يبدو الأمر مُهيناً جداً للزعماء الأوروبيين؛ يتملقون ويجادلون ويتوسلون في محاولة لإقناع الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتغيير رأيه بشأن قضية تهم التحالف عبر الأطلسي، وتكون النهاية مؤسفة لهم.
ويبدو أن ترمب يستمتع بهذه التوسلات، قبل أن يقرر في النهاية عدم الإنصات، دون أن يأبه لإحداث الشقاق مع حلفائه المهمين؛ وهو ما تريد الصين وإيران وروسيا استغلاله لصالحها، حسب تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.
وذلك هو الوضع الحالي فيما يتعلق بجهود الإبقاء على الاتفاق النووي الإيراني المبرم عام 2015. فقد توجه كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى واشنطن؛ لمطالبة ترمب بعدم الانسحاب من الاتفاق.
ويعد إخفاقهما مماثلاً لما حدث مع اتفاقية باريس للمناخ، وما يحدث حالياً بشأن العقوبات الأميركية الأحادية المفروضة على واردات الصلب والألومنيوم، وقرار ترمب بنقل السفارة الأميركية لدى إسرائيل إلى القدس.
ومع كل خرق، يتضح أن العلاقات عبر الأطلسي تواجه مشكلات، وأن الخيارات المتاحة أمام الحلفاء الأوروبيين المقربين من الولايات المتحدة ليست جيدة.
إنهم غاضبون.. ولكن هل يستطيعون مواجهته؟
إنهم لا يشعرون بالغضب فقط؛ بل بالخزي أيضاً، وهناك علامات تشير إلى نفاد الصبر وإلى أن الكثير منهم يبحثون عن حلول بينما يخلق ترمب، تحت شعار "أميركا أولاً"، فراغاً في القيادة عبر المحيط الأطلسي، والذي يبدو أن الأوروبيين غير قادرين أو غير راغبين في ملئه.
وقال جيرمي شابيرو، المسؤول السابق بوزارة الخارجية الأميركية ومسؤول الشؤون الخارجية الحالي بالمجلس الأوروبي: "لقد سئم الحلفاء من ذلك، ولكن يبدو أنه لا يوجد أي خيار أمامهم".
وعلى الأقل في الوقت الحالي. وبعد البيان الذي أدلوا به يوم الثلاثاء 8 مايو/أيار 2018، والذي يعرب عن أسفهم تجاه ردِّ ترمب، ويعِد بالتعاون مع إيران للحفاظ على سريان الاتفاق- من المقرر أن يلتقي وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا، يوم الإثنين 13 مايو/أيار 2018، مع المسؤولين الإيرانيين؛ "لدراسة الوضع بالكامل"، بحسب ما ذكره وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان.
وقد تحدث ماكرون هاتفياً بالفعل مع نظيره الإيراني حسن روحاني يوم الأربعاء 9 مايو/أيار 2018. وبعد ذلك، أصدر قصر الإليزيه بياناً يقول إن "إرادة فرنسا أن تواصل فرض الاتفاق النووي الإيراني بكل أبعاده"؛ ما قد يؤدي إلى توسيع الفجوة مع إدارة ترمب. وأشار البيان إلى "ضرورة أن تفعل إيران الشيء نفسه".
لقد طفح الكيل ويجب علينا تقديم البديل.. ولكن ما هو؟!
بينما يطالب البعض بمواصلة التحدث مع ترمب ومساعديه على أمل إقناعهم بالحاجة إلى التضامن عبر الأطلسي، فإن هناك نغمة مختلفة بدأت تظهر بعد أن شعر البعض بأن الكيل قد طفح.
فهناك أصوات متزايدة تنادي داخل الاتحاد الأوروبي بالفراق مع السياسة الأميركية.
ففي تحول مفاجئ، ذكر جان كلاود جانكر، رئيس المفوضية الأوروبية، أنه في ظل رئاسة ترمب تدير الولايات المتحدة ظهرها للعلاقات متعددة الأطراف والتعاون الودي "بشراسة يمكن أن تفاجئنا جميعاً".
وأخبر جانكر البرلمان الإقليمي الفلمنكي في بلجيكا بأن واشنطن "لم تعد تريد التعاون مع مناطق العالم الأخرى"، بحسب ما أوردته وكالة أنباء Associated Press. وقال: "في هذه المرحلة، يتعين أن نحلّ محل الولايات المتحدة، التي فقدت نشاطها وقوتها باعتبارها طرفا دولياً، ونتيجة لذلك، سوف تفقد نفوذها على المدى الطويل".
وفي بريطانيا، ذكرت إيميلي ثورنبيري، المتحدثة باسم حزب العمل للشؤون الخارجية، يوم الثلاثاء 8 مايو/أيار 2018، أنه حان الوقت كي يُوقف الأوروبيون "هذا التساهل الطويل وغير اللازم مع دونالد ترمب".
هذه خطة ترمب الحقيقية تجاه إيران
وقالت كبيرة مستشاري الاتحاد الأوروبي ناتالي توتشي، إن الاتفاق الإيراني قضية خاسرة؛ نظراً إلى وجود "أهداف مختلفة تماماً لدى كل من ترمب وأوروبا".
وأضافت أن ترمب "لا يهتم بالحفاظ على اتفاق منع الانتشار النووي، ولكنه يهتم بتغيير النظام الحاكم في إيران، الأمر ليس بهذه البساطة"، مردفة: "ينبغي ألا نكون ضعفاء".
وقالت توتشي، وهي مديرة المعهد الإيطالي للعلاقات الدولية والمستشارة المقربة من رئيسة لجنة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي فيدريكا موغريني، إن الشقاق مع إدارة ترمب حقيقي فيما يتعلق بالمناخ والتجارة والقانون الدولي وأهمية المؤسسات متعددة الجوانب مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية.
هل يقول الأوروبيون "لا" كما فعلوها ذات مرة؟
ألا يمكننا الدفاع عن مصالحنا الخاصة؟ بهذا التساؤل، تعبر توتشي عن الاستياء الذي ينتشر داخل النخب الأوروبية.
وتضيف "أليس من الحكمة أن نسلك طريقاً مختلفاً عن إدارة ترمب؟"، وأشارت إلى أن أمراً مماثلاً قد حدث عام 2003 فيما يتعلق بالغزو الأميركي للعراق؛ (حينما عارضت ألمانيا وفرنسا الهجوم الأميركي البريطاني). ومع ذلك، تمت استعادة العلاقات بين الجانبين حينما تولى رئيس جديد السلطة في أميركا.
ويرى إيفو دالدر، السفير الأميركي السابق لدى حلف الناتو، أن هذا الشقاق حتمي. وقال: "في مرحلة ما، بعد الضغط على الأوروبيين في قضايا الناتو وباريس ونقل السفارة إلى القدس والتجارة وحالياً إيران، سوف يدرك الأوروبيون أنه من الأفضل أن يسلكوا مساراً مختلفاً. وهذه المرحلة تقترب بسرعة".
ومع ذلك، مهما كان ما يدور داخل أروقة برلين ولندن وباريس، فإن الحكومات الأوروبية لا تُظهر حالياً أي إشارة واضحة على استعدادها اتخاذ خطوة الانفصال هذه.
وينشغل الاتحاد الأوروبي بمواجهة مخاطر أخرى: الشعبوية والهجرة ورهاب الإسلام، والتحدي الذي يواجه قِيمها المتعلقة بالديمقراطية وسيادة القانون من جانب بلدان أعضاء مثل المجر وبولندا.
هل تستطيع الشركات الأوروبية الاستمرار في العمل بالسوق الإيرانية؟
السؤال الفعلي للأوروبيين، بحسب ما ذكره شابيرو، "لا يتمثل فيما إذا كانوا سيلتزمون بالاتفاق؛ بل هل سيتصدَّون للجهود الأميركية لإلغائه، واتخاذ تدابير فعالة لحماية شركاتهم وبنوكهم العاملة في إيران؟" .
وقال: "ستكون مواجهة خطيرة، وليس واضحاً ما إذا كانت شركاتهم تريد ذلك بالفعل".
وقالت بريطانيا وفرنسا وألمانيا إنها سوف تتمسك بشروط الاتفاق وتعمل على استمرار الالتزام به، بينما تحاول حماية شركاتها.
ومن المحتمل أن يتضمن ذلك، التمويل القائم على اليورو لبعض الشركات والجهود المبذولة في الجانب التشريعي لمنع فرض عقوبات ثانوية من قِبل الولايات المتحدة.
ولدى الاتحاد الأوروبي ما يُعرف باسم "لائحة تجميد"، وهي تعود إلى عام 1996، وتعد بمثابة إجراء مضاد للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة ضد كوبا وإيران، وفي مرحلة لاحقة ضد كوبا وحدها.
وتسعى هذه اللائحة إلى حظر الالتزام بالقيود على التجارة الخارجية. ومع ذلك، نادراً ما يتم تطبيق تلك اللائحة، ولا بد من تعديلها لتتناول العقوبات الأميركية ضد إيران، ولن تؤدي إلى طمأنة الشركات التي تتعامل أيضاً مع الولايات المتحدة.
"بيجو" تصرخ: توصَّلوا إلى كلمة موحدة
المشكلة أن الشركات الأوروبية تخشى المخاطرة بالتعرض للعقوبات الأميركية. وقال شابيرو: "ما قد يفقدونه في إيران يتضاءل أمام السوق الأميركية واتساع نطاق النظام المصرفي الأميركي".
وسوف يستغل الفرنسيون الوقت المتاح قبل إعادة سريان العقوبات؛ للحصول على استثناءات أميركية لصالح بعض شركاتهم.
وسعت فرنسا، التي كانت لها علاقات اقتصادية وثيقة مع إيران منذ ما قبل سقوط الشاه في 1979، لتعميق الروابط التجارية منذ رفع العقوبات عن طهران في 2016.
ومن بين الشركات الفرنسية الكبرى العاملة في إيران "بيجو سيتروين"، ومنافستها "رينو"، وشركة النفط العملاقة "توتال"، في حين فازت "إيرباص" بطلبيات من إيران للطيران.
وقالت مجموعة بيجو سيتروين الفرنسية لصناعة السيارات، الأربعاء 9 مايو/أيار 2018، إنها تأمل أن يتبنى الاتحاد الأوروبي موقفاً مشتركاً بشأن إيران بعد قرار الانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران.
وأمهلت وزارة الخزانة الأميركية فترة انتقالية تتراوح بين 90 و180 يوماً للشركات التي وقَّعت عقوداً مع إيران قبل إلغاء الاتفاق؛ لتصحيح أوضاعها قبل أن تسري عليها العقوبات .
وقال جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي، إن الشركات التي وقَّعت عقود استثمارات في إيران -وأغلبها شركات أوروبية- أمامها فترة انتقالية من 3 إلى 6 أشهر للخروج.
هل تستطيع أوروبا منع المواجهة بين أميركا وإيران؟
رغم كل هذا الغصب، لا يبدو هؤلاء الحلفاء مستعدين لمواجهة ترمب، ويأملون أن يتمكنوا من التأثير عليه وعلى مساعديه بمرور الوقت.
فهناك أصوات أكثر هدوءاً داخل الاتحاد الأوروبي، تسعى بصورة أكبر إلى التكيف. فقد قال بيير فيمونت، السفير الفرنسي السابق في واشنطن: "لا يعتقد أحد أن التحالف عبر الأطلسي قد انتهى".
وتساءل: "ولكن، كيف نستطيع إنجاحه في ظل قيادة أميركية لا تريد أن تضطلع بدور القائد؟".
وقال فيمونت إن المعضلة التي تواجهها أوروبا تتمثل في إنقاذ الشراكة مع واشنطن، وتجنُّب "الزحف البطيء نحو المواجهة بين إيران وجيرانها وواشنطن".
ومع اضطرار أوروبا إلى الوقوف بجانب إيران بشأن الاتفاق النووي وبجانب الصين بشأن الاتفاق التجاري، قال فيمونت: "سيكون الأمر شائكاً ومعقداً".