"تدخل الجيوش والقوى المسلحة في السياسة بالوطن العربي".. أصبح هذا الموضوع مثار جدل واختلاف كبير في الآونة الأخيرة، وخصوصاً في فترة ما بعد ثورات الربيع العربي في 2011.
هناك من يرى أن الجيوش أو القوى النظامية المسلحة أصبحت هي الطرف القوي في عدة دول، حتى إن القرار السياسي بات في يدها، بينما يعارض آخرون وجهة النظر هذه، قائلين إن تحركات القوات المسلحة في بعض الدول جاءت في إطار محدد، ولأهداف واضحة، دون أن تهيمن على القرار السياسي بالكامل.
"عربي بوست" نقلت وجهات النظر هذه إلى يزيد صايغ، الزميل في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، والأستاذ السابق لدراسات الشرق الأوسط في قسم الدراسات الحربية في كلية لندن الملكية، كي يشرح لنا طبيعة ما تشهده منطقة الشرق الأوسط سياسياً وعسكرياً.
الجيش أهم أدوات الحكم
- في مصر ازدادت سيطرة المؤسسة العسكرية على مفاصل الدولة بشكل كبير، فهل ترى أن الجيش كان أقوى من التجمعات التي لعبت دوراً أساسيا؟
عملياً، هناك خلط بين دور القوات المسلحة في دعم أنظمة الحكم في حالات وبلدان معينة، وبين أن تكون هي الطرف الفاعل وصاحب القرار في ذلك. نستطيع القول إنه قبل 2011، كان الجيش من أهم أدوات الحكم في بلدان مثل سوريا أو مصر، لكن لم يكن الجيش بحد ذاته هو صاحب القرار السياسي أو هو من يرسم السياسات أو يحدد وجهة استخدام القوة، بل كان من الواضح أن الرئيس السوري حافظ الأسد أو المصري حسني مبارك كانا هما صاحبي القرار.
اليوم أصبحنا في مرحلة جديدة نوعاً ماً. ففي مصر، عادت القوات المسلحة إلى احتلال المسرح السياسي بشكل مباشر، وأصبحت هي الطرف الأول. الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي كان وزيراً للدفاع وأصبح رئيساً للجمهورية، يعتمد كثيراً على القوات المسلحة كما اعتمد الرئيس عبدالناصر سابقاً، لكنه أيضاً جعل نفسه هو الرئيس، وبالتالي هو فوق القوات المسلحة أيضاً، وأقوى منها، أو يسعى إلى أن يكون الأقوى، لأنه يملك علاقات وتحالفات أوسع مع قطاعات مؤسساتية أخرى ومنها الداخلية مثلاً.
- قمت بتأليف كتاب "الضباط فوق السلطة" قبل فترة قصيرة من الانقلاب العسكري في مصر، وحذرت فيه من الانقلاب على السلطة المدنية، فما المؤشرات التي دفعتك لهذا التوقع؟
أولاً هو ليس كتاباً، بل دراسة اسمها "فوق الدولة جمهورية الضباط في مصر"، وهي صدرت في أغسطس/آب 2012، لم أتوقع الانقلاب بالتحديد، ولكن كنت أملك دراسة أخرى تطرّقت فيها إلى اختراق الضباط المتقاعدين المصريين لجهاز الدولة المصرية، واستنبطت أن هذا الاختراق بكل الميادين والمستويات يخلق مصالح ذاتية، يعني جماعات مصالح عسكرية سوف تقاوم انتزاع المواقع التي هي فيها، والتي تتحكم بها اقتصادياً وغير اقتصادي، وهذا سيؤدي إلى أزمة سياسية.
عملياً هذا يعني أن أي حكم مدني لن ينجح بمشروع إصلاح الإدارات والنهوض بالاقتصاد، فقد ذكرت أنه ما لم يتم تفكيك هذه الشبكات فسوف يفشل الحكم المدني، ولم أقل إنه سوف يقع انقلاب. ولكن في مقال آخر كتبته في نفس الوقت توقعت أنه اذا لم يتحرك الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي آنذاك على عدة مستويات، فربما لن يطول حكمه أكثر من سنة.
رأيت أن المعطيات الموضوعية لا تسمح بفترة ثانية طويلاً إلا إذا أصبح هناك عمل سياسي إصلاحي في الإدارات، بتغيير الحوافز وتغيير طبيعة العلاقة بين الحكم المدني والجيش في مصر.
- كيف تفسر رغبة المؤسسة العسكرية في مصر في السيطرة على كل مفاصل الدولة، بما في ذلك المصانع والإنتاج والمؤسسات الطبية؟
أولاً هناك مزايدة ومبالغة بطريقة عرض الأخبار، فالجيش لا يسيطر على جميع المفاصل، هو دخل بالفعل في عدة مجالات، ولكن حجم نشاطه صغير بالنسبة إلى نشاط القطاع الخاص.
ولكن المشكلة الأساسية أن الجيش يستفيد من عقود القطاع العام، يعني عقود المقتنيات العامة، وتدر عليه مداخيل معينة.
الواضح أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لا يثق في الحكومة أو الأجهزة المدنية والوزارات والهيئات العامة، في أن تلبي احتياجات مصر البنيوية والاقتصادية، وبالتالي يحمل الجيش إدارة هذه المشاريع، وهذا دليل على إخفاق وتآكل قدرة الدولة المصرية على القيام بواجباتها تجاه المواطنين المصريين، ودخول الجيش ليس مجرد تخويل له، ولكنه انعكاس لأزمة حادة في الدولة المصرية الفاشلة، هذا مؤشر خطير على وضع مصر.
هذه المشاريع الذي يقوم بها الجيش أو التدخلات التجارية، لا تغير ولا تعالج المشكلات الأساسية المزمنة في مصر، بل تنقل النشاط التجاري أو الاقتصادي من طرف إلى طرف آخر، مثلاً من طرف مدني مصري إلى طرف عسكري مصري، لكن المشكلات البنيوية في الاقتصاد المصري أو الإدارات المصرية لا تحل ولا تعمل على مواجهتها.
الجيش المصري فعلياً لا يقوم بما لا يقوم به الآخرون في مصر، يعني القطاع العام والقطاع الخاص، الكل يعمل لأخذ العقود بالرشاوى ويقدم مواد فاسدة وناقصة ويزور الفواتير، ويبدو أن السيسي يعتمد على الجيش لاعتبار أن الجيش يملك نسبة خسارة أقل ونسبة التزام بالمواعيد أعلى، وهذا واقع، ولكن برأيي أن المشكلة كبيرة، فالجميع في مصر يعمل بهذه الطريقة والجيش واحد منهم.
ميزانيات الجيوش.. أسرار
- معظم الجيوش العربية ترسل ضباطها للتدريب في الدول الأجنبية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، بل وتطلع القوى العظمى على ميزانيات الجيش، فلماذا تخفي الجيوش ميزانياتها عن شعوبها بينما تظهرها لأعدائها؟
في مصر أعداد كبيرة من الضباط الذين تخرجوا في الولايات المتحدة، وليس واضحاً وجود تغيير لا على المستوى الفكري ولا المهني لديهم، والرئيس السيسي أولهم. عندما تنظر إلى الأطروحة التي كتبها في الولايات المتحدة حينها، وأعيد نشرها، واضح أنه صاحب رأي لا يمت بصلة للمحيط الأميركي، يعني ليس بالضرورة أن الشخص الذي يذهب للتدريب سيطلع على الميزانية، فهو ذاهب للتدريب العسكري فقط، وأشك أن الضباط يطلعون على الأسرار العسكرية ويمكن أن يكشفوها.
الكثير من الضباط العرب لا يدركون ولا يطلعون على هذه الأرقام والمعلومات، يعني ليس من الضروري أن الدول الغربية تطلع على هذه المعلومات، ولو نستطع جميعاً معرفة تفاصيل الميزانيات لأصبحت هناك محاسبة ومراقبة أدق، وتحسين في الأداء، ولكن فعلياً بعض الدول مثل مصر أو سوريا أو غيرهما تخفيان أجزاء مهمة، أو كل الميزانية العسكرية.
بهذه الحالات حتى الدول الغربية يصعب عليها الوصول إلى أرقام دقيقة، وهناك تسخيف عال في الاعتقاد أن الذي يذهب للتدريب يكشف أسراراً، خاصة أن الدول الغربية تملك كل المعلومات، من خلال القضايا التسليحية، وهي إجمالاً معلومات موجودة عند الجميع، ومن السهل أن تعرف الأسلحة والمعدات عند أي جيش، لأنه يوجد سجل بالأسلحة المستوردة، وهي تُعرف فوراً قدرات هذه الأجهزة".
الجيش ليس هو صانع الفعل
- هل هناك تأثير مباشر للجيش في سوريا والعراق؟
لا نستطيع أن نختزل الموضوع لغلبة القوات العسكرية أو المدنيين، الجيش في بعض الحالات ليس هو صانع الفعل، ونشهد مساراً متحركاً أكثر. وفي سوريا أيضاً الجيش ليس هو صاحب القرار السياسي سوى في لحظات معينة، واليوم بعد الحرب السورية أصبح واضحاً أن الجيش لم يكن ليبقى لولا النظام، والنظام لم يكن ليبقى لولا الجيش، فقد أصبح هناك تلاق أو تقاطع بين الجيش والنظام كنظام حكم سياسي، وأصبحت العلاقة عضوية أكثر، وربما يجعل ذلك أن تصبح المؤسسة العسكرية طرفاً من النظام أكثر من الماضي.
بالمقابل مثلاً، نأخذ الجيش الليبي خلال فترة حكم معمر القذافي أو الجيش العراقي خلال حكم صدام حسين.. فالجيش العراقي في السابق لم يكن هو صاحب القرار، وكان النظام مدنياً، أما اليوم فقد عاد ليظهر نوعاً ما كطرف، لا أريد القول إنه طرف سياسي مباشر، ولكن واضح أن السيطرة على الجيش أصبحت أداة مهمة في السياسة الداخلية العراقية.
نشهد الآن نشوء جيش مواز، جيش الحشد الشعبي، الذي تم إقراره كمؤسسة تابعة للدولة، وبالتالي نستطيع القول إن القوى المنظمة المسلحة عادت إلى الظهور كأطراف سياسية في عدة بلدان عربية، منها العراق، بالإضافة ربما إلى اليمن وليبيا. من ليس له جيش هو طرف سياسي ضعيف، ففي هذه الحالة نقول إن المسلحين عادوا إلى الظهور كطرف سياسي في بعض الدول، ولكن في كثير من الدول العربية الجيش لا يملك السطوة.
حفتر..المرشح التوافقي
- كيف ترى ما آلت إليه الأمور بعد عودة خليفة حفتر إلى المشهد السياسي في ليبيا؟
يبدو واضحاً أن حفتر لديه مشروع سوف ينتزع السلطة ويضعها بكاملها في يديه بدعم مصري وغير مصري، وهو يتّكل في الداخل على تحالفات عديدة منها ميليشيات سودانية وميليشيات شعبية وتحالفات مع بعض الأطراف حتى الإسلامية.
ليس واضحاً إلى أي مدى سيكون وضعه ثابتاً، لأنه يتكل على تحالفات قد تتزعزع وقد تأتي بالضرر عليه، وربما يسعى إلى أسلوب آخر، وهو أن يقدم نفسه ليس كمنقذ ليبيا الذي سيفرض نفسه بالقوة، ولكن أن يستغل المحاولات الجديدة لإعادة تحريك المسار الدبلوماسي والحوار الوطني، ليطرح نفسه كمرشح توافقي بين الأطراف الأخرى، ليصل إلى سدة الحكم بطريقة مختلفة نوعاً ما.
- هل ترى أن العلاقات السابقة بين السلطات المدنية والسلطات العسكرية في بعض الدول العربية، أدت إلى وقوع اختلاط في أمور الحكم وفي أطراف اللعبة السياسية ووضع الدساتير؟
إجمالاً الدساتير العربية لم تضعها القوات المسلحة، أو لم تؤثر فيها بشكل كبير سوى في بعض الحالات، واضح منها بشكل خاص مصر وربما الجزائر، لكن بأغلب الدول العربية التي تملك دستوراً واضحاً نعتبر أن القيادات السياسية ربما حركة تحرر وطني كما في تونس أو غيرها.
هناك أيضاً تأثيرات الحكومات الاستعمارية البريطانية والفرنسية، التي تركت بصمتها بشكل خاص في الدساتير في سوريا ولبنان وأماكن أخرى. نستطيع القول إنه في معظم الأحوال لم يكن هناك دور فاعل ومؤثر للمؤسسة العسكرية.
- هل مصر هي الاستثناء؟
لو نريد أن نسلط الضوء على مصر بشكل خاص، فإن الرئيس المصري الأول عبدالناصر، ثم أنور السادات، ثم مبارك كانوا عسكريين طبعاً، ويوجد انعكاس للقيم العسكرية أو لمصلحة المؤسسة العسكرية بصياغة الدستور. لكن نستطيع القول إنه منذ دستور 1971، ظهر بعض التأثير المباشر. وكل الدساتير منذ 2011 واضح أن فيها تدخلاً مباشراً للقوات المسلحة المصرية، بصياغتها وتعديلها، باتجهات تزيل تقريباً أي مسؤولية دستورية أو خضوع المؤسسة العسكرية لأي جهة مدنية كانت بموجب الدستور".