سلطت صحيفة The Wall Street Journal الأميركية، الثلاثاء 19 يونيو/حزيران 2018، الضوء على مشكلة كبرى يعانيها قطاع الأعمال في المملكة الغنية بالنفط؛ وهي وجود وظائف، ولكن لا يقبلها الشباب السعودي؛ بسبب تدني الرواتب، أو نظرته المتدنية إلى هذه المهن.
وقالت الصحيفة الأميركية إنه في فندق نوبو الذي سيُفتَتح قريباً بالعاصمة السعودية الرياض، يتأهب طاهي السوشي في الفندق لبدء استقبال الضيوف، فيما تبدو الشلالات المصنوعة من الرمال جاهزة تقريباً. وتبقى مشكلة واحدة تحتاج إلى معالجتها بالفندق والمطعم المشيَّد على النمط الياباني: لا يوجد عددٌ كافٍ من السعوديين للعمل في المطبخ.
ويحتاج "نوبو"، قبيل افتتاحه في خريف هذا العام (2018)، إلى جمع طاقم عمل يتكون من نحو 300 فرد، وبموجب القانون يجب أن يكون 40% من هؤلاء من السعوديين. يسهل شغل بعض الوظائف في الفندق، مثل موظفي مكتب الاستقبال، إلا أنَّ بعضها، مثل الطهاة والنُدل والحمَّالين، لن يكون من السهل شغلها عن طريق السعوديين.
أنا أفضل من هذه الوظائف!
وقال سيمون فريكر، المدير العام للفندق، للصحيفة الأميركية: "الأمر صعب للغاية؛ فالعقلية هنا هي: إنَّني أفضل بكثير من شغل هذه الوظائف".
يشير التحدي الذي يواجه فندق نوبو، إلى واحدٍ من أكبر التحديات التي تعترض التطوير الاقتصادي الشامل للمملكة العربية السعودية، والمتمثل في كيفية دفع السعوديين إلى العمل.
ويرغب ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، في أن يُسرِّع النمو وأن يخلق مزيداً من الفرص للمواطنين. غير أنَّ الشركات تكافح للوفاء بمطالب الحكومة التي تشترط توظيف السعوديين.
على مدى عقودٍ من الزمن، ساعد العمال المغتربون القادمون من بلادٍ مثل الهند والفلبين على استمرار مستوى المعيشة المرتفع في السعودية، عن طريق أداء الوظائف التي لا يقوم بها السعوديون في المطابخ، ومواقع البناء، وخلف منافذ الدفع بالمتاجر. ومنحت المملكة مواطنيها الوظائف الضرورية للحياة في القطاع العام، مما يعني أنَّ العمالة لا تمتلك دائماً المهارات اللازمة لشغل وظائف القطاع الخاص؛ بل وأحياناً تفتقد الحافز لذلك، بحسب الصحيفة الأميركية.
رواتب بلا عمل!
ودفعت الضغوط التي تواجه الشركات من أجل استيفاء هذه الشروط، المتعلقة بتوظيف أعدادٍ من السعوديين، لأن يعرضوا على السعوديين رواتب أعلى وساعات عمل أقل، فضلاً عن أنَّ بعض المؤسسات التجارية، التي تخشى مخاطر الغرامات ومشكلات التأشيرات، تلجأ إلى تعيين السعوديين الذي يُحسَبون على قوة العمل الإجمالية فقط، بينما يبقون في منازلهم.
وتشير تقديرات عبد المحسن، وهو مدير تنفيذي في شركة خدمات لوجيستية سعودية، إلى أنَّ نصف السعوديين المسجلين على كشف الرواتب الخاص بشركته موظفون بالاسم فقط.
ويقول بعد المحسن: "لا تستطيع شركتنا الاستمرار من دون العمالة الأجنبية؛ لأنَّ هناك بعض الوظائف التي لن يشغلها السعوديون، مثل قيادة الشاحنات. فأين السائقون السعوديون؟!".
ارتأى الملوك المتعاقبون أنَّ استبدال العمال السعوديين بالمغتربين أمر مرجوٌّ، لكنه ليس ضرورياً. ولم تكن أهداف "سعودة" العمل تُطبَّق بصرامة.
لكنَّ ذلك تغيَّر مع القيادة السعودية الحالية، التي تعهدت بتحويل الدولة النفطية الكسولة إلى دولةٍ ذات اقتصادٍ نشط، في وجود خطط تتضمن بيع جزء صغير من شركة أرامكو، عملاقة النفط المملوكة للدولة، عبر إدراج أسهمها في طرحٍ عام. ومن أجل نجاح التحول، يجب تقليل عدد الموظفين في بيروقراطيتها المتضخمة، وإيجاد وظائف للسعوديين بالقطاع الخاص. يعمل ثلثا العمالة السعودية الحالية في الوظائف الحكومية.
تفاقم البطالة في المملكة
وتزيد نسبة البطالة في المملكة، التي بلغت 12.8%، من الضغوطات التي تتعرض لها عملية استبدال العمالة المحلية بالعمالة الأجنبية. فالهدف يرمي إلى خفض تلك النسبة إلى 7% بحلول عام 2030.
ورغم أنَّ النسبة الإجبارية للعمالة السعودية تختلف من قطاع إلى قطاع ومن نوعية وظيفة إلى أخرى، ازدادت هذه النسب في العموم. وبدءاً من سبتمبر/أيلول 2018، يجب أن يكون جميع الباعة في المخابز ومتاجر بيع الأجهزة الإلكترونية والأثاث من السعوديين.
وعندما أُجبِرَت محال بيع المجوهرات على استبدال السعوديين بجميع العمالة الأجنبية في العام الماضي (2017)، انتاب الذعر مالكي سلسلة "أصول" للمجوهرات؛ لأنَّهم لم يوظفوا من قبلُ سوى المغتربين، ولم يعرفوا كيف يبدأون عملية تعيين السعوديين.
سرَّح مالكو هذه السلسلة جميع العاملين لديهم، وأغلقوا جميع فروعهم البالغة 25 فرعاً، باستثناء فرعين فقط. وبعد ما يقرب من نصف قرن، كانت المؤسسة العائلية على حافة الانهيار.
وقال علي العايد، ابن مؤسس هذه السلسلة البالغ من العمر 24 عاماً: "إنَّه ذهبٌ، ولا يمكن أن يتعامل معه مجرد أي شخص. لا يوجد شباب سعوديون مدرَّبون ومؤهَّلون بما يكفي".
كان أول السعوديين الذين عُيِّنوا هم أبناء المؤسس الأربعة، الذين استقالوا من أعمالهم وبدأوا العمل في فرعين من فروعهم من أجل إبقائها مفتوحة.
نشرت العائلة إعلانات وظائف في المواقع التي تبيع الذهب. واستجاب الكثير من السعوديين، إلا أنَّ قليلاً منهم قبِلوا الوظيفة؛ إذ عزفوا عن شغلها؛ بسبب ساعات العمل الطويلة والعطلات القليلة. وحتى هؤلاء الذين عينتهم العائلة، استقال كثيرٌ منهم بعد فترة قليلة، على الرغم من الراتب المبدئي الجيد نسبياً.
لم يُفتَح من فروع "أصول" حتى هذه اللحظة سوى 9 محال فقط. وتُعوِّل العائلة على العاملِين الهنديِّين، الذين عُيِّنوا ظاهرياً على أنَّهم عمال نظافة؛ كي يساعدوا في تدريب السعوديين.
ينتظر الحج لكي يغلق متجره!
وعلى بُعد بنايات قليلة، يستعد مالك أحد متاجر الساعات لغلق متجره بعد موسم الحج في أغسطس/آب 2018، بدلاً من الاضطرار إلى تعيين سعوديين فقط بعد ذلك. وقال توفيق إيمان خان، أحد الموظفين الأجانب: "ربما سنعود إلى الهند بعد الحج".
كانت إحدى الطرق التي لجأت إليها الحكومة لفرض سياستها، رفع تكلفة حصول الشركات على تأشيرات عمل للعمال الأجانب. وشددت كذلك من إجراءات التفتيش على المؤسسات التجارية؛ للتأكد من أنَّ العمال السعوديين موجودون في مكان العمل، بحسب الصحيفة الأميركية.
يتذكر مدير وكالة دعاية وإعلان بالرياض اليوم الذي زار فيه مفتشو الفرع الرئيسي للشركة في الخريف الماضي. ويقول أبو زايد مدير الفرع، وهو فلسطيني يحمل جواز سفر أردنياً، إنَّهم سألوا قائلين: "أين الموظفون السعوديون؟". لم يكن هناك سوى موظف واحد على مكتبه من أصل 20 سعودياً مسجلين ضمن قوة عمل الشركة.
ويضيف أبو زايد: "لدينا أسماؤهم، وهم مسجَّلون. يحصلون على رواتب، لكنَّهم لا يعملون".
غُرِّمَت الشركة بمبلغ 65 ألف ريال سعودي (ما يعادل 18 ألف دولار أميركي) ومُنِعَت من التقدم لطلب تأشيرات عمل لعمال أجانب. ومنذ ذلك الحين، دخلت الشركة في متاهة، وتفتقر إلى المال اللازم لدفع فاتورة الكهرباء، فضلاً عن الغرامة وارتفاع تكاليف تجديد إقامات العمالة الأجنبية. ويوضح أبو زايد أنَّه سيكون مفاجَأً إذا استطاعت الشركة الاستمرار حتى نهاية العام (2018).
وبحسب الصحيفة الأميركية، توجد بعض المؤشرات على أنَّ الحكومة مستعدة للاستماع إلى شكاوى القطاع الخاص حول قواعد العمل. فقد أصدر الملك سلمان أمراً ملكياً في مطلع هذا الشهر (يونيو/حزيران 2018) لتعيين أحمد الراجحي في منصب وزير العمل والتنمية الاجتماعية. الراجحي هو رجل أعمال يشرف والده على مصرف الراجحي السعودي.
مستفيدون من السعودة
وتبدو غالية عبد الله، (32 عاماً)، إحدى المستفيدات من سياسة السعودة. فقد اعتادت مواجهة صعوبةٍ في ابتياع الملابس الداخلية النسائية بالسعودية؛ نظراً إلى أنَّ جميع البائعين كانوا رجالاً أجانب.
وقالت: "كنتُ أنتظر حتى السفر إلى الخارج بدلاً من الذهاب إلى المتاجر هنا، حتى لو أردتُ شراء حمالة صدر فقط؛ لأنَّني لم أرغب في التعامل مع الرجال".
تحدثت غالية وهي في طريقها إلى أحد متاجر "فيكتوريا سيكريت" المفتتحة مؤخراً في جدة، حيثُ جميع العاملين فيها من النساء السعوديات. وأوضحت قائلةً: "أشعر الآن بمزيدٍ من الراحة".
وبحسب الصحيفة الأميركية، توصلت الحكومة إلى بعض الحلول للشركات التي تفكر في تعيين سعوديين من أجل الوفاء بالنسب المفروضة وحسب. بموجب "برنامج التوطين الموازي"، يمكن لأصحاب العمل الوفاء بنسب التعيين عن طريق إرسال أموال للحكومة بالقدر نفسه الذي سيدفعونه للعامل السعودي في الشركة. وبدلاً من تعيين موظف سعودي مزيف، يعين صاحب العمل موظفاً افتراضياً.
قد يبدو الحصول على راتب من دون الاضطرار إلى العمل وظيفة رائعة، لكن ليس جميع السعوديين راضين عن هذه التسوية.
فمنذ 3 أعوام، عرض مالك سلسلة وجبات سريعة سعودية على لاعب كرة قدم سابق اسمه أحمد، وهو حاصل على شهادة ثانوية، اتفاقاً يستفيد منه كلاهما: سوف ينضم أحمد إلى قوة العمل، ولكنَّه سيظل في منزله، فيما يتمكن المالك من الوفاء بنسبة الموظفين السعوديين المفروضة عليه.
يحصل أحمد على راتب شهري قدره 2500 ريال (670 دولاراً) ويأتي إلى مكان العمل مراتٍ قليلة فقط، على سبيل المثال عندما يُتوقَّع زيارة المفتش.
قال أحمد: "أتمنى أن أجد وظيفة جيدة. وعندما أجدها لن أمانع أن أعمل بكد".
ومع ذلك، لا يزال يسخر من راتب الـ1000 دولار، الذي تقدمه الوظائف ذات الدخول المنخفضة. فقد أوضح قائلاً: "لن أعمل مقابل هذا المبلغ. لن أكون قادراً على تحمُّل أي شيء في اقتصاد اليوم".
سلوكياتهم بدأت في التغير
وبحسب الصحيفة الأميركية، توجد مؤشرات على أنَّ السلوكيات تجاه العمل تبدأ في التغير بين السعوديين الذين يواجهون تكاليف معيشية مرتفعة؛ إذ خفضت الحكومة مؤخراً الدعم على المياه والوقود والكهرباء، وأدخلت ضريبة قيمة مضافة بنسبة 5%. يقود بعض السعوديين الآن لصالح شركات خدمات السيارات الأجرة مثل "أوبر" و"كريم"، وهو مشهد كان نادر الحدوث منذ عامين. فضلاً عن أنَّ شباب السعوديين، الذين درس عددٌ كبير منهم في الغرب عبر منح دراسية، يبدون متقبلين للعمل بدوامٍ جزئي في المقاهي الكبرى.
وفي مقهى ومحمصة "مَدّ" القريب من ساحل البحر في جدة، يقدم النُدل، وأغلبهم من السعوديين، القهوة الباردة والكابتشينو بحليب الكينوا إلى زبائنهم الصغار. وقال يوسف تركي (21 عاماً)، وهو طالب هندسة بَحَرية يعمل في "مَدّ": "إنَّني أواجه نوعين مختلفين من الناس: هؤلاء الذين يحترمونني وهؤلاء الذين لا يحترمونني. أمي تدعمني دائماً، وأبي ليس كذلك. إنَّه يقول: كيف يعمل ابني نادلاً في مقهى، في الوقت الذي منحته فيه مستوى معيشياً مرتفعاً؟!".
وأضاف: "يصعب التعامل مع الأمر. لكنَّ الأزمنة تتغير، وعلينا التكيف معها".
في محاولته إيجاد عمال سعوديين، تحوَّل فندق نوبو في بداية الأمر إلى إحدى مدارس الضيافة والفندقة القليلة في السعودية. يتحمل الفندق الرسوم الدراسية والرواتب لـ32 طالباً.
انسحب أغلب هؤلاء من الدراسة على الفور، ولم يتخرج في نهاية المطاف سوى 5 لينضموا إلى "نوبو".
الفندق يفي بنسبة السعودة، ولكن على مضض!
لجأ "نوبو" في النهاية إلى تعيين سعوديين لا يعملون في الفندق بالفعل للوفاء بنسب العمالة المفروضة، وهي ممارسة توقَّف عنها بعد ذلك.
كان القائمون على فندق نوبو يضعون في عين الاعتبار برنامج التوطين الموازي، إلى أن وجدوا بديلاً أفضل منه: فقد اشترك الفندق في برنامج جديد تدعمه الحكومة، يسمح لأي شركة بتعيين سعوديين ودفع رواتب لهم للعمل لدى الجمعيات الخيرية، بينما تُبقيهم ضمن كشوف رواتبها.
وتمكنت إدارة الفندق، الذي هو مشروع تجاري مشترك بين أمير سعودي وسلسة مطاعم يمتلكها الطاهي العالمي نوبو ماتسوهيسا والممثل روبرت دي نيرو، من ضم رئيس موارد بشرية جديد إلى الفندق، وهو حاتم الحمدان، الذي وظَّف عدداً كبيراً من العمال السعوديين، لدرجة أنه حصل على لقب "صائد السعوديين". وفي أحدث مفاجآته، عيّن الحمدان طباختين سعوديتين في "نوبو".
كان الحمدان أول من اعترف بأنَّ وظيفته ليست سهلة؛ إذ يقول إنَّ العمل الخدمي يُنظر إليه على نطاقٍ واسع على أنَّه مخزٍ، مما يجعل من المستحيل إيجاد سعوديين لديهم المؤهلات الملائمة، لكنَّه حقق النجاح في وظيفته بأن طلب من المتقدمين الذين نجحوا في الحصول على الوظيفة أن يجلبوا جيرانهم وأصدقاءهم.
يقول الحمدان كذلك، إنَّ الشركات في حاجة إلى إبداء مزيدٍ من المرونة مع الموظفين السعوديين، عندما يتعلق الأمر بساعات العمل على سبيل المثال؛ إذ يقول: "بعض الأعمال يمكن القيام بها في ساعتين، فلماذا يبقى 5 ساعات؟ يجب أن تجعلهم يحبون وظيفتهم".