأميركية-الروسية صعبة المنال. ولا شكَّ أنَّه شعر بالإحباط عندما مُنِعَ من لقاء بوتين في وقتٍ مسبق من فترته الرئاسية واضطر بدلاً من ذلك لانتهاز فرصٍ للتحدث معه منفرداً على هامش لقاءاتٍ أخرى (وهذا ما فعله مرَّتين، في ألمانيا ثم في فيتنام).
الأرجح أنَّ هذه الإحباطات تراكمت حين تصرَّف ترمب على نقيض نصائح مستشاريه واتصل ببوتين ليهنئه بفوزِّه بالانتخابات الروسية الصورية في شهر مارس/آذار الماضي. وكان خلال تلك المكالمة أن دعا ترمب بوتين أخيراً للقاء وجهاً لوجه وبدأ بالاستعداد لقمة هلسنكي.
وبفضل أدائه المؤسف في هلسنكي زاد الموقف سوء
وبعد كل هذا الترقُّب، كان لقاء هلسنكي فرصةً لترمب حتى يحاول تقريب المسافة بين رغباته الشخصية وبين سياسة إدارته. وكان بإمكان ترمب، المُنتشِي بالفعل إثر لقاءٍ اعتبره ناجحاً مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون الشهر الفائت -وهوَ اجتماعٌ قبِل ترمب عَقده أيضًا متجاهلاً نصيحة مستشاريه- اقتناص تِلك الفرصة بالفعل.
لكن بدلاً من ذلك، وبفضل أدائه المؤسف، زاد ترمب طين موقفه بلَّة. وبدا أنَّ حتى بعضاً من مؤيديه المُعتادين قد انقلبوا عليه. إذ غرَّد نيوت غينغريتش، وهو في العادةً مدافعٌ قوي عن الرئيس، عبر موقع تويتر قائلاً إنَّ ترمب قد ارتكب "أشدّ أخطاء فترته الرئاسية خطورة"، وهو خطأٌ "يجب تصحيحه وعلى الفور".
President Trump must clarify his statements in Helsinki on our intelligence system and Putin. It is the most serious mistake of his presidency and must be corrected—-immediately.
— Newt Gingrich (@newtgingrich) July 16, 2018
ويستعد الكونغرس لتوقيع عقوبات أكثر صرامة على روسيا
واقترح ميتش ماكونيل، زعيم الأغلبية الجمهورية بمجلس الشيوخ الأميركي، أن يسن المجلس تشريعاتٍ جديدة للتعامل مع التهديد الروسي. وفي شهر يناير/كانون الثاني، قدَّم عضوا مجلس الشيوخ ماركو روبيو وكريس فان هولن مشروع قانونٍ من ِانه إلزام الإدارة الأميركية بتطبيق عقوباتٍ على روسيا في غضون 10 أيام إذا حسم دان كوتس، مدير الاستخبارات الوطنية، أنَّ الكرملين قد تدخَّل في أية انتخاباتٍ مستقبلية.
وعلى الأرجح كانت فرصة المشروع في حشد دعمٍ كافٍ لإقراره قبل عقد قمة هلسنكي ضعيفة، لكنَّه يجتذب اهتماماً الآن.
وإذا ما كان الرئيس ترمب يأمل بإلغاء العقوبات المفروضة على روسيا، فإنَّه قد نجح في عكس ذلك: فمن شأن مشروع القانون الجديد أن يتطلَّب توقيع عقوباتٍ أكثر صرامة على الاقتصاد الروسي، وسيكون قرار ذلك في يدّ كوتس، الذي أكَّد مجدداً عقب القمة أنَّ روسيا تقوم بعمليات للتأثير بسَير العملية الانتخابية قبيل إجراء انتخابات التجديد النصفي بالكونغرس الأميركي الخريف المقبل. وفي وقتٍ سابق من الشهر الجاري، أقرَّ مجلس الشيوخ كذلك، بموجَب 97 صوتاً مؤيداً مقابل صوتين معارضين فقط، مقترحاً لدعم حلف الناتو.
والآن، يدرس بعض أعضاء الكونغرس تقديم مبادرات تجعل انسحاب الرئيس الأميركي من الحلف أمراً مستحيلاً.
وأصبحت القمة بداية الفصل الأكثر قسوة تجاه موسكو
إذن، بالنسبة لترمب، لم تكن القمة فصلاً محرجاً فحسب، بل إنَّها ربما ورَّطته أيضاً في انتهاج سياسةٍ أكثر صرامة تجاه روسيا. وبالفعل، بحلول مس الأربعاء 18 يوليو/تموز، كان ترمب يقول للصحافة إنَّه "لم يكن هناك رئيسٌ قط أشد قسوةً على روسيا مني". ووسط التكهُّنات المحيطة بالدوافع وراء سلوك ترمب -سواءٍ كانت إعجاباً صادقاً بالزعماء الأقوياء، أم جهلاً، أم إذعاناً نتيجة حيازة روسياً دليلاً فاضحاً ضده- فإنَّه يُصعِّب المهمة على نفسه لتحويل ميوله الودية تجاه روسيا إلى سياسةٍ على أرض الواقع.
*زميلة بمركز بروكينغز وأستاذة مساعدة بجامعة جونز هوبكينز الأميركية.
هذا الموضوع مترجم عن مجلة The Atlantic الأميركية.