في عام 1956، دخلت فيلما أورليكو Velma Orlikow مستشفى الأمراض النفسية الكندي الشهير، معهد ألان التذكاري في مونتريال، على أمل الحصول على مساعدة في علاج اكتئاب ما بعد الولادة. كانت تقضي فترات في المستشفى وتخرج منه فترات أخرى لمدة ثلاث سنوات، كانت كفيلة بتدمير شخصيتها تماماً.
مر أكثر من عقدين من الزمن قبل أن تجد حفيدتها سارة آن جونسون وعائلتها تفسيراً لهذا الأمر، وكان هذا التفسير غريباً أكثر مما كان يمكن لأي واحد منهم أن يتخيل.
فقط في عام 1977 تبين أن وكالة المخابرات المركزية كانت تمول تجارب لغسيل الدماغ تهدف للسيطرة على العقل في المعهد كجزء من مشروع على مستوى أميركا الشمالية يُعرف باسم MK Ultra، وكانت الجدة بين الضحايا، كما تحكي حفيدتها لصحيفة The Guardian.
كانوا يريدون أن يعرفوا ماذا فعل الشيوعيون بجنودهم
عاد بعض الأميركيين الذين أسروا خلال الحرب الكورية، (1950- 1953)، إلى الوطن وهم يمتدحون الشيوعية وينتقدون الولايات المتحدة علانية. فاهتمت الاستخبارات الأميركية CIA بأسرار عمليات غسيل المخ والسيطرة على العقول. واتفقت مع الطبيب النفسي أسكتلندي الأصل، إوين كاميرون Ewen Cameron، على إجراء بحث عن إمكانية محو عقل الشخص وغرس أنماط سلوكية جديدة داخله.
أطلقت الوكالة على المشروع اسم MK Ultra، وكانت جدة سارة واحدة من مئات، عاملهم المشروع على أنهم فئران تجارب.
وكان الهدف من التجارب على البشر تحديد وتطوير العقاقير والإجراءات التي تُستخدم في عمليات الاستجواب والتعذيب، من أجل إضعاف الفرد وانتزاع الاعترافات من خلال السيطرة على العقل. أدارت المشروع شعبة الاستخبارات العلمية التابعة لوكالة المخابرات المركزية، وكان المشروع بالتنسيق مع شعبة العمليات الخاصة من الكتيبة الكيميائية في الجيش الأميركي.
جرّبوا عقاقير الهلوسة والصدمات الكهربائية ذات الجهد العالي
بعد وفاة جدتها، بدأت الفنانة الكندية في القراءة عن المعهد، مدققة في دفاتر أورليكو اليومية وفي وثائق المحكمة. "بعض الأشياء التي فعلوها بالمرضى مروعة جداً وغير معقولة، لدرجة أنها تبدو وكأنها أشياء آتية من الكوابيس".
مثلاً، عرّضوا المرضى للعلاج بالصدمات الكهربية ذات الجهد العالي عدة مرات في اليوم، وأجبروهم على النوم باستعمال عقاقير يمكن أن يستمر تأثيرها لأشهر، وحقنوهم بجرعات كبيرة من عقاقير الهلوسة LSD، وفقاً لموقع history.
واعتبر باحثون أن هناك أكثر من جريمة ارتكبها الأطباء ضد الضحايا، منها حقن المريض بمشتقات الباربيتيورات المثبطة للجهاز العصبي، ثم حقنه بمشتقات الأمفيتامين المحفزة للجهاز العصبي. النتيجة هي أن يصبح المريض مسلوب الإرادة والتركيز جزئياً، ما يسمح لهم بتوجيه ما يشاؤون من أسئلة للمريض، فيمنحهم الإجابات الصحيحة والمفيدة. وتنتهي الممارسات الدوائية والنفسية إلى آثار مدمرة، وقد تسبب فقدان الذاكرة والاكتئاب المزمن.
يعيدون المريض لمرحلة الطفولة ويكررون عليه العبارة آلاف المرات
يتم إرجاع المرضى إلى حالة طفولية، يفقدون فيها أحياناً مهارات أساسية مثل ارتداء الملابس أو ربط الأحذية. بعد ذلك يحاول الأطباء إعادة برمجتهم عن طريق تعريضهم لوابل من الرسائل المسجلة لمدة تمتد إلى 16 ساعة في كل مرة. في البداية كانت الرسائل سلبية تتعلق بنقاط ضعفهم، ثم تلتها رسائل إيجابية، في بعض الحالات تم تكرار الرسائل نصف مليون مرة.
قالت جونسون، "لم يستطع إجبار مرضاه على الاستماع للشرائط بما يكفي، لذا وضع مكبرات الصوت في خوذات كرة القدم الأميركية وألصقها على رؤوسهم. لقد كانوا يصابون بالجنون ويضربون الحائط برؤوسهم، لذلك فكر في إدخالهم في غيبوبة باستعمال العقاقير وتشغيل الشرائط حسب المدة التي يريدها".
كان الأطباء والممرضات يقولون لها "أنتِ زوجة سيئة، أنتِ أم سيئة. إذا أردتِ أن تتحسني، افعلي ذلك من أجل عائلتك. فكري في ابنتك".
ويدمرون الدماغ بالتجارب الدوائية والنفسية
توفيت الجدة عندما كانت جونسون تبلغ 13 سنة. إلا أن تجربتها – والآثار العميقة التي تركتها على عائلتها – أثرت على أعمال جونسون الفنية. "جدتي لم تكن مثل الجدات الأخريات، كانت سريعة الغضب. كانت تستشيط غضباً. لم تكن تؤذي أحداً، كانت تصرخ وتصرخ، وقد يستغرق الأمر ساعات لتهدئتها".
كانت جونسون،41 عاماً، مقربة من جدتها. بعد سنوات، اكتشفت جونسون أن التجارب التي تعرضت لها جدتها في المستشفى قد دمرت دماغها. أحياناً كانت تستغرق ثلاثة أسابيع لقراءة صحيفة، وشهوراً لكتابة رسالة، وسنوات لقراءة كتاب. "ما كانوا يحاولون القيام به هو محو عواطفك. كانوا يجردونك من روحك".
يرفضون الآن تعويض الضحايا لكن يساعدون بعضهم "بدوافع إنسانية"
توفي كاميرون، الطبيب النفسي المسؤول عن هذه التجارب، سنة 1967 بسبب نوبة قلبية أثناء تسلق الجبال، إلا أن العقود الأخيرة شهدت محاولات مختلفة من قبل المرضى السابقين وعائلاتهم لتجريم الحكومة الكندية ومحاسبة وكالة المخابرات المركزية.
سنة 1992، عوضت الحكومة الكندية، التي قدمت منحاً من عدة وكالات لتمويل أبحاث كاميرون، 77 من المرضى السابقين في المؤسسة الذين أعيدوا إلى حالة طفولية، بما يساوي مبلغ 78 ألف دولار أميركي إلى كل منهم. وحُرم مئات آخرون من الحصول على تعويضات، لأنهم اعتبروا غير متضررين بما يكفي من التجارب التي أجريت عليهم.
وقال المحامي ألان شتاين الذي دافع عن العديد من المرضى السابقين وعائلاتهم إن الاتفاق كان واحداً من بين عدة اتفاقات في السنوات الأخيرة. وقال شتاين إن الحكومة الكندية – على الرغم من عدم إدراكها الكامل لعدد التجارب التي أجريت في ذلك الوقت – قالت إن المبالغ المدفوعة للمرضى السابقين تقدم بدافع الإنسانية والشفقة. مضيفاً "لم تعترف الحكومة أبداً بمسؤوليتها القانونية".
لكنهم لم ينزعوا القدرة على النضال من أجل العدالة
أصبح الفن وسيلة جونسون لمعالجة تاريخ عائلتها المؤلم؛ في سلسلة من الأعمال التي أصدرتها عام 2009. فقد تركت تجربة جدتها في معهد مونتريال ندبات عميقة، لكن نضالها من أجل العدالة هو مصدر فخر عظيم للحفيدة. وهذا المزيج هو ما سعت جونسون للتعبير عنه عام 2009 حين رسمت على صورة لجدتها وهي تبتسم، محتضنة حفيديها – محولة يديها إلى أغصان وكروم تحيط بالأطفال.
تضيف جونسون: بسبب المحنة المروعة التي مرت بها جدتي ثم مقاضاتها لوكالة المخابرات المركزية، نشأت وأنا أشعر بأنني من عائلة تدافع عن ما تراه يستحق. وهذا جزء مني الآن، من كيفية رؤيتي للعالم.