على مدار 70 عاماً، كانت مدينة سيستو سان جيوفاني في ضواحي ميلانو معقلاً لليسار، وجذبت آلاف المهاجرين الداخليين من جنوبي إيطاليا، الأكثر فقراً، للعمل في مصانعها.
لكن الكثير تغيَّر في الآونة الأخيرة، إذ تُغلِق المصانع أبوابها، ومعظم المهاجرين الوافدين على المدينة مؤخراً ليسوا من جنوب إيطاليا، بل من بلدان أخرى.
وسَحَقَ اليمين استمرارية حكم اليسار الذي تواصل في المدينة دون تحدٍّ لفترة طويلة، وفاز بالانتخابات البلدية، في يونيو/حزيران الماضي، وفقاً لما ذكره تقرير نشرته صحيفة The New York Times، الأحد 29 أبريل/نيسان 2018.
واليوم إن كان من مكانٍ في إيطاليا تتصادم فيه الأزمة الاقتصادية في البلاد مع أزمات الهجرة، فهو في سيستو. وإن كان من مكانٍ لقياس تأثير اليمين الزاحف المناهض للهجرة، فإنَّه سيستو أيضاً.
وأشارت الصحيفة الأميركية أنه على الصعيد الوطني، عانى القادة السياسيون منذ انتخابات إيطاليا غير الحاسمة، الشهر الماضي مارس/آذار، من أجل تشكيل حكومة، لكن لا تزال هناك فرصة جيدة أن تكون حركة خمس نجوم، التي تحمل رسالة قوية مفادها أنَّ الإيطاليين أولاً، وحزب رابطة الشمال اليميني المناهض للهجرة، جزء من تلك الحكومة.
لكن منذ تسعة أشهر حتى الآن، يحصل المهاجرون في سيستو -الذين يُشكِّلون نحو 19% من سكان المدينة البالغ عددهم 81 ألف نسمة- بالفعل على فكرةٍ بشأن الكيفية التي ستبدو عليها الحياة تحت حكم اليمين.
وقال العمدة الجديد روبرتو دي ستيفانو (40 عاماً)، إنَّه يتشابه مع حزب رئيس الوزراء السابق سيلفيو بيرلسكوني "إيطاليا إلى الأمام" ورابطة الشمال. وتباهى في إحدى المقابلات بأنَّه طرد 230 مهاجراً غير شرعي حين تولَّى المنصب، وبأنَّه طلب من الحكومة المركزية إرسال وحدة من الجيش لتسيير دوريات في الشوارع.
وسيطر دي ستيفانو على الإسكان العام في المدينة، وأخلى المهاجرين الذين كانوا يستأجرون بالسرير من المهاجع المكتظة، ومنح الأفضلية للإيطاليين. كما منع أيضاً بناء مسجدٍ كانت إدارة المدينة السابقة قد وافقت على بنائه.
ونقلت The New York Times عن دي ستيفانو قوله: "إنَّنا نرسل إشارة مختلفة حين يتعلَّق الأمر بالتعامل مع الأزمة المالية، بأن نمنح الأولوية لاحتياجات الإيطاليين".
وأشار إلى أن هذا السبب في تواصل إدارته مع السفارات الأجنبية التي يُثقِل مواطنوها العبء على الخدمات الاجتماعية في سيستو، وقال: "نقول لهم: يا سادة، الأمر لا يعود إلى إيطاليا أو مجلس المدينة لرعاية مواطنيكم المحتاجين، لذا من فضلكم اعتنوا بهم".
وحين سُئِل إذا ما كانت أي السفارات أجابته، قال بحِدّة: "لا".
تجييش ضد المهاجرين
ويقول منتقدو دي ستيفانو، إنَّ آخر المهاجرين الواصلين كانوا هم أشد من تأثَّر بالاقتطاعات التي فرضها على الخدمات الاجتماعية، كإغلاق مراكز الرعاية اليومية. لكن الأكثر من ذلك أنَّه حتى المهاجرون الموجودون في سيستو منذ وقتٍ طويل يقولون إنَّ الحياة في ظلّ حكومته تحمل على نحوٍ متزايد رسالة -أحياناً خفية وأحياناً واضحة- بأنَّهم غير مُرحَّبٍ بهم.
ولدى آندي نغانسو (31 عاماً)، وهو طبيب وُلِد في الكاميرون وأتى إلى إيطاليا قبل 12 عاماً لدراسة الاقتصاد والطب، المزيد من الكلام عن المعاناة من كارهي المهاجرين.
إذ رفضت مريضةٌ تزور العيادة الطبية التي كان يتولَّى وردية عمله بها في بلدية كانتو، أن يعالجها نغانسو، وقال: "قالت لي: "لن يلمسني طبيبٌ أسود، ثُمَّ غادرت"، لكن نغانسو سخر على صفحته على موقع فيسبوك قائلاً: "شكراً لكِ. الآن لدي 15 دقيقة لتناول فنجان من القهوة".
وقال نغانسو في مقابلة: "تلك الواقعة البسيطة تحدث حتماً إذا ما أُجِيز أسلوب حديث معين أو بعض التعبيرات المعينة. فالعنصرية شيءٌ يُذكى".
وقال دي ستيفانو إنَّه قبل أسابيع قليلة التقى مع نغانسو ليُعبِّر عن تضامنه معه.
رفض لبناء المساجد
وفي حين عبَّر نغانسو عن تقديره لتلك الخطوة، فإنَّه أشار إلى أنَّ منع بناء المسجد واقتطاعات الخدمات الاجتماعية ليست إشارات باعثة على الارتياح. وقال: "سيكون من العبث أن أقول إنَّني لستُ قلقاً".
لكنَّ دي ستيفانو كان مُتصلِّباً فيما يتعلَّق بمنع بناء المسجد، الذي قال إنَّه سيكون "غيتو" من شأنه أن يجذب آلاف المسلمين، وإنَّ هناك مخاطرة بأن يقع خارج نطاق القانون والتقاليد الإيطالية. وأضاف: "إذا ما بدأ الأمر بهذا، غداً سيطلبون إنشاء فريق كرة قدم للمسلمين، ومدرسة للمسلمين، وحوض سباحة للمسلمين"؛ أي الاتجاه المقابل تماماً للاندماج.
ولم تثبط هذه الانتكاسة المجتمع المسلم في المدينة، الذي يتألَّف من نحو 5 آلاف شخص، والذي واصل الضغط من أجل مكان عبادته في مجموعةٍ من المحاكم.
عبدالله تشينا، مدير مركز ميلانو سيستو الإسلامي، المسؤول عن بناء المسجد، أشار إلى أنَّ الكثير من المسلمين الذين يعيشون في سيستو موجودون هناك منذ عقود، وقال: "المجتمع (المسلم) مُتجذِّرٌ هنا"، ويستحق مكاناً كريماً للصلاة.
وقالت أسماء جودودة (31 عاماً)، التي وُلِدَت في إيطاليا لوالدين جزائريين، وحصلت حين أتمَّت أسماء عامها الثامن عشر على الجنسية الإيطالية: "نحن جزءٌ لا يتجزأ من المدينة".
وتضيف: "نحن جزءٌ من الجيل الثاني (من المهاجرين)، والسماع باستمرار إلى أنَّ الإسلام مرتبط بالهجرة أمرٌ مزعج. فهو يوحي بأنَّنا جسدٌ غريب، رغم أنَّنا لا نشعر بكوننا جسداً غريباً".
الأزمة ليست بالمهاجرين
ويُعَد الخوف من "تطرف مسلمين" لازِمةً شعبوية لدى اليمين. فأثناء الحملة الانتخابية، قال زعيم حزب رابطة الشمال ماتيو سالفيني إنَّه سيُغلِق أي مساجد غير قانونية.
ووفقاً للصحيفة الأميركية، فإنه يمكن في إيطاليا عَدّ المساجد القائمة كمبان مستقلة على أصابع اليدين، ما يعني أنَّ معظم المسلمين يُصلّون في قاعات صلاة مؤقتة.
قال تشينا إنَّ مسجد سيستو، حين يُبنى، سيعيد إحياء جزء مهجور من المدينة.
وأشار القس ليوني ستيفانو نوتسوليسي، أبرز القساوسة في سيستو، أنَّ مشكلات المدينة الأساسية -الاقتصادية والاجتماعية- في الحقيقة نتجت عن المصانع المهجورة التي تركت أثرها على المدينة.
وقال: "إلى أن تُحَل المشكلة، ستبقى المدينة مُعطَّلة". لافتاً إلى أن تأجيج الخطاب الشعبوي بتشويه المهاجرين مجرد إلهاء "منعدم التكلفة" بالنسبة لأصحابه، لأنَّ معظم المهاجرين لا يمكنهم التصويت في الانتخابات.
وقالت باتريتسيا مينيلا، وهي مُتطوِّعة منذ فترة طويلة في المدينة تعمل الآن مع الأمهات المهاجرات، إنَّ سيستو كانت دوماً "نقطة تجمُّع مهمة"، بالأساس للإيطاليين القادمين للعمل في المصانع.
وأضافت: "يمكن عَدّ الأسر التي تعيش هنا منذ ثلاثة أجيال على أصابع اليد الواحدة. إنَّها ظاهرة تاريخية لا يمكن إيقافها".
وعلى الرغم من الظروف السيئة المحيطة بهم، قال كثير من الوافدين مؤخراً إنَّهم يرون مستقبلهم هنا، ومن بينهم ابتسام مبروك، التي انتقلت إلى إيطاليا قادِمةً من تونس قبل تسع سنوات، وتعمل الآن كمُترجِمة، في الغالب للنساء العربيات: "أحب العيش هنا، العيش مع الإيطاليين".
وتقول ابتسام إنَّها تشعر بالاندماج في سيستو، وترغب في تربية ابنيها هنا. وتضيف: "أنا عربية، وفخورة بذلك، لكنَّني أحب الطريقة التي يُعلِّم بها الإيطاليون أطفالهم".