بينما ينتمي الرجل الذي وصفته الاستخبارات الإسرائيلية بـ"الأب الروحي" للبرنامج النووي الإيراني –محسن فخري زاده– إلى الحرس الثوري، فإن الرجل الذي يعتبر "الأب الروحي" لترسانة الأسلحة النووية الإيرانية أكثر إثارة للجدل.
الدكتور أكبر اعتماد يمثل نموذجاً غامضاً ومثيراً للدهشة للعلماء الإيرانيين، إذ إنه شيوعي سابق انتقل إلى المنفى لكونه أحد مؤيدي الشاه، كما أنه ناشط من أجل السلام، ولكن المفارقة أنه لا يزال يدعم البرنامج النووي الإيراني، لأسباب قومية، حسب ما ورد في تقرير لموقع The Daily Beast.
تقلبات تكشف مصير القنبلة النووية الإيرانية لو سقط النظام
ثلاثة أنماط حياتية وفكرية مختلفة، عاشها أبو القنبلة النووية الإيرانية الدكتور أكبر اعتماد.
فقد أثبت أول تغيير مرَّ به من إيمانه بالفكر الشيوعي إلى كونه عالماً نووياً وبيروقراطياً، أن بعض العقول شديدة الاتساع، بحيث لا يمكن احتواؤها في أيديولوجية واحدة.
وتشير مكانته كناشط سلام، بعد أن هرب من جمهورية إيران الإسلامية الجديدة، إلى أنه ينتمي إلى جمهورية العلم، مثل روبرت أوبنهايمر، العالم المُتمرد الذي رفض الأسلحة النووية التي ساعد في تصميمها.
لكن موقف اعتماد الذي دام طوال حياته باعتباره إيرانياً فخوراً، يوحي بأنه حتى لو سقط نظام الملالي السياسي الحاكم في إيران، فإن طموحات إيران النووية ستستمر.
البرنامج الإيراني بدأه سلف ترمب
البداية غير المتوقعة للبرنامج النووي الإيراني تبدأ من الدولة التي تناصبه العداء حالياً، وتحديداً مع أحد أسلاف دونالد ترمب، ألا وهو الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور.
ففي الخمسينات من القرن الماضي، افترض برنامج "أيزنهاور" المعني بتسخير الطاقة الذرية من أجل السلام، أن الطاقة النووية يمكن أن تدفع عجلة النمو على مستوى العالم، وتوفّر طاقة فعالة بثمن زهيد.
نالت هذه الرؤية استحسان الشاه محمد رضا بهلوي. وعلى أمل تحديث وإضفاء الطابع العصري على إيران.
بدأ برنامج إيران النووي ببطء وبصورة متقطعة حتى عام 1974، حين قدّمت الزيادة في أسعار النفط لإيران الميزانية اللازمة لامتلاك الطاقة النووية، وقدم عالم الطاقة النووية دكتور أكبر اعتماد، الذي كان آنذاك شاباً صغيراً حصل على تدريب في سويسرا، الدراية والمعرفة الفنية اللازمة لإيران.
تجاوز الخلافات الأيديولوجية وتخلص من زوجته من أجل المجد القومي
كانت هناك عقبتان رئيسيتان أمام التعاقد مع اعتماد، الذي وُلد في مدينة همدان عام 1930، وترعرع باعتباره ابناً لأحد كبار النبلاء حكام المدينة.
تمثَّلت العقبة الأولى في زوجة اعتماد، التي لم ترغب في ترك حياتها المرفهة في سويسرا، حيث شغل منصب رئيس مجموعة الحماية النووية التابعة للمعهد الفدرالي السويسري لأبحاث المفاعلات النووية.
وقد نجح اعتماد في حلِّ هذه المشكلة بالفعل، عن طريق تطليقها، والعودة إلى إيران في عام 1965، فقد كان كثيراً على قومي إيراني أن يعيش حياة عالم مغترب.
وسرعان ما أثبت اعتماد نفسه للشاه بعد جلسة استماع عقدت في جامعة طهران، مبيناً فيها أن مشروع المفاعل النووي الإيراني كان متعثراً.
وكما قال، وضعت "جميع شهاداتي في حقيبة"، واقترحت تقديم المساعدة. وصاح رئيس منظمة التخطيط الوطني، قائلاً "لقد أرسلك الله عبر النافذة إلينا".
في عام 1973، ساعد اعتماد في إنشاء جامعة أبو علي سينا في مدينة همدان. ورفض التقليد الإيراني المستمر للنماذج الغربية، وأدمج الثقافة والأساليب الفكرية الفارسية في جامعته.
كانت العقبة الثانية أكثر صعوبة، وهي الحصول على تصريح أمني من شرطة الشاه السرية المخيفة، التي عرفت اختصاراً باسم السافاك "منظمة المخابرات والأمن القومي".
واجه اعتماد موقفاً حرجاً، تمثَّل في كونه متورطاً مع حزب توده الإيراني الشيوعي. ولكنه استقال مرتين، بسبب شعوره بالإحباط إزاء جمود الحزب. ومع ذلك، فقد أظهر ذلك رؤية اعتماد لنظام الشاه، باعتباره تحديثياً وقمعياً في آنٍ واحد.
وتمتع الشاه بشخصية عملية، إذ لم يعرف مستشاروه أي إيراني استطاع أن يُتقن أسرار الانشطار الذري ببراعة، مثل اعتماد الذي غيّر من انتماءاته السياسية الآن.
وقال الشاه معلناً "لم يعد الماضي مهماً". وأضاف "إنه يريد أن يخدم وطنه الآن ويجب علينا استخدامه".
هل كان الشاه يريد صنع قنبلة نووية؟
أثناء رئاسته لهيئة الطاقة الذرية الإيرانية، تمتّع اعتماد بتفويض شامل: الأمر الذي تضمن، على حد قوله "استخدام جميع التقنيات التي يمكن تخيلها في مجال التكنولوجيا النووية".
هكذا بدأت واحدة من الدروس الأكثر غرابة في تاريخ العلم. لم يكن اعتماد متأكداً ما إذا كان الشاه يريد إنتاج الطاقة النووية، أو الأسلحة.
ولَكن في كل الأحوال، بدأ العالم الاجتماع أسبوعياً مع صاحب السيادة، وشرح له أولاً الجوانب العلمية، ثم يستوضح بعد ذلك الدوافع.
الشاه الذي كان مفتوناً وملتزماً ببرنامج "ذي استخدام مزدوج" في الوقت الذي أنكر فيه ذلك على الملأ، منح اعتماد ميزانية ضخمة، وسلطات واسعة مثل تلك التي يتمتع بها نائب لرئيس الوزراء.
في يوم من الأيام، سأله اعتماد: "الآن بعد أن عرفت الفرق بين بناء مفاعل وقنبلة نووية والتخصيب النووي وما شابه ذلك، ماذا تريد مني أن أفعل؟".
أوضح الشاه متودداً لعالمه ذي الأفكار المثالية، على حد قول اعتماد "إنه قوي بما فيه الكفاية في المنطقة، ويمكنه الدفاع عن مصالحنا في المنطقة، وإنه لا يريد أسلحة نووية. لكنه أخبرني أنه إذا تغيّرت هذه الظروف، فسيتعيّن علينا اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية. كان يضع هذا الخيار في اعتباره".
بعد مرور عقود من الزمن، سيتعلم ثيوقراطيو إيران من غموض الشاه الخبيث، حسب وصف الموقع، وستستنتج الاستخباراتية الأميركية الناعمة والمفرطة في تفاؤلها بصورة خاطئة تقديراتها لنوايا الجمهورية الإسلامية، لما بعد عام 2006، التي أفادت أنه "في خريف عام 2003 أوقفت طهران برنامج أسلحتها النووية"، وأنها كانت بالكاد "تُبقي على الخيار مفتوحاً أمام تطوير الأسلحة النووية".
معارض أم مؤيد للأسلحة النووية
إن الفخر القومي لاعتماد جعله يتجاوز معارضته لانتشار الأسلحة النووية. إذ لم يفهم الرجل لماذا يمكن للدول الأخرى أن تسيطر على هذه القوة، بينما لا تستطيع دولته فعل ذلك.
ولقد أمضى أواخر حقبة السبعينيات في تطوير قدرة إيران النووية على أكمل وجه ممكن، حتى اتَّهمه الخصوم السياسيون بالاختلاس في عام 1978.
عرقلت ثورة إيران الثيوقراطية التي عزلت الشاه عام 1979، برنامج اعتماد مؤقتاً. وبعد أن أجبر على الاختباء من قبل الحكام الجدد، هرب من بلده تحت اسم مستعار، وشاهد اعتماد الملالي وهم يغلقون البرنامج النووي، وهو ما يعكس كراهية الحكام الحاليين للمشاريع المفضلة للحاكم السابق.
استقرَّ اعتماد بأمان في فرنسا، واستغلَّ معرفته في التعليم والبحث وتقديم الاستشارات وحارب من أجل السلام.
وبصفته أحد رؤساء منظمة "إيرانيون من أجل السلام Iranians for Peace"، دعا في عام 2009 إلى "أنه لا يمكن للحرب أن تسهم في إرساء الحرية والديمقراطية في بلادنا"، في معارضة واضحة للجمهورية الإسلامية وأعدائها الغربيين في آن واحد.
تحول النظام إلى السعي لامتلاك الأسلحة النووية تدريجياً، ولا سيما بعد الدماء التي سالت بين إيران والعراق في الثمانينيات.
واليوم، وبدون أن يدعم النظام، يؤيد اعتماد حق بلاده في أن تكون متساوية على الساحة العالمية مع نظرائها الآخرين مثل الهند وباكستان. وهو يعتقد أن "إيران لديها كل الحق في السعي للحصول على الطاقة النووية. إنها مسألة سيادة وطنية"، حسب قوله.
ومع مرور الوقت، تشرّب اعتماد أجندة النظام القائم وأهدافه، مديناً صداقة الشاه مع إسرائيل والولايات المتحدة.
لكن خلافاً للنفور الأيديولوجي الذي ينتهجه الملالي فيما يتعلق بالأميركيين والإسرائيليين، فإن عداء اعتماد يعكس صدى اللحن الرئيسي الذي انتهجه خلال سيرته المهنية، وهو السعي لتحقيق وإبراز الكبرياء الإيراني. يقول "طوال حياتي كان أبي هو مثلي الأعلى، وأحاول أن أفعل ما تخيّلت أنه سيفعله".
سر شعوره بالإهانة ومآل النووي الإيراني
يشعر اعتماد بالاستياء من قدرة القوات الأميركية والإسرائيلية على استعراض عضلاتها الدفاعية ضد تهديدات النظام، معتبراً إياها أمراً مهيناً، معفياً النظام من أية مسؤولية. وقال في إصرار "إن الإيرانيين بحاجة إلى أن يصبحوا قوة في الشرق الأوسط". وأضاف "إسرائيل لديها القنبلة، باكستان لديها القنبلة. الهند لديها القنبلة، روسيا لديها القنبلة".
تُسلط حياة اعتماد الضوء على الدوافع متعددة الأبعاد التي تُؤجج اهتمام إيران بامتلاك الأسلحة النووية. ويشير فهم أيديولوجية هذا العالم المناهض لآية الله، والمؤيد للقومية الإيرانية، وخاصةً بعد مرور عقود من التوتر مع الغرب وسعي إيران إلى الحصول على صواريخ انشطارية، إلى أن العديد من الإيرانيين الذين يكرهون الملالي يدعمون البرنامج النووي الخاص ببلدهم.
وبالتالي، فإن حياة اعتماد تُقدم أيضاً تحذيراً مزدوجاً لأولئك الذين يقولون "إذا تشبثنا فقط بالقوة مع الإيرانيين"، أو "إذا لعبنا فقط" معهم الكرة. سيتبع ذلك القدرة على تحقيق السلام. إذ إن التاريخ مثله مثل الهوية الوطنية، لا يُمكن التحكم به بسهولة، أو التنبؤ به.