نُشرت مؤخراً وثيقة عمرها 60 عاماً من الأرشيف السوري، ورد فيها ذكر اسم الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، الذي كان حينها برتبة ملازم أول، وجاء في الوثيقة أن "الأسد" كان موقوفاً عند القضاء العسكري في مدينة اللاذقية السورية، وبأمر من قاضي الفرد العسكري أُخلي سبيله بعدما قُدمت الكفالة المطلوبة من المدعو محمد سعيد أبو كف، المزارع المسجل لدى غرفة الزراعة في اللاذقية.
أرجع أحد المتخصصين في التاريخ السوري سبب التوقيف إلى إقدام حافظ الأسد على الزواج من فتاة بدون موافقة ولي أمرها، وهي أنيسة مخلوف التي تنتمي إلى إحدى العائلات المعروفة في منطقة جبال العلويين، بينما كانت عائلة الأسد أقل مكانة من عائلتها، إذ لجأت للإقامة في قرية القرداحة المحاذية لقرية بستان الباشا، التي تسكن بها عائلة مخلوف.
زواج رغم الفوارق الاجتماعية والسياسية
ولدت أنيسة أحمد مخلوف عام 1930 في أحد بيوت قرية بستان الباشا، التابعة لمدينة جبلة في ريف اللاذقية، وتزوَّجت من حافظ الأسد عام 1958، وكانت تبلغ من العمر آنذاك ثمانية وعشرين عاماً، وقد تم الزواج رغم معارضة أبيها الذي كان ينتمي للحزب السوري القومي الاجتماعي، في حين كان "الأسد" ينتمي إلى حزب البعث العربي الاشتراكي.
من الأمور اللافتة للانتباه، أن سليمان الوحش، والد حافظ لم يكن معروفاً لدى سكان قرية القرداحة؛ إذ كان وافداً إليها يسكن مع أسرته عند مدخلها، وكانت عائلته تعد أفقر عائلة في القرية، إلا أن طائفته العلوية صعدت بقوة في السلك العسكري، ووصل نفوذها إلى ذروته عام 1966، عندما نفَّذ صلاح جديد وحافظ الأسد انقلاباً تمكنا بعده من تسلم السلطة، بعد أن كانا يحكمان سوريا من وراء الكواليس.
بالبحث عن تفاصيل زواج حافظ الأسد من أنيسة مخلوف، نجد الكاتب البريطاني باتريك سيل يخبرنا عنها في كتاب السيرة الذاتية للأسد الأب، فيقول: "في عام 1958 كان الملازم حافظ الأسد مصمماً على الزواج من أنيسة مخلوف، فاختارها دون غيرها وهو في أوائل العشرينيات من عمره".
يسرد البريطاني "سيل" بقية التفاصيل فيضيف: "وقع في حبها بعد عودته من دورته التدريبية في مصر، وكانت مدرسة ذات سلوك رزين محتشم، شابة رشيقة ذات شعر بني تقاربه في العمر، وتلقت ثقافة محترمة في دير راهبات القلب الأقدس الفرنسي في بانياس على الساحل السوري، ورغم وجود عقبات كثيرة وقفت في طريق الزواج، إلا أن الرئيس حافظ الأسد تمكن من الزواج من السيدة أنيسة في دمشق، وأقاما في بيت الزوجية على أطراف منطقة المزة الفقيرة، وقُدر لها أن تكون زوجة وأماً مخلصة وأوثق كاتمة لأسرار الأسد".
مصالح متبادلة
نجحت عائلة مخلوف، أصهار الأسد الأب، وأخوال الأسد الابن أن تحظى بنفوذ وسلطة واسعين نتيجة اقتران حافظ الأسد بابنتهم، فكان لهم دور مؤثر في مساندته في صراعه مع شقيقه رفعت الأسد، وبعد وفاة حافظ الأب وتولي بشار مقاليد السلطة، تمكن أبناء مخلوف من الوصول للعديد من المناصب السيادية والدخول في عدة قطاعات.
من ذلك توظف حافظ مخلوف برتبة عميد في قطاعات متعددة في الأمن السوري، بينما امتلك رامي ومحمد مخلوف استثمارات في مجالات متنوعة منها الاتصالات والعقارات والمقاولات والطيران، بالإضافة إلى السياحة والتجارة الحرة.
كما أن من أبرز أقارب السيدة أنيسة مخلوف ابن شقيقتها العميد عاطف نجيب، رئيس الأمن السياسي في مدينة درعا حتى عام 2011، والذي يحمله الكثيرون مسؤولية تفاقم الأحداث التي بدأت في درعا، باستهداف الأطفال الصغار، عقاباً لهم على تدوين شعارات معارضة.
كيف لعبت أنيسة مخلوف دوراً مؤثراً في توريث الحكم لنجلها؟
بعد مرض زوجها حافظ بالسرطان، عملت أنيسة على إعداد ابنها الأكبر باسل لتولي الرئاسة من بعده، ومن أبرز ما فعلته في سبيل ذلك الترويج لفكرة أنه شخص صارم في التعامل مع قضايا الفساد والفاسدين، بما فيهم أبناء عائلته، فقد شاع حينها بين السوريين أن باسل شنَّ حملةً على أبناء عمومته في الساحل، وأطلق عليهم النار ليقضي على الفساد الذي كانوا يمارسونه هناك.
لكن أمنية وصول باسل للحكم لم تتحقق، نتيجة مقتله في حادث سير، مما أدخل والدته في صراع نفسي استمرَّ لسنوات، ويُحكى أنها كانت تضع صورته أمامها وتجلس صامتة لساعات، إلا أنها بمجرد تجاوزها تلك الصدمة بدأت تخطط من جديد ليتولى ابنها ماهر السلطة، وتجاوزت بشار لأسباب مختلفة، أهمها سرعة تحوله من الهدوء إلى الغضب، إلى جانب عدم كفاءته لتأدية مهام السلطة المعقدة.
لم تشفع جهود الأم في التخطيط والإعداد، فكانت الكلمة الفاصلة للأب حافظ الذي قرَّر تحضير بشار لتسلم الرئاسة من بعده، وبمجرد وفاته استدعت السيدة أنيسة أهم رموز النظام السوري، مثل عبدالحليم خدام ومصطفى طلاس وبهجت سليمان واللواء محمد ناصيف وغازي كنعان، وطلبت منهم الاستعداد لإعلان الوفاة وتعديل الدستور، ليتناسب مع تسلم بشار الحكم في سوريا، وأبدوا جميعاً رضاهم عن هذا القرار وأثنوا عليه.
ورغم تأييدهم التام لما حدث، إلا أن أنيسة لم تكن تعتبرهم سوى جسر يعبر عليه نجلها إلى الحكم، ثم تتخلص منهم، فقد أمرت لاحقاً بتصفيتهم جميعاً، سواء كان ذلك بالقتل أو بالإبعاد أو بإجبارهم على الهرب من سوريا.
من ضمن المحطات الفاصلة فيما يتعلق بعلاقة والدة بشار الأسد بالحرب الأهلية السورية، سؤال وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون وزير الخارجية السعودي الأسبق سعود الفيصل، عن مدى تعاون الأسد لإنجاح خطة إنهاء العنف، والبدء في التحول السياسي، فأجابها "الفيصل" بأنه لا يعتقد بحدوث ذلك؛ لأن عائلة الأسد بقيادة والدته أنيسة مخلوف لن تسمح له، كما أكد لها أن بشار وقع تحت ضغط من عائلته ليحذو حذو والده الوحشي في قمع الانتفاضات، في إشارة إلى تدمير حافظ الأسد لمدينة حماة عام 1982، انتقاماً من انتفاضة سابقة.
انتقلت "مخلوف" في آخر أيامها للعيش في مدينة دبي بجوار ابنتها الوحيدة بشرى، التي تركت دمشق مع أطفالها بعد مقتل زوجها آصف شوكت، الذي كان يعمل نائباً لوزير الدفاع عام 2012، وقد رحلت والدة الرئيس السوري يوم 6 فبراير/شباط عام 2016، وثار الكثير من الجدل حول مكان وفاتها، ففي حين أعلنت وكالة الأنباء السورية "سانا" أنها توفيت في دمشق، أكدت العديد من المواقع الإخبارية أن محل الوفاة مستشفى "بهلول"، في مدينة دبي، بدولة الإمارات.