بدا أن السعودية أخرجت لبنان من دائرة اهتماماتها عقب استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري الغامضة من الرياض، لكن ما يجري الآن يشير إلى أمر مختلف.
تحاول المملكة حالياً العودة للحياةِ السياسية اللبنانية لمحاصرة خصمها حزب الله، والنتيجة حتى الآن اقتصرت على تغييرات شملت حلفاء الحريري المخلصين، دون أن تمس الحزب.
عَانَت العلاقات الممتدة بين السعودية ولبنان ضربةً قاصمةً بعد الاستقالة المفاجئة للحريري عندما كان في الرياض في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2017 والتي تزامنت مع فرض القيود على حركة وحرية رئيس الوزراء اللبناني في السعودية.
لم تلتئم بعد الجراح التي سبَّبَتها هذه الأحداثُ الدرامية، خاصةً في أوساطٍ معينة من السُنَّة في لبنان. ومنذ ذلك الحين تتوالى أخطاء وتخبُّطات السياسة السعودية في لبنان، حسب وصف تقرير لموقع The Middle East Eye البريطاني.
السياسة السعودية في لبنان كانت تلعب دور الداعم الأول
تقليدياً كانت السعودية أكبر مانح للمساعدات والمنح للبنان حيث هرعت الرياض دوماً لمساعدة هذه الدولة العربية الصغيرة حتى بعد الحرب الإسرائيلية عام 2006 التي تسبب بها حزب الله خصم المملكة السياسي، إذ قدمت مليارات نحو 63 % من المساعدات لإعادة الإعمار ودعم الاقتصاد اللبناني رغم انتقادها لتوريط حزب الله للبنان في الحرب.
ثم تغير كل شيء للنقيض بعد تولي الملك سلمان
بدا أن هناك تغييراً في السياسة السعودية تجاه بيروت مع تقلب اتجاهات هذا التغيير وهو ما ظهر في قرار الملك سلمان بوقف هبة سلفه الملك عبد الله بتقديم ثلاثة مليارات للجيش اللبناني للتسلح مِن فرنسا.
وبلغت ذروة التقلبات السعودية باحتجاز حليفها التقليدي الحريري الذي يحمل الجنسية السعودية وإجباره على الاستقالة حسب رواية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي نفتها الرياض.
وبعد أيامٍ قليلةٍ من إطلاق سراح الحريري -بعد تدخُّلٍ دبلوماسيٍ فرنسيٍ في مبادرة من الرئيس إيمانويل ماكرون– أرسلت المملكة وليد اليعقوب سفيراً للبنان. وقدَّم اليعقوب أوراق اعتماده للرئيس اللبناني ميشال عون يوم 3 يناير/كانون الثاني 2018.
ولكن بعد أسابيع قليلة، اختفى من المشهد، وحلَّ محلَّه القائم بأعمال السفارة وليد البخاري.
كان أيضاً ثامر السبهان، وزير الدولة لشؤون الخليج في المملكة، شخصاً غير مُرحَّبٍ به في لبنان. اشتهر السبهان بتغريداته التهديدية ضد حزب الله والقادة في لبنان.
كان قائداً للشرطة العسكرية الخاصة قبل أن يرقيه وليُّ العهد محمد بن سلمان لرتبة وزير. وعلاقاته في الأوساط السياسية اللبنانية بين متودِّدٍ وكاره.
قيل إنه السبب وراء الاستقالة المفاجئة للحريري، وحُمِّل مسؤولية الفشل السياسي والدبلوماسي في لبنان على أيَّة حال، ونُحِّيَ عن الشؤون اللبنانية تنحيَّةً مُستَحَقَّة.
بعد استقالة الحريري اختفت السعودية من المشهد اللبناني
لم يعد الإعلام السعودي يهتم بأخبار هذه الدولة. وتوقَّف الهجوم على الرئيس عون ووزير خارجيته جبران باسيل. وسادت نغمةٌ من اللامبالاة.
قال سركيس أبي زيد، المُحرِّر في مجلة "تحوُّلات": "لم تعد العلاقات السعودية اللبنانية واضحة المعالم بسبب التغيُّرات التي أحدثها محمد بن سلمان في المملكة. الضبابية تكسو كل شيء".
ولكنها قررت العودة قبل الانتخابات التشريعية
ظهرت لبنان مرةً أخرى على الأجندة السعودية في الفترة التحضيرية للانتخابات التشريعية التي أُجرِيَت في 6 مارس/آذار. هبط المبعوث الملكي نزار العلولا على أراضي بيروت في شهر فبراير/شباط، وبدأ سلسلةً واسعة من الزيارات للسياسيين اللبنانيين والأحزاب في لبنان.
أخبر سياسيٌّ قريبٌ من حزب الله موقع The Middle East Eye البريطاني إن العلولا حاول -بلا جدوى- إعادة إحياء تحالف 14 مارس/آذار المناهض لسوريا وإيران. وبعد أن قوبل بالرفض من الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، وسعد الحريري، بالإضافة إلى تحفُّظ الكثير من الشخصيات اللبنانية، استسلم المبعوث الملكي. وصَرَّح المصدر ذاته أنَّ رئيس الوزراء اللبناني"استُدعِيَ حينها إلى السعودية".
استقبل الملك سلمان رئيسَ الحكومة اللبنانية في 28 فبراير/شباط واستقبله وليُّ العهد محمد بن سلمان بعدها مباشرة.
لا أحد يعلم ماذا دار خلال الزيارة الأولى للحريري للعاصمة السعودية منذ أربعة أشهر، لكن التكهُّنات انتشرت في الأوساط السياسية والإعلامية اللبنانية.
وظهر التأثير السعودي على تحالفات وتناقضات ما قبل التصويت
ظهرت النتيجة الأبرز للزيارة في تغيُّراتِ اللحظة الأخيرة في التحالفات، قبل شهر واحد من الانتخابات، إذ لم ينضم الحريري للتيار الوطني الحر الذي أسسه العماد ميشال عون ويترأسه حاليا صهره عون لجبران باسيل في معظم المناطق عكس ما كان مُخَطَّطاً في الأصل.
يقول أبو زيد: "ضَغَطَ السعوديون على الحريري كي لا يشارك في عملية عزل القوات اللبنانية، الحزب المسيحي الآخر الأقرب للسعودية".
وتوترت العلاقة بين الحريري وحليفه القديم سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية جراء موقف الأخير المتحمس للاستقالة المفاجئة والمشبته في أنها إجبارية للحريري من الرياض عكس موقف حليفه الجديد رئيس البلاد العماد ميشال عون وصهره وزير الخارجية جبران باسيل اللذين ظهرا داعمين بشدة للحريري في محنته، مطالبين بعودته.
وانتهت الانتخابات بهزيمة حلفاء المملكة
تمكَّنت القوات اللبنانية، وهي الحزب المعادي بشدة لحزبِ الله المؤيد لإيران، من مضاعفة حجم كتلتها البرلمانية من 8 أعضاء إلى 15 عضواً في مجلس قوامه 128 عضواً.
وتَدَّعي مصادرٌ أخرى -طلبت عدم الكشف عن هويتها- أن السعودية قدَّمَت دعماً مادياً سخياً للحريري حتى يعدِّل تحالفاته الانتخابية.
وانتهت الانتخابات بفقدان الحريري حليف الرياض التقليدي لنحو ثلث نوابه في البرلمان وإعلان حزب الله عن انتصاره بعد تقدم التحالف الانتخابي الذي يقوده.
ولكن المملكة تنكر وجود أي تدخُّلاتٍ لها في الانتخابات اللبنانية. أعلن العلولا خلال وجبة إفطار أقامها يوم 19 مارس/آذار ودعى إليها عدداً كبيراً من الشخصيات السياسية أن الرياض لن تُعلِّق على العملية السياسية في لبنان.
لم تكن هذه الكلمات كافيةً لإقناع حزب الله بعدم التدخل السعودي
أدان الشيخ نبيل قاووق -عضو المجلس المركزي لحزب الله- المملكة السعودية لتدخُّلها "في العملية التشريعية من خلال المُرشَّحين، وتشكيل القوائم، وشراء الأصوات، وحتى تنظيم الأحزاب".
وقال قاووق لموقع The Middle East Eye: "لقد وصل التدخُّل السعودي في الشأن اللبناني مرحلة غير مسبوقة. الرياض الآن تُشكِّل كتلةً برلمانية تواجه بها المقاومة؛ لتُضيِّق الخناق عليها وتضعفها"، حسب وصفه.
ويعتقد أن عملية شراء الأصوات ظاهرة موجودة في السياسة اللبنانية، وقد اتهم البعض حزب الله وحلفائه بتنفيذها في الانتخابات الأخيرة واستخدام كذلك المنطق الطائفي والترهيب في المناطق التي يسيطر عليها.
ولاحظ نائب رئيس البعثة الأوروبية لمراقبة الانتخابات النيابية في لبنان خوسيه أنطونيو دو غبريال ضخامة الإنفاق الإعلامي للانتخابات النيابية، خصوصاً على شاشات التلفزيون.
وبالنسبة لأبي زيد، فقد أخذ التدخُّل السعودي شكلَ ضغوطٍ وعقوباتٍ اقتصادية. وفي هذا السياق، قام مكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأميركي بالتعاون مع المملكة العربية السعودية يوم 16 مارس/آذار 2018، بوضع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وقياديٍ من حزب الشيخ نعيم قاسم وتسعةٍ آخرون، على قوائم "الإرهابيين".
وظهرت نتائج التدخل السعودي بالفعل في أوساط مؤيديها السنة
وتحديد في تيار المستقبل حليف الرياض التقليدي.
تمثل ذلك في الاستقالة المفاجئة لنادر الحريري مدير مكتب سعد الحريري وابن عمه.
كان نادر الحريري هو المهندس الذي خطَّط للمصالحة بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، الذي هيَّأ الوضع لإعادة انتخاب رئيس الجمهورية وإعادة سعد الحريري لمنصبه رئيساً للوزراء. لم يكن نادر الحريري مُفضَّلاً لدى حاشية محمد بن سلمان.
ولعب نادر الحريري الذي كان يوصف بأنه مفتاح سر سعد دوراً مهماً خلال أزمة احتجاز سعد الحريري في السّعوديّة الشتاء الماضي، إذ تصدّى، وفقًا للصحف اللبنانيّة، لمحاولات عديدة لاستبدال الحريري بشخصيّات سياسيّة أخرى.
كما تخلَّى رئيس الوزراء اللبناني أيضاً عن شخصيةٍ أخرى لا تحظى برضا الرياض، ألا وهو وزير الداخلية ومستشاره ورفيقه المُقرَّب نهاد المشنوق، الذي كان له تصريح مشهور خلال أزمة احتجاز واستقالة الحريري حيث رفض الاستقالة قائلاً "لسنا أغناماً في قطيع يفرضون علينا ما يريدون" .
وتقليدياً كان ينظر للمشنوق باعتباره أحد رجال السياسة الأقوياء ومرشحاً محتملاً لرئاسة الحكومة في حال لم يتولَّ الحريري رئاستها.
واضطر الحريري إلى الخديعة حتى يتخلَّص من ضغط كفيله الثقيل، عن طريق منع الجمع الصلاحيات بين الهيئة التشريعية والوزارة الأمر الذي أخرج المشنوق من دائرة الترشيحات الوزارية.
وختم أبو زيد حديثه قائلاً: "الحريري استسلم لضغوط السعودية بتخليه عن أفرادٍ في دائرته المُقرَّبة لأن الرياض ترى أنهم غير مرغوب فيهم".
بات استبعاد حزب الله صعباً واكتفت الرياض بهدف أقل طموحاً
زار الحريري الرياض بعد عدة أيام من تكليفه بتشكيل الحكومة، مما أثار المزيد من القلق لدى من يخافون من عودة التدخُّل السعودي في لبنان.
واستمرت زيارته للرياض خمسة أيام غلبت عليها السرية التامة ولم يخرج إلا القليل من التفاصيل للصحافة عن الأشخاص الذين التقاهم وعمَّا دار بينهم أثناء اللقاءات في العاصمة السعودية.
بالنسبة لقاووق، فلا شك أن هذه الزيارة كانت بغرضِ إقناع رئيس الوزراء بعدم تعيين أعضاء من حزب الله في الحكومة الجديدة.
وقال قاووق، عضو المجلس المركزي لحزب الله: "النظام السعودي أضعف بكثير من أن يمنعنا من التمثيل في الحكومة بوزراءٍ أكفَّاء. تواجُد حزب الله في التشكيل الوزاري الجديد سيكون قوياً وكفؤاً ومُؤثِّراً".
ولكن في يوم 3 يونيو/حزيران قال قاووق مرةً أخرى إن التدخُّل السعودي في الانتخابات البرلمانية اللبنانية والتشكيل الحكومي "مُخزٍ ومُريب".
يعتقد سركيس أبو زيد أن السعودية لا تهدُف لغيابِ تمثيل حزب الله في الحكومة فهذا -في نظره- هدفٌ مستحيل التحقيق. ويقول المُحلِّل: "يريدون ضمان وجود القوات اللبنانية -حليفهم الأقوى في هذه المرحلة- في الذراع التنفيذي".
سواء كان تدخُّلهم بهدف تنحية حزب الله أو كان للإبقاء على القوات اللبنانية فهذا يدل على عودة التواجد السعودي في لبنان في إطار زيادة التوتُّرات في المنطقة مع إيران وزيادة النشاط العسكري لإسرائيل في سوريا.