استبدل كيتو كوباياشي ثياب عمله المعتادة بزي آخر خاص بمهنته الثانية، التي هي رجل إطفاء متطوع. تقول الأسطر التي تصف صورته الظاهرة في الروزنامة (السجل) الجديدة، التي انضم إليها، إنه لا يؤدي سوى واجبه الطبيعي الذي هو الحفاظ على أمن عائلته وقريته.
أما صورة سيغو فوجيوارا فيظهر فيها وهو يتأمل في البعيد برأس معصوب بغطاء tenugui الياباني التقليدي، ويأمل هذا المسّاح ذو الـ29 عاماً أن يجد له امرأة ذات "ابتسامة جميلة" ليجوب معها العالم.
هذان و10 رجال آخرون من قرية أوتاري هم الوجوه التي تمثل قنبلة اليابان الديموغرافية الموقوتة التي تتسارع دقاتها، حيث يأمل هؤلاء أن تساعدهم لقطاتهم المنشورة في الروزنامة على إثارة اهتمام عروس ما قد تجد ضالتها في أحدهم، لينتهي بذلك بحثهم عن الحب والرفقة.
وتفرد الروزنامة لائحة بأسماء الشباب، ومهنهم، وهواياتهم، فضلاً عن بضع كلمات حول أهدافهم في الحياة، ومواصفات الشريكة المثلى لهم، حسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، تناول تجربة هذه القرية الجبلية في مواجهة شبح الذبول الديموغرافي.
عندما يصبح العثور على الحب مهمة شبه مستحيلة
أوتاري، قرية في محافظة ناغانو في جبال الألب اليابانية الشمالية، المعروفة بمناظرها الخلابة الآسرة، وبأماكن تزلجها الأفضل في البلاد، بيد أن العثور على شريكة حياة في هذه القرية اتضح أنه مهمة عقيمة بالنسبة لكوباياشي وأصدقائه.
يبلغ تعداد سكان أوتاري ثلث ما كان عليه في الخمسينيات، وقد تضاءلت أعداد السكان خلال العقد المنصرم من 3 آلاف و734 شخصاً إلى ألفين و795، حتى إن أعداد الأطفال باتت أقل من 180 طفلاً في عمر الابتدائية والمتوسطة.
طبقاً للمعهد الوطني لأبحاث السكان والتأمين الاجتماعي، فإن عدد سكان أوتاري سينخفض إلى حوالي 900 نسمة فقط، بحلول عام 2060، إذا استمرت الاتجاهات الديموغرافية الحالية. أما اعتباراً من مارس/آذار الماضي، فقد بلغت أعداد الرجال والنساء في العشرينيات والثلاثينيات من عمرهم في أوتاري 275 رجلاً و218 امرأة فقط.
لماذا تغادر النساء القرية ويبقى الرجال؟
في الغالب تغادر النساء القرية بحثاً عن وظيفة، وربما عن شريك، أما الرجال فالمتوقع منهم البقاء ليرثوا مزارع العائلة ومتاجرها، ما يتركهم أمام فرص ضئيلة للزواج والإنجاب.
وضع قرية أوتاري يتكرّر في أماكن عديدة في أنحاء البلاد، فطبقاً لإحدى الدراسات فإن 869 بلدية (أي حوالي نصف مجموع بلديات البلاد) هي معرضة لخطر الاختفاء، نظراً لقلة معدلات الولادة، ففي تقرير بعنوان Local Extinctions (انقراضات محلية) قال مجلس السياسة الياباني، إن تلك البلدات والقرى ستتعطل وظائفها إذا انخفض عدد النساء بين عمر 20 و39 فيها إلى أقل من النصف بحلول عام 2040.
ليست مشكلة أوتاري وحدها.. أزمة الجنس في كل اليابان حتى بين المتزوجين
مشكلة كبيرة في الخصوبة وتعقد العلاقات الجنسية تعاني منها اليابان، بعدما أظهرت الأرقام أن 2016 كان العام الأول منذ عام 1899 الذي ولد خلاله أقل من مليون طفل في البلاد.
ووجدت دراسة أجريت عام 2016، أجرتها شركة أبحاث يابانية، أن ما يقرب من 70% من الرجال اليابانيين غير المتزوجين و60% من النساء اليابانيات غير المتزوجات ليس لديهن علاقات جنسية، رغم أن الغالبية العظمى تدعي أنها تريد الزواج في نهاية المطاف.
وتقول ماري برينتون، وهي عالمة اجتماع في جامعة هارفارد، إن ثقافة العمل في اليابان غالباً ما تستولي على ساعات طويلة على حساب حياة اجتماعية نشطة، وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد تفاقمت الظاهرة مع دخول المزيد من النساء إلى سوق العمل، حيث بات كلا الجنسين يجد صعوبة في تكوين أسرة.
وتشير البيانات الجديدة إلى أرقام أخرى قاتمة، أبرزها أن عدد سكان اليابان يمكن أن يتراجع إلى أقل من 100 مليون نسمة بحلول عام 2053، وهذا يحد من هدف الحكومة الاتحادية المتمثل في الحفاظ على عدد سكان لا يقل عن 100 مليون نسمة عام 2060.
والمشكلة دخلت البيوت اليابانية، فقد أظهر استطلاع أجرته الجمعية اليابانية للتخطيط الأسري عام 2016، أن نسبة المتزوجين الذين لم يمارسوا الجنس لشهر على الأقل قد بلغت 47.2% وهو أعلى مستوياتها.
وبصفة عامة تحظى ممارسة الجنس وعلاقات الحب الرومانسية والزواج بجاذبية أقل من أي وقت مضى بين الكثير من الشباب الياباني الأصغر سناً.
نيويورك تقدم النموذج.. والفتيات هم أمل القرية في البقاء
يوكي نوزاكي كويلكي، موظفة سابقة في وزارة الخارجية اليابانية، وهي الآن مستشارة لعمدة أوتاري. توصلت إلى فكرة الروزنامة بعدما رأت نجاح مطافئ نيويورك في روزنامتها Calendar of Heroes (روزنامة الأبطال).
هي مقتنعة بأن أفضل فرصة لتبني عليها أوتاري آمالها في البقاء حية على المدى الطويل هي باستقطاب عدد صغير من الشابات الموظفات اللواتي سئمن حياة المدينة، لكن ليست لديهن أي قرابات في الريف.
تدعم يوكي برنامجاً لتفكيك بعض البيوت الريفية الكبيرة المهجورة في القرية، بغية نقلها إلى مواقع أفضل، أملاً باجتذاب الشركات الناشئة، فمن المزمع افتتاح شركتين للتقنية العام المقبل، بتشاركهما مبنى مجدداً لمنزل ريفي قديم بالقرية عمره 250 عاماً.
تقول "حان الوقت لنتخلص من أسلوب الاتكال على البركة، ونصنع شيئاً لإنعاش القرية بدمج أصولها ضمن نموذج تجاري مناسب. الروزنامة خطوة أولى لتغيير تلك العقلية. إنها أموال أنفقت جيداً في محلها".
وحتى تاريخه تلقَّى مكتب بلدية القرية استفسارات من 8 نساء، قامت 4 منهن بمتابعة العملية بإرسال صورهن ومعلوماتهن الشخصية.
لم يعارضه أحد ولكنهم متردِّدون فعقلية الريف ما زالت قائمة
كان لكوباياشي الذي يعمل في مكتب بلدية القرية دورٌ مهم في جمع الـ11 شاباً من أجل هذه المبادرة، وقال إنه استغرب لعدم مواجهته أي مقاومة أو معارضة منهم "فهناك فرص قليلة جداً للقاء نساء شابات هنا، وأنا أتحدث من واقع تجربة".
بيد أن كوباياشي وبقية الشباب الظاهرين في الروزنامة مترددون في خوض غمار العملية اللازمة لتوسيع نطاق بحثهم، ويُرجع السبب في ذلك جزئياً إلى "عقلية الريف"، غير أنه يقول إن ثمة إيجابيات واضحة للحياة في هذا الركن الذي لم تعبث به يد الإنسان، شمال غربي محافظة ناغانو.
يقول "لقد درست الجامعة في طوكيو وكنت أشعر بالضغط من مجرد ركوب المترو صباحاً، أما هنا فالحياة خالية تماماً من الضغط".
ولكن ماذا تقدمه القرية لكي تترك النساء المدينة وتنتقل إليها؟
مع أن اليابان شهدت ارتفاعاً طفيفاً في معدلات الخصوبة في السنوات الأخيرة، إلا أن حوافز الحكومة مثل مبالغ النقد المدفوعة مرة واحدة لم يكن لها سوى أثر محدود. في أوتاري يتلقى أرباب العائلات الكبيرة مبالغ نقدية تدفع لمرة واحدة، تزداد قيمتها مع كل مولود، فضلاً عن حسومات على نفقات التعليم، بيد أن نتيجة هذه كانت ضئيلة.
يقول العمدة هيساشي ماتسوموتو معترفاً "لا يوجد لدينا حل سحري لنقص السكان، فالسكان سيستمرون في الأغلب بالتضاؤل أعداداً، لكننا إن تمكنا من إقناع المزيد من العائلات بإنجاب 3 أطفال مثلاً، عندها سيمكننا على الأقل إبطاء معدل الهبوط".
وتابع "على الأقل أريد لمن يعيشون هنا أن تكون لهم حياة صحية وسعيدة قدر المستطاع، والأمر ينطبق على كل من يقرر الانتقال إلى هنا".
دانييل هنتر أسترالي في الـ21 من العمر، وهو الآن منهمك في وظيفة تدريبية على أعمال الجص والسيراميك والبلاط. وقع هنتر في حب قرية أوتاري منذ أول زيارة له إلى المنطقة قبل عدة سنوات. هو أعزب ولا يمانع أن تكون له صديقة، لكنه يرى في الروزنامة فرصة لتوسيع العلاقات العامة أكثر منها نداءً شخصياً باحثاً عن شراكة الزواج.
يقول "أرى أنها فرصة جيدة للإظهار أمام الناس أن ثمة أجانب يعيشون بسعادة هنا". ويتابع هنتر الذي يقضي والداه كل شتاء في إدارة نزل للتزلج على مقربة "أرى أني قد أستطيع المكوث هنا لفترة رغم أني أحياناً أتمنى لو كان المكان أكثر نبضاً بالحياة".
لا يتوقعون تدفقاً لأفواج من النساء الشابات.. ويتحسّبون لمنافسة رجال آخرين
لا أحد في أوتاري يتوقع من الروزنامة أن يكون لها أثرٌ، مثل وصول أفواج من النساء الشابات من كل مكان، ناهيك عن أن تنتج عنها طفرة محلية عالية في المواليد، لكن فوجيوارا يأمل أن تثير قدراً من الاهتمام يجعل الناس يتحدثون عن القرية على الأقل. يقول "أنا جزء من متجر عائلي، ولذا سأظل هنا في المستقبل المنظور. على أي حال، إن الانتقال إلى مكان به نساء أكثر سيعني وجود رجال أكثر أيضاً، ما سيجعلهم منافسين لي".
كوباياشي بعمر الـ26، ولذا هو لا يتذمر مستعجلاً الزواج. لكنه مثل أي رجل في أوتاري يريد أن يوفق بين عزمه على البقاء في البلد وبين رغبته في العثور على شريكة حياته. يختم فيقول "لم تخطر ببالي مطلقاً فكرة مغادرة القرية. لكني لا أريد أن أظل أعزب كذلك".