منذ سيطر كيم جونغ أون على مقاليد الأمور حاكِماً شاباً غير مُجرَّب لكوريا الشمالية قبل 7 سنوات، وَعَدَ بلاده بمستقبلٍ يخلو من الحرمان والعوز.
وفي أول خطابٍ له كزعيمٍ للبلاد، تعهَّد بأنَّ الكوريين الشماليين -الذين تضوَّر الملايين منهم جوعاً أثناء مجاعةٍ ضربت البلاد في التسعينات- لن يضطروا لشدِّ أحزمتهم مجدداً أبداً. والعام الماضي 2017، اعتذر للأمة عن إخفاقه في الوفاء بهذا الوعد، مُعبِّراً عن مدى "القلق والندم" الذي أشعره بهما هذا الأمر.
ثُمَّ هذا العام 2018، أعلن تحوُّلاً جديداً لسكان كوريا الشمالية البالغ عددهم 25 مليوناً. الآن وبعد أن باتت البلاد تمتلك ترسانةً نووية، فإنَّها قد تُغيِّر أسلوبها وتبدأ في بناء اقتصادٍ مزدهر، بعد سنواتٍ من العقوبات الدولية.
كيم يحتاج للاتفاق
لذا حين ألغى الرئيس الأميركي دونالد ترمب فجأةً لقاء قمتهما المُنتَظَر بشدة الخميس الماضي 24 مايو/أيَّار، كان الرد الكوري الشمالي دبلوماسياً وودياً بصورةٍ لافتة، مُبقياً الأمل في استمرار إمكانية عقد اللقاء مفتوحاً رغم كل شيء، بحسب تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.
وقال مُحلِّلون إنَّ تلك كانت تذكرةً بأنَّ كيم ليس فقط راغباً في اتفاقٍ دبلوماسي مع الولايات المتحدة. بل إنَّه ربما أيضاً في حاجةٍ إلى ذلك.
قال شين بيوم-شول، الزميل البارز بمعهد آسان للدراسات السياسية في العاصمة الكورية الجنوبية سول: "لا يزال بمقدور كوريا الشمالية البقاء تحت وطأة العقوبات. لكن طالما ظلَّت العقوبات، لن يفي كيم جونغ أون بالنمو الاقتصادي السريع الذي تعهَّد به لشعبه".
ولا تعني رغبة كيم المُعلَنة في مواصلة الانخراط مع ترمب -حتى بعد هذا التوبيخ الكبير- بالضرورة أنَّ الزعيم الكوري الشمالي مستعدٌّ للتخلي عن ترسانته النووية، وهو المطلب الأميركي الأساسي.
ويقول مُحلِّلون إنَّه بصرف النظر عن مدى الألم الذي ربما تُخلِّفه العقوبات، فإنَّ كيم لن يكون مستعداً للتخلي عن أسلحته النووية ما لم يُتوصَّل إلى اتفاقٍ يجعله يشعر بأمانٍ تام من دونها. فأمن نظامه القائم على أساسٍ عائلي أولوية غير قابلة للتفاوض.
مع ذلك، يشير استعداد كيم (34 عاماً) الواضح لمواصلة المساعي الدبلوماسية إلى أنَّه تحت ضغطٍ لتلبية التوقُّعات المتنامية في كوريا الشمالية، من أجل مكاسب اقتصادية والتخلُّص من القبضة المؤلمة للعقوبات.
يريد كوريا شمالية حديثة
وفي حين يُصوَّر كيم في العالم الخارجي إلى حدٍّ كبير باعتباره عامل استفزازٍ نووي، فإنَّه عازمٌ في الداخل على أن يكون وجهاً لكوريا شمالية حديثة وأكثر انفتاحاً. إذ شيَّد مباني جديدة وأعاد دهان المباني القديمة في العاصمة بيونغ يانغ، وحضر حفلاً لفرقةٍ موسيقية لفتياتٍ من كوريا الجنوبية، وسَمَحَ لأوركسترا تابعة للدولة بعزف موسيقى البوب الأميركية.
أرسل كيم أيضاً مسؤولين بالحزب إلى الصين لتعلُّم سياسات بكين الاقتصادية، بل واعترف حتى بإخفاقاته الأخرى أثناء قيادته المُفتَرَض أنَّها لا تشوبها شائبة، مثل عملية إطلاقٍ فاشلة لقمرٍ صناعي عام 2012. وحين التقى بالرئيس الكوري الجنوبي مون جاي إن الشهر الماضي أبريل/نيسان، ودعاه لزيارة بيونغ يانغ، طلب من مون أن يزوره جواً، لأنَّ طرق كوريا الشمالية وقطاراتها في حالةٍ "مثيرة للإحراج".
والتناقضات بين كوريا الشمالية والجنوبية واضحةٌ تمام الوضوح. فوفقاً لمنشقين عن البلاد، تُولِّد كوريا الشمالية جزءاً صغيراً فقط من الكهرباء التي تُولِّدها كوريا الجنوبية -أقل من 5% وفق بعض التقديرات- الأمر الذي يترك الركاب عالقين لساعاتٍ في قطاراتٍ متوقفة بسبب انقطاعات الطاقة واسعة النطاق.
الفرق بين الكوريتين يظهر من الفضاء
ويظهر الواقعان الاقتصاديان المتباينان لكلا البلدين واضحاً من الفضاء؛ إذ تُظهِر صور الأقمار الصناعية الليلية، حتى في هذه الآونة، النصف الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية يعجُّ بالأضواء البراقة، في حين يحيط الظلام بالنصف الشمالي الذي يحكمه كيم، باستثناء نقطة صغيرة تشير إلى موقع بيونغ يانغ، حيث تعيش نخبة البلاد.
وبلا شك قطعت كوريا الشمالية شوطاً طويلاً منذ التسعينيات، حين ضربت مجاعة السكان، وكانت البلاد تفتقر إلى الطاقة لدرجة أنَّ المسافرين خيَّموا في المحطات لأيامٍ انتظاراً للقطارات.
ومنذ تولى الحكم بعد وفاة والده كيم جونغ إل، أقام كيم جونغ أون حدائق مائية، ومنتجعات تزلُّج، ومطاراً جديداً، وناطحات سحاب، وحوضاً للدلافين. وظهر علناً مع زوجته المسايرة للموضة ري سول-جو، وشُوهِد يزيل الحشائش الضارة في حديقة ترفيهية، ويركب قطار ملاهٍ مع دبلوماسيين أجانب في بيونغ يانغ ويعانق ويُحيي جنوداً وعمالاً. وأصبحت الهواتف الخلوية منتجاتٍ استهلاكية شائعة في مدن كوريا الشمالية، ولو أنَّ البلاد لا تزال مغلقة في معظم الأحيان أمام شبكة الإنترنت العالمية.
لكن ووفقاً لما تنقله الصحيفة الأميركية عن مُحلِّلين، فإنَّه رغم كل الجهود لتصوير كيم نفسه على أنَّه قوي ويمكن التواصل معه وتُحرِّكه الرغبة في تحقيق أهدافه، فإنَّ هناك حدوداً للمدى الذي يمكن لكيم الذهاب إليه في ظلِّ العقوبات الدولية.
وتتفاقم الضغوط الداخلية عليه في بعض النواحي بنمو الأسواق التي قدَّمها وظهور طبقة ثرية في بيونغ يانغ. وتحت حكم كيم، ينمو جيلٌ جديد مُعرَّضاً لأقراص الفيديو الرقمية (DVD) ووحدات الذاكرة الفلاشية (Flash Drives) المُسجَّل عليها المسلسلات والأفلام الكورية الجنوبية، ما يرفع سقف التوقُّعات من أجل جودة حياة أفضل.
يمتلك كيم القوة لحكم بلاده وقمع المعارضة عبر الوحشية القاسية. في ظل عدم وجود معارضة سياسية.
ويُعتَقَد أنَّه أَمَر بعشرات الإعدامات، بما في ذلك قتل عمه، فيما لا تزال كوريا الشمالية تدير شبكة من سجون معسكرات العمل.
ويُبقي كيم النخبة في حالة قلقٍ عن طريق حملات التطهير والاستبدال الكثيرة لكبار مسؤولي الجيش والحزب، لكنَّه حريص أيضاً على أن يُنظَر إليه باعتباره "محباً للناس".
ويُعَد شعاره هو بناء "دولة اشتراكية قوية".
ويقول الزوار الحديثون إنَّ بيونغ يانغ تبدو أكثر حيويةً ورخاءً مما كانت قبل عقدٍ من الزمن، وتمتلئ المتاجر بالأغذية المستوردة والمُنتَجة محلياً. لكنَّ الظروف خارج العاصمة لا تزال قاتمة، في ظل انتشار سوء التغذية بين الأطفال والأمهات المرضعات، وذلك بحسب وكالات الأمم المتحدة الإغاثية.
العقوبات قد تقضي على صادرات البلاد
وأدَّت حملة عقوبات "أقسى قدرٍ من الضغط" التي تقودها الولايات المتحدة جدياً إلى تقويض قدرة كوريا الشمالية على الحصول على العملة الصعبة التي تحتاجها لشراء الواردات. ومنذ سبتمبر/أيلول الماضي، حَظَرَ مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة كلّ الصادرات الرئيسية من كوريا الشمالية، بما في ذلك الفحم والحديد الخام والأطعمة البحرية والمنسوجات. وإذا ما طُبِّقَت تلك العقوبات بصورةٍ كاملة، فإنَّها قد تقضي على 90% من إجمالي صادرات البلاد.
وتراجعت صادرات كوريا الشمالية إلى الصين، التي تُمثِّل أكثر من 90% من التجارة الدولية لكوريا الشمالية، بنحو الثلث إلى 1.65 مليار دولار العام الماضي، ويتراجع حجم تلك الصادرات بنحو 95% في الشهور الأخيرة. وتُقلِّص عقوبات الأمم المحدة أيضاً واردات كوريا الشمالية من المواد البترولية بنسبة 90%، ما تسبَّب في تضاعف أسعار البنزين.
ووفقاً لمؤسسات إخبارية يابانية وكورية جنوبية، أغلقت الكثير من المصانع والمناجم أبوابها بسبب نقص المواد الخام أو طلبات التصدير.
وهَجَرَ المستثمرون والصيادون موانئ الصيد بعدما حُظِرَت الصادرات المُربِحة إلى الصين. والعام الماضي، انشق أربعة جنود كوريين شماليين إلى كوريا الجنوبية عبر الحدود شديدة التسليح. وتلقى أحدهم وابلاً من الرصاص أثناء فراره. وحين أجرى الأطباء الكوريون الجنوبيون له عمليةً جراحية، وجدوا أمعاءه مليئة بالديدان.
ويقول خبراءٌ إنَّه ما من إشارةٍ على عودة المجاعة، ويُعتَقَد أنَّ البلاد لا تزال تحصل على مبالغ كبيرة من النقد عبر عمليات التهريب والاختراق الإلكتروني ومبيعات الأسلحة.
لكنَّ مُحلِّلين يحذِّرون من أنَّ اقتصاد كوريا الشمالية قد يبلغ نقطة الانهيار ما لم يجد كيم سبيلاً لتخفيف العقوبات قريباً.
ويمكن أن يصب قرار ترمب المفاجئ بالانسحاب من لقاء القمة في مصلحة كيم من بعض الجوانب، خصوصاً إذا ما أدَّى ذلك إلى تراجع استعداد الصين -الشريك التجاري الرئيس لكوريا الشمالية- عن تطبيق العقوبات بقوة.
وفي الأسابيع التي سبقت اللقاء، اتَّخذ كيم خطواتٍ علنية لتمهيد الطريق من أجل المفاوضات، بما في ذلك إطلاق سراح ثلاثة سجناء أميركيين. ويوم الخميس الماضي، هَدَمَ موقع التجارب النووية الوحيد في البلاد.
ثُمَّ بعد ساعات، انسحب ترمب من القمة. وبدلاً من الرد بعدوانية، أصدر الكوريون الشماليون رداً هادئاً، قائِلين إنَّهم سيفعلون "كل شيء بمقدورهم من أجل سلام واستقرار شبه الجزيرة الكورية".
وخفَّف ترمب نبرته أمس الجمعة 25 مايو/أيار، قائلاً إنَّ لقاءً قد يُعقَد في النهاية، لكن التأرجح الدبلوماسي من جانب الرئيس الأميركي جعل كيم فجأةً يبدو شريكاً مُفاوِضاً موثوقاً ومتسقاً.
ثم بعدها بيوم قرَّر البيت الأبيض إرسال فريق إلى سنغافورة للتحضير للقمة المرتقبة بين ترامب وكيم.
وقال لي سونغ-يو، أستاذ الدراسات الكورية بجامعة تافتس: "أتمَّ كيم التغيُّر الأكثر إثارةً في غضون أشهر قليلة. لقد تحوَّل من منبوذٍ إلى رجل دولة، من رجلٍ مجنون إلى زعيمٍ لبق مُعَد جيداً يعرف مهمته".
ماذا لو فشلت القمة؟
وقال شيو سيونغ وون، المُحلِّل بمركز آسان للدراسات في سول: "إنَّه في حال فشلت الدولتان في إعادة الدبلوماسية إلى مسارها سريعاً، قد يشعر كيم بضغطٍ متزايد لاستئناف تجارب الأسلحة والضغط على الولايات المتحدة و"إنقاذ وضعيته المتهاوية في الداخل والخارج".
وفي حين أنَّ كيم ربما يتمتَّع بسلطةٍ هائلة، فإنَّ بقاءه كزعيمٍ بلا منازِع لكوريا الشمالية ليس مضموناً.
وقد يكون انخراط كيم مع ترمب مُزعِجاً لبعض كبار الشخصيات في الجيش الكوري الشمالي، الذين يشعرون بالقلق من أنَّه في الواقع قد يتخلَّى عن ترسانة البلاد النووية، التي وصفها بأنَّها "سيفٌ عزيز" تضمن بقاء البلاد.
وفي الوقت نفسه، فإنَّ فشل كيم في تلبية التوقعات التي أثارها من أجل تحقيق رخاءٍ أكبر في الداخل قد يُغضِب الناس الذين ذاقوا بالفعل طعم الحياة الأكثر سَعَةً.
قال سكوت سيمان، المُحلِّل في الشأن الكوري بمجموعة أوراسيا، وهي مجموعة استشارات في واشنطن: "المجموعة المحيطة بكيم وتعيش بصورة جيدة إلى حدٍّ معقول وتستفيد من الطريقة التي يدير بها الأمور نسبياً. وهذا قد يعني أنَّك لا ترغب في إغضابهم".
وقال سيمان إنَّه مثل الكثير من الديكتاتوريين "فإنَّ هذا رجلٌ يذهب لينام ليلاً ولا يعلم ما إن كان سيستيقظ أم لا".