على بعد 10 كيلومترات تقريباً شمال مدينة منبج السورية، توجد قرية قريبة من الحدود التركية تُدعى "دادات"، حكمها العديد من الفصائل والجماعات المختلفة منذ عام 2012. يتمركز فوق أحد تلالها مقاتلو قوات سوريا الديمقراطية ذات الأغلبية الكردية داخل المخابئ وخلف الجدران الترابية.
يراقب المقاتلون عبر المناظير الجيش التركي وفصائل المعارضة المدعومة من تركيا، الذين بنوا قواعدهم ومخابئهم على بُعد حوالي ميل (1.6 كيلومتر تقريباً).
يزور جنود العمليات الخاصة الأميركية في كثير من الأحيان الأكراد للاطلاع على تطورات الوضع واحتساء فنجان شاي، حيث يعيش الأميركيون بينهم بالقرب من الخط الأمامي، ويعملون مع قوات سوريا الديمقراطية لمنع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من العودة مرة أخرى.
خلال رحلة قامت بها صحيفة The New York Times الأميركية إلى المنطقة في أواخر مارس/آذار، قاد بهم قائدٌ في قوات سوريا الديمقراطية يُدعى شيار في شاحنته الصغيرة على بُعد مسافة قصيرة من الخط الأمامي إلى منزلٍ صغير يتميز بوضوح بعلمٍ أميركي يرفرف على سطحه، وكانت العربات المدرعة متوقفة في الخارج.
قال شيار: "أتريان، هذه هي قاعدتهم. أردنا أن نُعطي البيت مجاناً للأميركيين، لكنَّهم أصروا على دفع إيجار مقابل ذلك".
على سقيفة المنزل، بدا أنَّ الجنود الأميركيين الذين يحملون الأخشاب يُحصِّنون موقعهم. ورفضوا التعليق.
سوريا التي لم تعد كما كانت
عانى شمال سوريا من العنف على مدى أكثر من سبع سنوات. وشهد صعود وسقوط جماعات مسلحة مختلفة، وتقلص وتوسع الجيش السوري، ودعم اللاعبون الإقليميون أصحاب المصلحة – تركيا وإيران وروسيا والولايات المتحدة، إلى جانب العديد من دول الخليج العربي – جميعهم قضاياهم أو جماعاتهم المسلحة المفضلة أو أدخلوا مقاتليهم في الصراع.
كانت النتيجة مجموعة من القوى المُتنازعة على الأرض، بما في ذلك حلفاء تقليديون وجدوا أنفسهم الآن في جانبين متعارضين، أو متحالفين في موضعٍ ومتعارضين في موضعٍ آخر.
على الرغم من أنَّ سوريا رسمياً لا تزال دولة موحدة، فإنَّ الدول الخارجية المُتدخِّلة على الأرض قسَّمتها في الواقع إلى ثلاثة قطاعات: روسيا (في الغرب، والشمال، والوسط)، تركيا (في الشمال الغربي)، وأميركا (في الشمال والشرق).
ينشأ الكثير من الصراع في سوريا في أماكن يحدّ فيها قطاعان أو أكثر من هذه القطاعات بعضها البعض. وهذا هو السبب الذي يجعل منبج والمنطقة المحيطة بها نقطة ساخنة.
إذ تحازي هذه المدينة التي تضم 300 ألف نسمة وتقع على الحافة الغربية للقطاع الأميركي أيضاً القطاعين التركي والروسي.
قال شيار: "لقد حاربتُ داعش، وتركيا، والآن أنا في منبج، حيث تلتقي كل الأطراف"، وأضاف: "إنَّها مدينة صغيرة. مَن كان يظن أنَّ مكاناً كهذا سيجذب اهتماماً دولياً كبيراً للغاية؟". في بلدة أريما، إلى الغرب مباشرةً من مدينة منبج، يتكدَّس كلٌ من قوات سوريا الديمقراطية والأميركيون والأتراك والمعارضة والجيش السوري والروس والإيرانيون في كيلومتر مربع واحد. ولا يُسمح للصحفيين في الوقت الحاضر بدخول هذه المنطقة.
فيها تتجمع أعتى قوات الأرض
قال علي، وهو مقاتل كردي التقينا به في بلدة عين عيسى إلى الشرق من منبج: "كنا أطفالاً أشقياء قليلاً في المدرسة. كان يصرخ فينا معلمنا في كثيرٍ من الأحيان قائلاً: 'إذا واصلتم أن تكونوا مثيري شغب كهذا، فإنَّ نهاية العالم سوف تبدأ هنا في منبج". وأضاف: "إذا نظرتُ الآن إلى الوضع الذي توجد فيه منبج، أفكر كثيراً في كلمات معلمي".
وتقع منبج بالقرب من مدينة دابق التي تحظى بموقع استراتيجي، فضلاً عن وجود بعد ديني لها عند المسلمين، وتأتي هذه المكانة للمدينة لكونها وردت في حديث صحيح عن النبي محمد يتحدث فيه عن أن الساعة لا تقوم حَتَّى ينزلَ الرُّومُ بالأعماق أَوْ بدابق، وأن جيشاً من المدينة يخرج إليهم، ليتجابهوا فينهزم ثلث منهم، ويُقتل ثلث آخر "هم أفضل الشهداء عند الله"، وثلث يفتح القسطنطينية.
وبفضل هذا الحديث تحمل دابق رمزية كبيرة، وقد حاول تنظيم "داعش" استغلال رمزية القرية لتسويق برنامجه الفكري والسياسي، واتخاذها وسيلة للاستقطاب بناء على أنه يجب مساعدة قائد المسلمين في "معركة دابق الكبرى"، فسارع إلى السيطرة عليها في وقت مبكر، وقبل أن يخسرها التنظيم قال زعيمه أبو بكر البغدادي، "ليست هذه معركة دابق الكبرى التي ننتظرها"، في إشارة إلى الحديث الذي ذكر معركة ستقع في آخر الزمان على أرضها.
ويُعَد الأميركيون والأتراك رسمياً حليفين بحلف شمال الأطلسي "الناتو"، لكن ليس الوضع كذلك في قرية دادات، حيث وُجِّهت قذائف الهاون في حديقة المجمع الأميركي باتجاه الجيش التركي.
هذه الجبهة ليست نشطة، ونادراً ما تتبادل القوات إطلاق النار. لكن يعمل الجنود الأميركيون مع القوات الكردية المنتشرة في مناطق أخرى في سوريا ليس فقط ضد حليف بالناتو، بل أيضاً ضد معارضين سوريين جرى لسنواتٍ تسليحهم وتمويلهم من الولايات المتحدة. ويعمل هؤلاء المسلحون الآن مع تركيا.
والصراع طالت أثاره السكان
بالنسبة للمدنيين، الوضع داخل المدينة هو بنفس القدر من التعقيد. فمنذ بداية الصراع، حُكِم سكان منبج من جانب جميع الأطراف تقريباً. وكانت القوات السورية التابعة للرئيس بشار الأسد موجودة في المدينة حتى منتصف عام 2012، عندما قام مقاتلو الجيش السوري الحر بالحلول محلهم حتى أوائل عام 2014. ثُمَّ سيطر داعش على المدينة وحكمها حتى منتصف عام 2016، عندما استعادت قوات سوريا الديمقراطية المدينة من داعش.
غالبية سكان منبج هم من العرب السُنّة، ولا يروق للكثير منهم احتلال قوات سوريا الديمقراطية ذات الأغلبية الكردية للمدينة. وتُعَد قوات سوريا الديمقراطية هي علمانية تميل إلى اليسار وداعمة لحقوق المرأة. وتضم صفوفها مقاتلات لا يرتدين الحجاب ويصافحن الرجال. ويتولى بعض هؤلاء النساء قيادة جنود رجال.
يتسم السكان العرب في منبج بأنَّهم محافظون للغاية. فيخرج معظم النساء من المنزل وهن يرتدين النقاب. لذلك سيُفضِّل بعض السكان العرب في منبج سيطرة الجيش التركي والمعارضة السورية المتحالفة معه على المدينة. ويرى آخرون مخاطر في التحالف مع تركيا، معربين عن رغبتهم في أن تستعيد الحكومة السورية منبج.
قال أحد سكان المدينة، الذي طلب عدم ذكر اسمه: "إذا حلَّت تركيا محل الأكراد، فلا سبيل لمعرفة ما إذا كانوا سيغادرون مرةً أخرى. لذا من الأفضل عودة بشار الأسد. فالأسد عربي، لكن الأكراد والأتراك ليسوا كذلك".
لكنَّ مجموعات عربية أخرى في منبج كانت براغماتية وتعمل مع السلطات الحالية –قوات سوريا الديمقراطية- للإبقاء على السلام، لأنَّ هناك عاملاً آخر مزعزعاً للاستقرار يتربص في منبج حتى الآن هو داعش.
فقد حكم التنظيم الإرهابي المدينة لأكثر من عامين. وعلى الرغم من أنَّه اُزيح من السلطة المحلية، يقول السكان والمقاتلون المحليون إنَّه لا تزال هناك خلايا نائمة لداعش في المنطقة. ولا يزال الإمام الصوفي في المسجد المُدمَّر لا يجرؤ على التحدث إلى الصحفيين الأجانب. وقال، دون ذكر اسمه: "نحن خائفون. لا يزال تنظيم داعش موجوداً للأسف".
وفي 29 مارس/آذار، قُتِل جنديان من التحالف في منبج وأُصيب خمسة آخرون عندما هاجم مجهولون سيارة بالقرب من مقبرة صوفية. وعلى الرغم من أنًّ داعش لم يزعم مسؤوليته عن الهجوم، يُعتَقد بشكل عام أنَّ التنظيم أو عناصر متطرفة أخرى وراء التفجير، إذ تتناسب الشكوك حول الهجوم مع نفس نمط عملهم. وقليلون هم مَن يعرفون بمَن يجب أن يثقوا، ولا أحد يعرف ما هو متوقع. ولا يوجد هناك إلا عدد قليل من المدنيين في منبج على استعداد للتحدث علناً.
قال صاحب متجر بالقرب من أحد الشوارع الرئيسية: "ما الذي يمكن أن نفعله؟". وأضاف: "إذا قلنا أنَّنا نحب الأكراد، سيغضب الأتراك. وإذا قلنا أننا نحب الأتراك، سيغضب الأكراد والسوريون. الشيء الوحيد الذي يمكن أن نقوله هو أنَّنا نأمل في ثلاثة أمور: الاستقرار، الاستقرار، والاستقرار".
والتأهب دائماً موجود
لا تستطيع قوات سوريا الديمقراطية في منبج أن تغفل دقيقة بسبب الخوف الدائم من ضربة تركية مفاجئة ومدمرة. بالنسبة للقائد الكردي محمد أبو عادل، القائد العام للمجلس العسكري في منبج، فإنَّ هذا الخوف لا تعود أصوله فقط إلى الموت والدمار الذي يمكن أن يزرعه مثل هذا الهجوم، لكن أيضاً إلى حالة عدم اليقين بشأن ما إذا كان الدعم الأميركي لقواته الكردية سينتهي.
وقال أبو عادل إنَّه تلقى تأكيدات بشأن بقاء القوات الأميركية. وبينما هو واقف بالقرب من مقره في ضواحي منبج، تصفَّح القائد الكردي محمد أبو عادل هاتفه الذكي وأظهر رسائل صوتية تلقاها مؤخراً عبر تطبيق Whats App من قادة وحدة أميركية في المدينة.
نقل مترجمٌ يعمل مع قوات وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في إحدى الرسائل تأكيدات الضابط الأميركي قائلاً باللغة العربية: "القائد يرسل لك تحياته ويقول إنَّنا ندعمكم".
وعبَّرت رسالة Whats App أخرى عن دعمٍ أميركي للمقاتلين الأكراد، على الأقل في الوقت الراهن. قالت الرسالة: "هل هناك أي إصابات في الخطوط الأمامية؟. تأكد من أنَّ الجميع بأمان".
القائد الأميركي في رسالة أخرى: "هل لا تزال سياراتك بخير؟ هل أنت بحاجة إلى أي قطع غيار للسيارات؟ فقط أخبرنا. لقد كنا في دورية وعدنا للتو إلى القاعدة".
وفي إشارةٍ إلى التقارير المنتشرة حالياً حول انسحاب القوات الأميركية من سوريا، قال القائد الأميركي في رسالته للقائد الكردي محمد أبو عادل: "لا تدع الأخبار تزعجك. كل هذه شائعات".