في عهد الرئيس دونالد ترمب، أعادت أميركا تشكيل نهجها سريعاً تجاه العديد من الأعراف الراسخة المعمول بها في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وانتقلت بالدبلوماسية من مرحلة المباحثات إلى الصفقات.
انسحبت من اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، متحديةً التوقعات حول كيفية تعامل الدول مع مشاركتها في الاتفاقيات الدولية. وبدأت في استخدام الرسوم التجارية ليس فقط ضد المنافسين، ولكن أيضاً الحلفاء، معيدةً تفسير معايير التجارة العالمية التي تهدف إلى تجميع الموارد الاقتصادية وردع الحرب.
والآن، تفكر واشنطن في قرارٍ جريء آخر رافض للمعايير الدولية؛ إذ تنتشر شائعاتٌ بأنَّ إسرائيل تمارس الضغط للحصول على اعترافٍ أميركي بهضبة الجولان السورية المحتلة منذ عام 1967 باعتبارها أرضاً إسرائيلية.
تسريبات وتصريحات حول ضغط إسرائيل لاعتراف أميركا بسيادتها على الجولان
وأفادت تقارير بأنَّ الولايات المتحدة تفكر في هذه الخطوة. لكن إذا قررت واشنطن الاعتراف بأحقية إسرائيل في المنطقة المتنازع عليها، فستكون هذه هي المرة الأولى منذ عام 1945 التي تُقر فيها الولايات المتحدة بشرعية السيادة على أرضٍ جرى الاستيلاء عليها بالقوة العسكرية، وهي خطوة -لو تمت- ستكون لها آثارٌ كبيرة على النظام العالمي الحالي.
وفي مقابلة مع "رويترز"، أكد وزير المخابرات الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، أن التصديق على سيطرة إسرائيل على الجولان منذ 51 عاماً، أصبح "يتصدر جدول الأعمال" في المحادثات الدبلوماسية الثنائية مع الولايات المتحدة.
وقال كاتس: "هذا هو الوقت المثالي للقيام بهذه الخطوة. إن الرد الأكثر إيلاماً الذي يمكن تقديمه للإيرانيين هو الاعتراف بسيادة الجولان الإسرائيلية، مع بيان أميركي، إعلان رئاسي، مكرس في القانون".
لكنَّ مسؤولاً في البيت الأبيض رفض تأكيد أي من التفاصيل التي قدمها كاتس حول الجولان.
وهو ما يعارض أعراف ما بعد الحرب العالمية بمعارك النفوذ بدلاً من السيطرة
بعد الحرب العالمية الثانية، أعلنت قوى الحلفاء عدم شرعية استخدام الدول الغزو العسكري من أجل الاستحواذ على الأراضي. ومنذ عام 1945، رفض الإجماع الدولي هذا الشكل من الاستحواذ على الأراضي تقريباً على جميع الأصعدة، حسبما جاء في ورقة تحليلية نشرها مركز Startfor الأميركي المتخصص بالأخبار الاستخباراتية الجيوسياسية.
من خلال ترسيخ قاعدة عدم قبول السيادة على الأراضي التي استُحوِذَ عليها بالقوة العسكرية، كان الحلفاء يأملون تجنُّب حربٍ عالمية ثالثة، عن طريق توجيه التوترات والمنافسات إلى المؤسسات الدولية وقواعد القانون، بدلاً من الدبابات والبنادق.
وفي الواقع، شكَّل هذا النهج العديد من جوانب البيئة الدولية للقرن العشرين؛ إذ ساعد على تقييد المنافسة السوفيتية-الأميركية في نطاق معارك نفوذ بدلاً من السيطرة على الأراضي.
لكن العالم شهد انتهاكات في قبرص والكويت والقرم وتيمور الشرقية
بالطبع، لم تمضِ تلك الأعراف دون انتهاكات. فغزو تركيا لقبرص في عام 1974، وغزو إندونيسيا لتيمور الشرقية في عام 1976، وغزو العراق للكويت في عام 1990، وضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014.. هي أمثلة في فترة ما بعد الحرب لدولٍ تحاول فرض سيادتها على أراضٍ عن طريق القوة العسكرية.
وظلَّت الولايات المتحدة، إلى جانب معظم القوى العظمى الأخرى، في كل هذه الحالات، ثابتةً على اعتقادها أنَّ مثل هذه التوسعات غير قانونية، وغير مبررة، ويتوجب التراجع عنها في أسرع وقت ممكن.
والاعتراف الأميركي نقطة تحوُّل بشأن الأراضي المسلوبة عسكرياً
ستغير الولايات المتحدة موقفها بشكلٍ جذري إذا قررت الاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان. سيحمل هذا القرار معنىً مختلفاً عن قرارها الدبلوماسي الأخير بشأن إسرائيل، الذي قضى بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس.
بالنسبة لإسرائيل، كان اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمةً لها انتصاراً رمزياً كبيراً؛ نظراً إلى مكانتها المُقدَّسة. لكنَّ إسرائيل تحتل الجولان منذ عام 1967، وضمتها عام 1981، وأصبح هناك ما يقرب من 20 ألف مستوطن وقوات متحصنة متمركزة.
وعلى أرض الواقع، لن يغير اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة الإسرائيلية على الجولان شيئاً تقريباً. لكن على الصعيد العالمي، سيكون هذا تحولاً رئيسياً؛ لأنَّ هذه المنطقة لم تُخصَّص لإسرائيل قبل نهاية الانتداب البريطاني عام 1948؛ بل أُخذت عن طريق الغزو العسكري.
ويفتح الباب أمام مطالبات دول أخرى مثل روسيا في القرم
عبر تقويض القاعدة المُعترف بها تماماً في عدم الاعتراف بالأراضي التي تؤخذ بالقوة، تكون الولايات المتحدة قد اتخذت خطوةً أخرى نحو إبعاد نفسها عن التقاليد الدبلوماسية، وقد يكون لهذه الخطوة تداعياتٌ كبيرة، ليس فقط على كيفية التعامل مع المناطق الأخرى المتنازع عليها، ولكن أيضاً على ما يمكن أن تتوقعه الدول بعضها من بعض في هذه المرحلة من التاريخ.
لن تفسر جميع الدول -ولا يمكنها تفسير- اعتراف الولايات المتحدة بإسرائيلية الجولان كدعوةٍ للعودة إلى ما قبل توقيع معاهدة صلح وستفاليا عام 1648، عندما كان الملوك والأباطرة يسيطرون على الأراضي التي يملكونها بقوة سيوف جنودهم.
لكنَّ قرار واشنطن سيُعقّد -بلا شك- النزاعات الحدودية الجارية الأخرى. وتأمل روسيا بالفعل إضفاء شرعيةٍ على احتلالها شبه جزيرة القرم، من خلال مقايضةٍ دبلوماسية كبيرة مع الغرب.
وحتى الصين قد تطلب المعاملة بالمثل
وسوف ترى أنَّ احتمالية نجاح هذا النهج مرجَّحةٌ أكثر إذا مضت الولايات المتحدة قُدماً في الاعتراف بإسرائيلية هضبة الجولان. ورفضت الصين الأحكام الدولية ضد عمليات بنائها الجزر الاصطناعية والمنشآت في بحر الصين الجنوبي، بزعم أنَّ المؤسسات الدولية واقعة تحت تأثير قوى معادية لصعود بكين.
وقد تسهم رؤية انتقال الجولان رسمياً إلى سيطرة إسرائيل في تشجيع الصين على اعتقاد أنَّه إذا بقيت فترةً طويلةً بما فيه الكفاية في بحر الصين الجنوبي، فسيُعتَرَف بسيادتها عليه.
بالإضافة إلى ذلك، قد تتجرأ بعض الدول على اتخاذ إجراءاتٍ عسكرية أكثر عدوانية؛ لأنَّها ستكون أقل خوفاً من مواجهة احتمالية تدخُّل الولايات المتحدة. وفرصة تجنُّب التدخل الأميركي ستكون جذابة للقادة الذين يعتقدون أنَّ القوة العسكرية قادرة على حل نزاعاتهم الإقليمية المتعلقة بالأراضي، أو تشتيت الانتباه عن المشاكل في الداخل، أو الحصول على أفضليةٍ دبلوماسية لحل نزاعاتٍ أخرى. (وهذا ما دفع صدام حسين في العراق لغزو الكويت عام 1990 بعد أن خلص إلى أنَّ الولايات المتحدة لن تتدخل في مثل هذا الغزو).
فأميركا ترمب تتعامل بمنطق الصفقات لا الدبلوماسية
تتعامل الولايات المتحدة بصورةٍ متزايدة مع الشؤون الدولية من منظور المعاملات والصفقات. ففي الشرق الأوسط، ترى إسرائيل الشريك الأقوى لمساعدتها في تحقيق أهدافها. لذلك سعت إلى تقوية إسرائيل، والمملكة العربية السعودية بدرجةٍ أقل، في مقابل ولائهما للولايات المتحدة.
وكان هذا جزئياً هو ما دفعها إلى اتخاذ قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وبإمكانه أن يدفعها إلى اتخاذ قرارٍ بشأن الجولان أيضاً.
إذا واصلت الولايات المتحدة تبنِّي منطق المعاملات على حساب الدبلوماسية من خلال الاعتراف بهضبة الجولان كأراضٍ إسرائيلية، فإنَّها ستشير بوضوح إلى إيمانها بأنَّ الأرض يمكن مقايضتها وتبادُلها كما يستدعي الوضع، بمعنى أنَّ سلامة الحدود ليست مبدأً يُدِرُّ عائداً مربحاً.
ليبقى الأمر رهن أوروبا الضعيفة لتكون شرطي هذا العالم
هذا سيترك عملية تطبيق أعراف ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حدٍ كبير في أيدي الأوروبيين. لكن، تشير الصراعات الداخلية للاتحاد الأوروبي ببساطة، إلى أنَّ القارة ليست قوية بما فيه الكفاية الآن؛ إذ فشلت أوروبا في جهودها لوقف الرسوم الجمركية الأميركية أو إجبار الدول على الالتزام بالمعاهدات. وفي حالة تخلي الولايات المتحدة عن القاعدة التي تقضي برفض الاعتراف بالأراضي المُستحوَذ عليها بالقوة، فستحتاج أقوى الدول الأوروبية، أي ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، إلى إظهار رد فعلٍ حيال ذلك. لكن على الرغم من جهودهم، قد لا يكونون أقوياء بما يكفي لمنع دول أخرى من إعادة صياغة نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.