جاء تعديل القانون على خلفية قضية سد إثيوبيا الضخم، الجاري إنشاؤه حالياً بتكلفة تبلغ 4.1 مليار دولار على منابع النيل، والذي تخشى القاهرة أنه قد يخفض من موارد المياه الخاصة بها.
في قرية عمريط الصغيرة بمحافظة الشرقية الواقعة على دلتا النيل بمصر، كانت صباح تسير عبر قطعة الأرض البالغة نصف فدان التي تمتلكها عائلتها، لتجمع آخر محصول البصل لهذا العام (2018) في عربة صغيرة مع حفيديها.
في الربيع، عادةً ما تغطي حقول الأرز كلا الجانبين على طريق الإسماعيلية الزراعي، المؤدي إلى محافظة الشرقية الواقعة في شمال مصر.
تقرير لصحيفة ميدل إيست آي البريطانية استعرض حال الفلاح المصري مع محصول الأرز الاستراتيجي، وأشار إلى أنه لم يُر أي فلاح تقريباً هذا العام (2018) وهو يزرع المحصول الرئيسي الذي يعتمد عليه معظم المصريين، بعد قرار الحكومة تخفيض زراعة الأرز.
جاء تعديل القانون على خلفية قضية سد إثيوبيا الضخم، الجاري إنشاؤه حالياً بتكلفة تبلغ 4.1 مليار دولار على منابع النيل، والذي تخشى القاهرة أنه قد يخفض من موارد المياه الخاصة بها.
يحمل الرجال والنساء بقايا محاصيل القمح والبصل والبرسيم على ظهورهم، بالإضافة إلى عبء الحيرة الناتجة عن غياب الأرز عن موسم الحصاد الجديد.
زرعت صباح وعائلتها الذرة على جزء من أرضهم وتركوا باقي الحقل -الذي كان من المعتاد أن يزرعوا فيه الأرز-ـ فارغاً؛ "على أمل أن تغيِّر [الحكومة] قرارها أو تجد حلاً".
وقال محمد صهر صباح: "يصعب عليَّ حقاً أن أرى كل هذه المساحة غير المزروعة من الأرض".
استيراد الأرز
في أبريل/نيسان 2018، وافق البرلمان المصري على مسودة قانون حكومي بتعديل قانون الزراعة المصري رقم 53 لسنة 1966 الذي يحدد عدد الأفدنة المخصصة لزراعة الأرز بـ724000 فدان (750000 أكر) في مصر كلها، وهو ما يقدَّر بأقل من نصف المساحة المزروعة البالغة 1.8 مليون فدان التي زُرعت بالأرز في عام 2017. كانت المساحة المزروعة العام الماضي (2017) أكبر بكثير من المساحة المخصصة رسمياً لزراعة الأرز والبالغة 1.1 مليون فدان.
طبقاً للقانون، تُفرض غرامة على التجاوزات، تتراوح بين 3000 جنيه مصري (169 دولاراً) و20000 جنيه مصري (1129 دولاراً) والحبس لمدة تصل إلى 6 أشهر.
وصرح عيد حواس، المتحدث الرسمي باسم وزارة الزراعة، لصحيفة "Middle East Eye"، بأن قرار الحد من زراعة المحصول كثيف الاستهلاك للمياه قد أُصدر منذ عاملين، ولكنه "لم يُؤخذ بجدية كافية".
وأضاف حواس: "هذا هو المقدار المطلوب لاستهلاكنا الوطني. بينما المقدار الباقي كان يتم تصديره من قبل".
ومع ذلك، وبعد تخفيض زراعة الأرز في البلاد، أعلن رئيس الوزراء شريف إسماعيل، يوم الثلاثاء 5 يونيو/حزيران 2018، أن مصر ستبدأ استيراد الأرز؛ لزيادة المخزون لديها والتحكم في السوق.
ولم يحدد كمية الأرز المستورد أو توقيت الاستيراد. ومع ذلك، قال تجار الأرز إن مصر سوف تستورد ما يصل إلى مليون طن من الأرز العام المقبل (2019)، بعد أن كانت مُصدِّراً رئيسياً لعقود، وذلك وفقاً لـ"رويترز".
قال عبد المولى إسماعيل، الباحث في التنمية البيئية والزراعية: "هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها هذا".
وأضاف: "[ومع ذلك،] فليس من المفاجئ أن تستورد مصر الأرز لضبط الاحتياج له. سوف تظهر فجوة كبيرة يجب سدها؛ نظراً إلى أن الأرز جزء أساسي من طعام المصريين اليومي".
عادةً ما تُنتج مصر فائضاً من الأرز، ولكن منذ عام 2008 مُنع التصدير على فترات متقطعة؛ للحفاظ على مخزون للسوق المحلية والحد من زراعة المحصول لتوفير المياه.
ويؤكد إسماعيل أن "بذور الأرز المصرية تعتبر مورداً مهماً لنا بحق، وهي واحدة من أجود البذور في العالم".
صرح موسى، عضو جمعية الفلاحين في الشرقية، لموقع "ميدل إيست آي"، بأن هناك 6.000 فدان (ما يعادل 6.227 هكتار) في الشرقية تعتبرها الوزارة مناسِبة لزراعة الأرز. يعود ذلك -كما أوضح موسى- إلى أن "هذه الحقول قريبة جداً من ترعة الإسماعيلية؛ لذا يسهل غمرها بالماء بسرعة من دون هدر".
الكينوا بديلاً للأرز
قدَّمت وزارة الزراعة المصرية خطة بديلة: فبدأت في حملة وطنية للترويج لزراعة نبات الكينوا كبديل عن الأرز؛ إذ تحتاج بذور الكينوا الغنية بالبروتين مياهاً أقل في زراعتها.
نبات الكينوا ليس معروفاً بين الشعب المصري، وربما تجده بأسعار عالية في منافذ محدودة لبيع الأطعمة. لم يسمع عنها الكثير من المزارعين مثل موسى. يقول: "أنا لا أعرف ما هذا!" مشيراً إلى الكينوا.
من جانبه، يظن إسماعيل أن الأمر قد يتطلب أعواماً لكي يَقْبل المستهلكون غلَّة جديدة ويتقبلون هذا التغير الجذري في عادات أكلهم.
يقول: "يُعتبر الأرز جزءاً رئيسياً في سلَّة المصريين الغذائية، ولا يوجد بديل له… لا المعكرونة ولا الكينوا".
لم يسمع موسى عن حملة الكينوا، ولكنه يقول إن الفلاحين سوف يزرعون الذرة وبذور السمسم والفول السوداني وفول الصويا بدلاً من الأرز.
يضيف: "ولكن بالطبع، لا يمكن لأي شيء أن يحل محل الأرز".
"تخيَّل لو أننا جميعاً نزرع ذرة"
معظم الفلاحين في مدينة عمريت لديهم ممارسات تناوبية؛ إذ يقسمون محاصيلهم بين الأرز والقطن والذرة. ولأن القرار صدر متأخراً بعد بداية موسم زراعة القطن، الذي يبدأ عادةً في مارس/آذار وبداية أبريل/نيسان، لجأ معظم الفلاحين إلى زراعة الذرة بدلاً من الأرز؛ لأن زراعة المحصولين تحتاج نوع التربة نفسه، وفقاً لصباح.
يقول محمد إن الأرز هو أحد المحاصيل "المُحِبَّة للماء"؛ نظراً إلى أن البذور يجب أن تُغمر في مستوى عالٍ من الماء يصل إلى 5 بوصات على الأقل، لتنمو جيداً.
ويستدرك: "ولكنَّ الزراعة الأساسية للفلاح هنا هي الأرز"، ثم يضيف بطريقة بلاغية: "تخيَّل لو أننا جميعاً زرعنا الذرة".
وفقاً لمحمد: "تحتاج الذرة إلى المزيد من الكيماويات والعمالة والسماد مقارنة بالأرز".
يضيف ضاحكاً: "حتى الماشية في الحقل لا تأكل الذرة".
يقول مزارع آخر من الشرقية يدعى فوزي، إن المصريين "يزرعون الأرز منذ أن خلقنا الله".
يمتلك فوزي 3 أفدنة، يقسمها عادةً بين زراعة الذرة والأرز. قرر أن يزرع الحقل كله ذرةً، ولكنه يخاف أن يخسر المزارعون الكثير من الأموال؛ لأن ما سيتم إنتاجه من الذرة سيكون أكثر من المطلوب.
يقول بهجت، ابن فوزي: "لم يتوقع معظم الفلاحين أن يتم التصديق على هذا القانون".
قال: "ظننا أن نوابنا في البرلمان سوف يساندوننا"، مضيفاً: "وعدنا النواب بأن الحكومة سوف تشتري كل المحصول إذا انتهى الأمر إلى ما تخوَّف منه أبوه، ولكن بالطبع ليس هناك أي ضمان على ذلك".
في تصريح لـ"ميدل إيست آي"، قالت أم أحمد، وهي موظفة بمكتب الإصلاح الزراعي التابع لوزارة الزراعة، إن قصص الأشخاص الذين تم التحقيق معهم وحبسهم وتغريمهم جعلت الفلاحين غير مقبلين على أي مخاطرة.
ذكرت وكالة رويترز أن الشرطة كانت تسجن المزارعين في بعض المحافظات حتى يسددوا الغرامات المستحقة منذ سنين مضت؛ بسبب زراعتهم أفدنة أكثر من المتفق عليها.
قال موسى في تصريح آخر لـ"ميدل إيست آي"، إنه لا يعرف أحداً تعرَّض للسجن في محافظة الشرقية، ولكن تم تغريم بعض المزارعين؛ بسبب مخالفات العام الماضي (2017)، مضيفاً أن "رجال الشرطة يذهبون لبعض المناطق ويطرقون أبواب الناس، فيفزع المزارعون بالطبع ويدفعون غراماتهم في الحال".
عواقب بعيدة المدى
يصرُّ بعض الفلاحين على أن الحكومة كان من الممكن أن تتعامل مع الأمر بشكل مختلف.
تقول صباح: "إذا أصبح الناس أكثر فقراً، ألن يخلق هذا مشاكل أكثر للدولة؟".
لاحظ مزارعو الشرقية في السنين الماضية ارتفاع أسعار الأرز. تقول أم أحمد وصباح إنهما دفعتا 10 جنيهات (60 سنتاً) ثمن كيلو أرز في آخر مرة اشتروه، بينما كان ثمنه 4 جنيهات ونصف جنيه (25 سنتاً) قبل تعويم الجنيه المصري في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
أخبرت أم أحمد "ميدل إيست آي" بأن بعض الناس فقراء جداً، وسيصعِّب هذا الأمر الحياة عليهم كثيراً، مشيرة إلى ما قد يسببه سعر الأرز لميزانية الأُسرة.
يقول إسماعيل، وهو باحث في التنمية البيئية والزراعية، إن قرار الحكومة سيكون له تأثير اقتصادي وبيئي قاسٍ. وفقاً لإسماعيل، يوجد على الأقل 1.5 مليون مزارع يعتمدون على زراعة الأرز. "ولو افترضنا أن كل مزارع لديه عائلة تتكون من 3 أفراد آخرين، إذاً هناك على الأقل 6 ملايين مصري سيتأثرون بشكل مباشر من هذا القرار".
تقول أم أحمد: "ماذا تبقى لنا بعد أن أخذوا الأرز؟!"
وهناك عواقب بيئية أخرى طويلة الأمد تتعلق بالأراضي الزراعية.
يوضح إسماعيل أن "زراعة الأرز خفّضت نسبة الأملاح بالأراضي الزراعية، خاصةً في الدلتا. لو لم نزرع الأرز، فستدمر الأملاح التربة ولن تصبح قابلة للزراعة بعد ذلك خلال 3 أو 4 سنوات".
صرَّح حواس لموقع ميدل إيست آي، بأن مصر تتوقع توفير مليارات الأمتار المكعبة من الماء بعد قرارها تقليل زراعة الأرز. يقول: "تستهلك محاصيل مثل الأرز والموز الكثير من الماء، 75% من استهلاك مصر المائي يذهب إلى الزراعة".
وفقاً لآخر الأرقام التي أصدرتها وكالة الإحصاءات الوطنية في مصر، وهو الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، استُخدم 46.7 مليار متر مكعب من الماء لري الأراضي الزراعي في 2016.
يصرُّ إسماعيل -على الرغم من ذلك- على أنه توجد إجراءات أخرى كان من الممكن أن تتخذها الحكومة لمواجهة أزمة المياه.
يقول: "هناك طرق أخرى تُهدَر بها المياه، مثل المياه المستخدمة في البحيرات الاصطناعية بملاعب الغولف والمجمعات السكنية المسوّرة"، مشيراً إلى التجمعات السكنية الراقية مثل القاهرة الجديدة.
إنذار
وصلت مفاوضات مصر مع السودان وإثيوبيا حول سد النهضة إلى طريق مسدود، وأصبح المسؤولون المصريون تحت ضغط متزايد للوصول إلى حل قبل افتتاح السد، المتوقع بنهاية هذا العام (2018).
يعتبر نهر النيل شريان حياة مصر؛ إذ يمدّها بأكثر من 97% من احتياجاتها المائية. مصر بالفعل تحت خط الفقر المائي، بعجز سنوي يقدَّر بنحو 20 مليار متر مكعب. تتوقع الأمم المتحدة أن تصل مصر إلى أزمة مائية حادة بحلول عام 2025.
تقول أم أحمد: "يضع المسؤولون هذا التحذير أمامنا، وكأنهم يقولون: إما أن تزرعوا الأرز وإما أن تشربوا المياه".