بعد سبعة أعوام من انطلاق شرارة الثورة من مدينة درعا، استسلمت المدينة فعلياً لقوَّات النظام. وتعكس أيامها الأخيرة نمطاً مألوفاً، تمكَّنَت فيه دمشق من استخدام قوَّة أشد لإجبار المعارضة المسلحة على الاستسلام.
ويحكي موقع War on the Rocks الأميركي وضع المدينة بعدما انتهت المفاوضات ليتم الاتفاق على حل وهو تجريد المعارضة من أسلحتها الثقيلة، والسماح لمن يرغبون في البقاء في المدينة بـ"إعادة الاندماج" داخل الدولة السورية، مع نقل من لا يريدون البقاء بالحافلات جهة الشمال إلى إدلب، حيث يجتمع الجهاديون والمقاتلون الإسلاميون ومقاتلو المعارضة.
دخول جيش النظام السوري إلى المدينة دفع بها لتكون في دائرة الضوء
وباستعادة النظام لدرعا يستمر الزخم العسكري الذي صَعَدَ منذ تدخُّل الروس لصالح النظام. ومع إجلاء العناصر التابعة لتنظيم داعش من مخيِّم اليرموك للاجئين خارج دمشق في مايو/أيَّار، واستعادة النظام مناطق الغوطة الشرقية التي كانت تحت سيطرة المعارضة المسلَّحة في أبريل/نيسان، تصاعد هذا الزخم مجدداً بعد أن توقَّف جزئياً.
من الصعب إيقاف الزخم في العمليات العسكرية، ومع كلِّ انتصارٍ وتسويةٍ يتوصَّل إليها بشار الأسد عبر المفاوضات، يعاود استخدام العُدَّة والعتاد في مكانٍ آخر. غير أن درعا ليست انتصاراً رمزيًّا فحسب؛ بل أن الانتصار فيها له فوائد اقتصادية مُحتَمَلَة لنظام الأسد الذي يعاني أزمة مالية، وكذلك بالنسبة للبنان والأردن.
وهناك مساع لفتح الحدود مع الأردن
عاد معبر نصيب الحدوديّ مع الأردن إلى سيطرة دمشق، ويُحتَمَل أن تكون هناك إجراءاتٌ لمحاولة استعادة حيوية طرق التجارية البرية الإقليمية (وربما يتضمَّن هذا إعادة إحياء منطقة التجارة الحرَّة بين الأردن وسوريا) التي كانت موجودة قبل سقوط معبر نصيب في أيدي فصائل المعارضة في جنوبي سوريا.
لا شكَّ أن انتصارات الأسد الأخيرة قد أسهمت بقدرٍ كبير في إعادة الحيوية لخطوط الدعم الاقتصادية السورية، بالرغم من أن حركة البضائع في سوريا، كما هو حال الصراع نفسه، لا تجري بشكلٍ مباشر.
ويوضح سقوط درعا أيضاً مرةً أخرى غياب أي فاعلية (أو اهتمام أو كلا الأمرين) لدى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في ما يتعلَّق بسوريا. كانت درعا ذات يومٍ جزءاً من منطقة خفض تصعيد في الجنوب تم تحديدها بعد مفاوضات بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والأردن عام 2017، وأُكِّدَ عليها في اجتماعٍ بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي دونالد ترمب في اجتماع في نوفمبر/تشرين الثاني.
لكن قراراً مثل فتح الحدود مع الأردن لن يمر بعيداً عن أعين واشنطن
وحذَّرَت وزارة الخارجية الأميركية الشهر الماضي يونيو/حزيران من اتخاذ "إجراءات حاسمة ومناسبة" ضد الأسد في حال خرق مناطق خفض التصعيد في الجنوب، وبعد ذلك ذكرت سفيرة الولايات المتحدة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي أن روسيا ستتحمَّل مسؤولية أيِّ تصعيدٍ آخر. غير أن تقارير لاحقة في وسائل الإعلام ادَّعَت أن واشنطن كانت قد أرسلت بإشاراتٍ إلى قادة المعارضة في الجنوب مفادها أنهم ينبغي ألا يضعوا في حساباتهم أيَّ تدخُّلٍ عسكريٍّ أميركي أثناء اتخاذ قرارهم.
لا تزال لدى واشنطن مصالح في شرقي (لا سيما قاعدة التنف) وشمالي شرقي سوريا. ومن الواضح أن الوجود الأميركي هناك ذا مغزى تكتيكيّ في ما يتعلَّق باستمرار الضغط على فلول تنظيم داعش في المنطقة: وأدلُّ دليلٍ على ذلك هو الغارة الجوية التي نفَّذها العراق داخل سوريا في نهاية شهر يونيو/حزيران وأفادت تقارير أنها أسفرت عن مقتل 45 إرهابياً. غير أن الأهمية الاستراتيجية الأوسع لاستمرار الوجود الأميركي، حتى وإن كان جزءاً من حملة أشمل غير واضحة المعالم ضد إيران، أكثر غموضاً بكثير.
وبالرغم من كل المساعدة التي قدَّمتها الولايات المتحدة الأميركية إلى القوات القبلية العربية والكردية في الشرق، لا يخفى على السوريين هناك ولا في دمشق أن سوريا ليست أولى أولويات إدارة ترمب. ولن يزيد التهاون الذي أبدته واشنطن في التغافل عن سيطرة النظام على درعا ذلك إلا تأكيداً.
تحديات أخرى يواجهها بشار الأسد بعد انتصاره في درعا
لا تزال هناك المزيد من التحديات في مواجهة الأسد قبل أن يبدأ حتى في التفكير في تحقيق هدفه المعلن باستعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية. يمكن أن يكون أول هذه التحديات هو الاستفادة من انتصاره الأخير في درعا والاستمرار حتى استعادة القنيطرة إلى جوارها، بالرغم من أن المشكلة هنا تكمن في إلحاق الهزيمة بالمعارضة وإنما في القيام بذلك بطريقة لا ترى فيها إسرائيل تهديداً لمصالحها.
دائماً ما كان الخط الأحمر الذي ترسمه إسرائيل هو وجود إيران أو الميليشيات المدعومة منها، مثل حزب الله في القنيطرة. وبينما تعد موافقة إسرائيل على العودة إلى وجود قوات الحكومة السورية في القنيطرة أمراً شبه مقبول، دائماً ما تمثَّلت الصعوبة في أن تضمن روسيا تحقيق هذه النتيجة وأن تمنع إيران من استغلال الموقف على الأرض. وقد استمرت المحادثات بين إسرائيل وروسيا حول هذا الموضوع خلال الأسابيع الأخيرة.
ولا يستطيع أحد أن يتغافل عن تحدي الموقف التركي لنظام بشار الأسد
ثم أن هناك مصالح تركية. وقال الأسد نفسه مؤخراً على التلفزيون الروسي أن باب التفاوض مع الأكراد السوريين مفتوحٌ بلا شك. ويعد احتمال استمرار السيطرة التركية على مناطق من شمال سوريا احتمالاً بعيداً. وقد تقلَّصَت المصالح الاستراتيجية لتركيا في سوريا إلى تأمين بوابتها الجنوبية من الوجود الكردي المسلح وزيادة نفوذها في ذات المناطق والوصول إلى حلٍّ سياسيّ يسمح بعودة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين الذين تستضيفهم. وربما تأمل تركيا أيضاً في الحدِّ من أي ضربةٍ انتقامية من الجماعات الجهادية الموجودة في إقليم إدلب، والتي تم احتواؤها بشكل عام، بفضل وجود مواقع مراقبة تركية وروسية وإيرانية على الأراضي السورية إثر اتفاق الآستانة.
ومن الصعب تحديد مدى تأثير تأمين تركيا لحدودها الجنوبية على العمليات العسكرية التي تُنفِّذها الحكومة السورية في مناطق أخرى. وكما أثبتت الحرب الأهلية في لبنان التي استمرت خمسة عشر عاماً، حين تنخرط أطرافٌ خارجيةٌ في الصراع، يصبح من الصعب الوصول إلى اتفاقياتِ سلامٍ عبر التفاوض.
ولكن، كلما عاودت دمشق ترسيخ سيطرتها وكلما بدت واشنطن أقل اهتماماً بالتدخل، إلا في مواقف تكتيكية محدودة، زادت احتمالية أن تأخذ سياسة الواقع اعتبارات الفصائل السياسية في الحسبان. سيكون على الأكراد السوريين في نهاية المطاف التوصُّل إلى صفقةٍ مع دمشق، وسيخرج الأميركيون من سوريا في نهاية المطاف كذلك. لا شك أن واشنطن ستُتَّهم بالتخلي عن الأكراد، والحقّ أن واشنطن دائماً ما أوضحت أن وجودها في سوريا مؤقت.
لا تزال الأمور بعيدةً عن الحسم، غير أن سقوط درعا يمكن بشدِّة أن تكون له أهميةٌ أكثر من مجرد رمزية إطلاقها شرارة الثورة.