أطلق غياب البغدادي طويل الأمد العنانَ لتقارير متضاربة، تُصوِّره إما ميتاً أو مصاباً إصابةً خطيرة وعاجزاً، إلا أنه على الرغم من هذه الشائعات، فإن لدى المسؤولين الأميركيين في مجال مكافحة الإرهاب قناعة بأنَّ البغدادي لا يزال على قيد الحياة، ويساعد في الإشراف على استراتيجية طويلة الأمد للأعداد المتضائِلة من مقاتلي داعش الذين يدافعون عن معاقل التنظيم المتبقية في شرقي سوريا.
وحسب صحيفة The Washington Post، فإن ما يدعم وجهة النظر الأميركية تلك، معلومات استخباراتية مُعتَرَضة للاتصالات واستجوابات المعتقلين، وكذلك الكتابات والتصريحات التي أدلى بها عملاء داخل شبكة التنظيم الإرهابي. وتُصوِّر الأدلة، رغم أنَّه من الصعب التحقق منها وتأكيدها، قائداً اختار أن يكون خفياً، حتى داخل تنظيم، وهو القرار الذي أثار شكاوى من أتباعه، ويقول خبراء الإرهاب إنَّه يُقلِّل من قدرته على حشد قواته الغارقة في المشكلات.
وقالت الصحيفة، الأحد 20 مايو/أيار 2018، إنه وفقاً لمسؤول في داعش ألقي القبض عليه في عملية مشتركة قام بها ضباط أتراك وعراقيون في وقت سابق من هذا العام 2018، فإن البغدادي دعا شخصياً لاجتماع عُقِد بالقرب من مدينة دير الزور السورية، لمناقشة إعادة كتابة المنهج التعليمي للتنظيم الإرهابي.
وتشير المعلومات الاستخباراتية المُعتَرَضة والتقارير أيضاً، إلى أنَّ البغدادي قد حوَّل اهتمامه في الأشهر الأخيرة إلى صياغة إطار عملٍ أيديولوجي ينجو من الدمار المادي الذي لحق بالخلافة في العراق وسوريا. فبالإضافة إلى جهوده في تجديد المناهج الدراسية للتنظيم، كان البغدادي على ما يبدو وراء سلسلة من الرسائل في الأشهر الأخيرة، سعت إلى تسوية الخلافات الأيديولوجية بين فصائل مقاتلي داعش.
ما الذي يخطط له البغدادي؟
وقال مسؤولون أميركيون سابقون وحاليون، إنَّه بالنظر إلى هذه القرائن مجتمعةً، فإنَّها مثل هذه التصرفات ترسل انطباعاً عن تراجع مُنظَّم؛ إذ يساعد البغدادي في إدارة الاستعدادات للتحول من مرحلة دولة الخلافة إلى التمرد السري وحركة إرهابٍ دولي.
وقال نيكولاس راسموسن، المدير السابق للمركز الوطني لمكافحة الإرهاب قبل تنحيه عن منصبه، في ديسمبر/كانون الأول الماضي: "حتى عندما كانوا يفقدون الموصل والرقة، كنا نرى مؤشرات تفيد أنَّهم يخططون للعمل من جديد كمنظمةٍ سرية"، وأضاف: "بينما كانوا يُطرَدون من هذه الأماكن، كانوا يتركون وراءهم نوعاً من نواة خلية إرهابية".
عندما استدعى أبو بكر البغدادي بعض كبار مساعديه في تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) لاجتماع في شرقي سوريا العام الماضي 2017، كانت "دولة الخلافة" التي أعلنها بنفسه محض أطلال، وكانت عاصمة التنظيم في العراق قد سقطت بالفعل، ومقره في سوريا خاضعاً للحصار، لكنه كان لدى البغدادي شيء آخر في ذهنه، وهو "أطفال المدارس".
حماس تطالب بتحقيق دولي في إنشاء الاحتلال "مناطق إعدام" بغزة: جريمة حرب وحشية وانتهاك لكافة الأعراف
وأراد البغدادي، على الرغم من الظروف العصيبة التي يعيشها "داعش"، بحث موضوعٍ مرتبطٍ بالحفاظ على جوهر التنظيم الأيديولوجي أكثر من بقاء التنظيم الآني. وقال المسؤول المعتقل، المعروف باسم أبو زيد العراقي، في بيانٍ مصور بُث على التلفزيون العراقي: "حضر العديد من كبار القادة، فضلاً عن لجنة مناهج التعليم التي كنتُ أترأسها".
وأضاف أنَّ الاجتماع، الذي يُقال إنَّه عُقِد في منتصف عام 2017، هو الاجتماع الثالث للجنة التي كانت مشروعاً هاماً لزعيم التنظيم "وأسَّسها الخليفة أبو بكر البغدادي". وتقدم هذه الواقعة لمحة نادرة عن الحياة المنعزلة لزعيم "داعش"، وهو رجلٌ سَمَحَ أن يُصوَّر لمرةٍ واحدة فقط، في يوليو/تموز 2014، ولم يتحدث علناً سوى مرات قليلة منذ ذلك الحين.
وأكد على هذه الاستراتيجية الأساسية أحد عملاء داعش، الذي تواصلت معه صحيفة The Washington Post عبر خدمة الرسائل المشفرة. إذا قال إنَّ البغدادي -الذي كان أستاذاً جامعياً قبل أن يصبح إرهابياً- وكبار القادة الآخرين قرّروا في وقتٍ مبكر إعطاء الأولوية لتلقين الأطفال والمجندين، سواء داخل العراق أو سوريا أو في الخارج، أفكارهم عبر الإنترنت. وأوضح أنَّ تلك الجهود اكتست مزيداً من الأهمية الملحة، عندما بدا واضحاً أنَّ الأراضي التي يسيطر عليها داعش لن تنجو.
وأضاف: "إنَّ القيادة مقتنعة بأنَّه طالما يستطيعون التأثير على الجيل القادم من خلال التعليم، فإنَّ فكرة الخلافة ستستمر حتى لو اختفت دولة الخلافة مادياً". وتابع أنَّه بموجب توجيهات البغدادي، "ستُزرَع قيم الخلافة في الأمة، ولن تختفي حتى لو اختفت دولة الخلافة".
زعيم داعش "حي يرزق"!
كان الاجتماع الذي جرى العام الماضي في دير الزور واحداً من حفنة قليلة من مرات الظهور المبلغ عنها، لزعيمٍ إرهابي نجح بشكل ملحوظ في البقاء بعيداً عن الأنظار. فمنذ 4 يوليو/تموز 2014، عندما دخل البغدادي إلى أحد مساجد الموصل لإعلان إقامة الدولة الإسلامية، انتشرت تقارير كاذبة حول وفاته أكثر من مرات مشاهدته المؤكدة أو البيانات الرسمية الصادرة عنه.
في روايات وسائل الإعلام، قُتِل البغدادي أو تعرَّض لإصاباتٍ بالغة على الأقل ست مرات منذ عام 2014. وقيل إنَّه لقي مصرعه في ثلاث عمليات قصف جوي مختلفة نفّذتها الطائرات الحربية الروسية أو الأميركية. وزعمت تقارير أخرى بشكل مختلف أنَّه اعتُقِل بواسطة القوات السورية، وأُصِيب بجروحٍ قاتلة في قصفٍ مدفعي.
في يونيو/حزيران الماضي، بعد أن ادعى مسؤولٌ روسي أنَّ موسكو كانت "متأكدة بنسبة مائة بالمائة" من موت البغدادي، اعترضت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، مشيرةً إلى عدم وجود أدلة مؤكدة. وفي الآونة الأخيرة، أعرب مسؤولون أميركيون عن ثقتهم بأنَّ البغدادي نجا من معركة هزيمة تنظيمه في الموصل والرقة، وما زال نشطاً، ولو أنَّ مكانه بالتحديد غير مؤكد.
وقال مسؤولٌ أميركي متخصص في مكافحة الإرهاب، اشترط عدم ذكر اسمه لمناقشة تقييمات المخابرات: "إنَّه على قيد الحياة وفق كل المؤشرات. ونعتقد أنَّه ما زال يُنسِّق ويساعد في إدارة التنظيم". وأثار رفع مكافأة للقبض على البغدادي في أواخر عام 2016 -من 10 إلى 25 مليون دولار- موجةً من المشاهدات تم الإبلاغ عنها، لكن لم يثبت صحة أيٍّ منها.
وأقرَّ المسؤول أنَّه ظهر عددٌ قليل من التقارير الموثوقة حول تحركاته وأنشطته المحددة منذ ذلك الحين، قائلاً: "أفضل تخمينٍ لدينا هو أنَّه لا يزال في سوريا، في أحد المناطق المتبقية التي لا يزال يسيطر عليها داعش في البلاد".
وبدا الملجأ النهائي المفترض للبغدادي في الأسابيع الأخيرة محفوفاً بمخاطر أقل قليلاً. إذ توقف هجومٌ بقيادة الأكراد لتحرير قرى يسيطر عليها الإرهابيون شرقي سوريا في وقتٍ سابق هذا الربيع، بعدما أُجبِر الأكراد على الدفاع عن أنفسهم ضد الهجمات التركية في مناطق أخرى من البلاد. ووفق ما قال مسؤولو استخبارات أميركيون وشرق أوسطيون، سَمَحَ هذا التوقف لرجال البغدادي بإعادة تحصين مواقعهم وجلب الإمدادات والتعزيزات.
حماس تطالب بتحقيق دولي في إنشاء الاحتلال "مناطق إعدام" بغزة: جريمة حرب وحشية وانتهاك لكافة الأعراف
وقال المسؤول إنَّه مع وجود عدد أقل من الطائرات الحربية الأميركية في الأجواء لاستهدافهم، غادرت قوافل صغيرة من المقاتلين ضواحي دمشق إلى معاقل داعش في جنوبي وشرقي سوريا، وعبروا بأمانٍ مساحات شاسعة من الصحراء بموجب اتفاقات أُبرِمت مع الحكومة السورية. ومنذ ذلك الحين، استؤنِفت الضربات الجوية المكثفة.
وقال مسؤول مكافحة الإرهاب الأميركي: "أعاد مقاتلو داعش تنظيم صفوفهم. لقد أتاح لهم هذا التوقف الفرصة للقيام بذلك". ومع ذلك، فإنَّ التهدئة لم تؤد سوى إلى تأجيل ما هو وفق كل المؤشرات هزيمة حتمية. إذ عانى تنظيم داعش سلسلةً متواصلة من الهزائم العسكرية منذ أواخر 2015. ومع ذلك، وطوال هذا الوقت، ظلَّ زعيمه صامتاً بشكلٍ ملحوظ، ولم يظهر علناً لحشد قواته واكتفى في بعض الأحيان بإصدار رسالة صوتية مسجلة تشجع قواته على القتال. ظهرت آخر هذه الرسائل، في 28 سبتمبر/أيلول 2017 ، أي قبل أسبوعين من سقوط الرقة.
استراتيجية الغياب المتعمد
يرى بعض المراقبين أنَّ غياب البغدادي جزء من استراتيجية متعمَّدة داخل تنظيمٍ اختار في السنوات الأخيرة تقليل التأكيد على أهمية القادة الفرديين، في تعزيز مُثُل الجماعة.
قال كول بانزل، الباحث في شؤون الشرق الأوسط بجامعة برنستون ورئيس تحرير مدونة "Jihadica"، وهي مدونة بحثية عن الحركة الجهادية العالمية: "يقول الكثير من أنصار داعش إنَّ البغدادي لا يريد أن يجعل التنظيم كله يتمحور حوله. كان هناك جهدٌ حقيقي بعدم إعلاء أي شخصية فردية على التنظيم".
ومع ذلك، أثار الاختفاء العملي للبغدادي أثناء صراعٍ حاسم من أجل بقاء التنظيم الجدل داخل التنظيم نفسه. إذ نشر أعضاءٌ من تنظيم داعش في دير الزور في الأسابيع الأخيرة رسائل على الشبكات الاجتماعية، يشكون فيها من أنَّ البغدادي قد أخرج نفسه من ميدان المعركة.
قال ستيفن ستالينسكي، المدير التنفيذي لمعهد البحوث الإعلامية في الشرق الأوسط، وهي منظمة غير ربحية بواشنطن تراقب مواقع الجهاديين على الإنترنت: "هذا يؤثر بوضوح على معنويات داعش ومؤيدي التنظيم". استجاب مؤيدون آخرون لهذه الانتقادات بتجديد قسم البيعة للبغدادي، فيما وصفه ستالينسكي بأنَّه "إشارة محتملة على أنَّه يواجه، أو كان يواجه، تحديات لسلطته من الداخل".
ويبدو أنَّ البغدادي، البالغ من العمر 46 عاماً، وينحدر من مدينة سامراء العراقية، مستعدٌ وقادرٌ على التواصل عندما يحتاج، على الأقل مع قواته المتناثرة وكبار مساعديه. وقد تحدث مسؤول داعش المقبوض عليه وكان يترأس لجنة المناهج عن أنه استُدعى مراراً من جانب زعيم الخلافة لإجراء مناقشات جماعية حول التعليم والدعاية، وغيرها من الأمور. والمسؤول المعتقل هو واحد من خمسة مساعدين كبار اعتُقِلوا، منذ فبراير/شباط، في عمليات نفذها عراقيون بمساعدة من الولايات المتحدة وتركيا.
وقال راسموسن، مدير المركز الوطني السابق لمكافحة الإرهاب، إنَّ الحملة العسكرية البطيئة لكن الثابتة ضد داعش، أعطت البغدادي فرصاً كبيرةً لإيجاد خطوط اتصال آمنة والتحضير للمستقبل. ومن المحتمل أن تشمل هذه التحضيرات التدبير لعمليات إرهابية مستقبلية، وشحذ نظام لتثبيت ونشر الأفكار الأساسية للتنظيم بعد زوال داعش عن الأرض كدولة خلافة.
وأضاف راسموسن: "كانوا يعلمون أنَّ هذا سيحدث، فلم يكن الأمر كما لو أنَّ لديهم نظريةً للنصر يسيطرون فيها على الموصل والرقة إلى الأبد. لكن السردية التي ارتكز عليها المشروع السُّنّي المتطرف -سواء كان تنظيم القاعدة أو داعش- هي أنَّ المشروع سيُلتَقَط ويتعزيز من جانب مجموعة أخرى من الجهات الفاعلة. ربما لا يكون هذا المشروع مرتبطاً بالصراع السوري، لكنَّه لن يختفي فقط لأنَّ داعش انهزم في ساحة المعركة".