لو كنت ممن يشجعون دائماً الفريق الأضعف، فلن تخيب كأس العالم ظنك هذا العام (2018) بكل تأكيد؛ فقد زادت قاعدة المنتخب الكرواتي الجماهيرية في جميع أنحاء العالم بعد تأهله إلى نهائي يوم الأحد 15 يوليو/تموز أمام فرنسا، وهو التأهل الأول في تاريخ كرواتيا الكروي.
لكنَّ كأس العالم، مثل جميع المسابقات الدولية، لا تَسلم من قضايا الجغرافيا السياسية، ففي حين يتمتع اللاعبون بالفوز بوجودهم تحت الأضواء، جذب اثنان من أعضاء المنتخب الكرواتي انتباهاً من نوع مختلف، بترديدهما شعاراً أزعج الروس المستضيفين لكأس العالم بنسختها الحالية، وفقاً لما ذكرته مجلة Foreign Policy الأميركية، الجمعة 13 يوليو/ تموز 2018.
وبدأت الأزمة بعد مباراة الدور قبل النهائي بين كرواتيا وروسيا يوم 7 يوليو/تموز 2019، بعدما نشر المدافع الكرواتي دوماجوف فيدا ومدربه المساعد أوغنين فوكوجيفيتش مقطع فيديو على Instagram وهما يهتفان "المجد لأوكرانيا" بعد هزيمة روسيا.
عقاب على الهتاف
وأصدر الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) على الفور تحذيراً رسمياً للمدافع فيدا، زاعماً أنَّ الشعار "يمثل انتهاكاً للحظر الذي فرضه على التصريحات السياسية". وبعد ذلك اعتذر فيدا، لكن فوكوجيفيتش غُرِّمَ وطُرِدَ بعدها من الاتحاد الكرواتي لكرة القدم.
وقال فيدا لمجلةٍ رياضية روسية: "لا توجد سياسة بكرة القدم، كنتُ أمزح مع أصدقائي في دينامو كييف"؛ إذ لعب كلا اللاعبين من قبل لصالح نادي دينامو كييف، وهو فريقٌ أوكراني.
ورأت المجلة الأميركية أن انتقاد الكرواتيين بعنف بدلاً من حل المشكلة، أثار جدلاً آخر، ولفت الانتباه إلى التوتر المستمر بين روسيا وأوكرانيا، والطرق المختلفة التي تؤثر بها سياسة الذاكرة الجمعية عبر الدول.
وبعد فترةٍ وجيزة من الإدانة الأولية للفيديو، نشرت صحيفة The Independent البريطانية تقريراً عنه، واصفةً فيه "المجد لأوكرانيا" باعتباره هتافاً يستخدمه القوميون المتشددون الأوكرانيون.
ورداً على ذلك، غردت السفارة الأوكرانية في لندن، احتجاجاً على التقرير، قائلةً إنَّ الهتاف ليس مؤذياً؛ بل معتاداً وسائداً، واتهمت السفارة الصحيفة بنشر الدعاية الروسية عن طريق ربط الهتاف بالمذهب القومي المتشدد، في حين ذكرت وكالة رويترز أنَّ المشجعين الأوكرانيين أغرقوا صفحة "الفيفا" على "فيسبوك" ببوابلٍ من التعليقات الغاضبة.
هتاف ضد الروس
وقالت Foreign Policy إنه لتحري الدقة، فإنَّ تعبير "المجد لأوكرانيا" له فعلاً استخدامٌ حديث؛ إذ أدت الثورة الوطنية في أوكرانيا لمواجهة العدوان الروسي إلى استخدام الأوكرانيين -وليس فقط القوميين المتشددين- هذه العبارة يومياً كوسيلة لدعم الهوية الوطنية، والفخر، والتصميم على العيش في أمةٍ حرة حقاً.
لكنَّ الجدل في حد ذاته لا يخلو من بعض المصداقية، فالشعار له تاريخ مظلم، حتى وإن لم يكن كل من يستخدمه يدرك هذه الحقيقة.
وقبل فترةٍ طويلة من الثورة الأوكرانية التي استمرت من 2013 إلى عام 2014، والمعروفة باسم انتفاضة الميدان، استخدمت مجموعتان سياسيتان تنتميان إلى حقبة الحرب العالمية الثانية شعار "المجد لأوكرانيا"، وهما منظمة القوميين الأوكرانيين، والجيش الأوكراني الثوري المتمرد.
وتشير المجلة الأميركية إلى أن أعضاءً من المنظمة "تعاونوا مع النازيين، وشاركوا في تصفية آلاف اليهود، في حين حارب الجيش المتمرد ضد كل من النازيين والاتحاد السوفييتي، وذبح أفراده ما بين 70 و100 ألف قروي بولندي في هذه العملية".
ورأت المجلة أن الحجة القائلة بأنَّ استخدام "المجد لأوكرانيا" اليوم لا يحمل أي نيةٍ سيئة لأنَّه صار يرمز إلى شيءٍ جديد في أعقاب انتفاضة الميدان، غير صحيحة، معتبرةً أن "الرموز، سواء كانت علم الكونفدرالية، أو المطرقة والمنجل، لا تُستأصل من ماضيها".
وفي وقتٍ سابق من هذا العام (2018)، غضبت أوكرانيا ودول البلطيق من شركة Adidas؛ لإصدارها قميصاً نسائياً كُتب عليه "USSR" (أي الاتحاد السوفييتي) فوق منطقة الصدر، وربما كانت Adidas تحاول تصميم ملبس به لمحةٌ ساخرةٌ ما، لكن كما أشار العديد من الأوكرانيين، فإنَّ استخدام الرموز المرتبطة بالفترة الشيوعية القمعية كان غير مراعٍ على أقل تقدير.
واعترفت Adidas بعد ذلك بمحاولتها غير المدروسة لاستجلاب الحنين إلى الماضي، وسحبت القمصان من السوق.
ورأت المجلة الأميركية أنه كان لأوكرانيا ودول البلطيق كل الحق في الشعور بالإهانة من "أديداس"، ليس فقط لأسبابٍ تاريخية، فعادةً ما تمثل محاولات تغيير صورة رموز مرتبطة بعنفٍ سابق، تحذيراتٍ حقيقية للمشاكل التي تنتظرنا.
تاريخ لن يُنسى
وفي عهد فلاديمير بوتين، حاولت الحكومة تجريد ذكريات كلٍ من الاتحاد السوفييتي وجوزيف ستالين من تاريخهما العنيف تدريجياً، مما أصاب الجمهوريات السوفييتية السابقة مثل أوكرانيا بالقلق، وهذا لسببٍ وجيه بالطبع. (ما علينا إلا النظر إلى حرب موسكو عام 2008 ضد جورجيا، واستيلائها على شبه جزيرة القرم في عام 2014).
مع ذلك، لا تزال الحكومة الأوكرانية تحتفظ بوجود بعض قادة منظمة القوميين الأوكرانيين، والجيش الأوكراني الثوري المتمرد، وهي الخطوة التي استنكرها مؤخراً متحف ذكرى الهولوكوست بالولايات المتحدة.
ويُذكر أنَّ هتافات "المجد لأوكرانيا" ترددت في مسيرات قومية كذلك، مثل تجمع الدروزينا الوطنية (ميليشيا يمينية متطرفة) في يناير/كانون الثاني 2018. إضافةً إلى أنَّ صعود النزعة القومية المتطرفة في أوكرانيا صار مرتبطاً بالعنف ضد الأقليات العرقية؛ إذ شهدت أوكرانيا 6 مذابح ضد الغجر على مدار الشهرين الماضيين. وفي أبريل/نيسان 2018، احتفلت مسيرةٌ في مدينة لفيف بذكرى القسم الأوكراني من منظمة شوتزستافل شبه العسكرية النازية.
وفي أوروبا، كما هو الحال بالولايات المتحدة، لم يكن الماضي بعيداً قط. فالعَلم الكونفدرالي ليس مجرد رمزٍ للجنوب، بل هو رمزٌ للعبودية؛ والمطرقة والمنجل ليسا مجرد لمحةٍ فنية هابطة لفترة الحرب الباردة؛ بل تمثلان كيف عرَّض النظام السوفييتي وأتباعه عشرات الملايين لطلقات النيران، والتجويع، والسجن.
أما "المجد لأوكرانيا"، فهي ليست عبارة بسيطة اعتُمدت في العقد الماضي لتشجيع أوكرانيا الحديثة، أو وسيلة سهلة لإغاظة روسيا في ملعب كرة القدم؛ بل كانت شعاراً للعديد من القوات الأوكرانية شبه العسكرية التي قتلت اليهود والبولنديين على حد سواء، بحسب Foreign Policy.
وختمت المجلة بالقول: "لكثير من هذه الرموز الآن معانٍ أخرى بالطبع، لكنَّ هذه المعاني بالتحديد دُفع ثمنها دماً أيضاً. أقل ما يمكننا فعله الآن، هو الاعتراف بذلك".