لم تحظَ أمينة حسن (42 عاماً) ربة المنزل التركية ذات العباءة السوداء الفضفاضة إلَّا بدقيقتين للدفاع عن نفسها ضد تهمة دعم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وعقوبتها الإعدام.
إذ قالت للقاضي العراقي إنَّها دخلت سوريا والعراق مع أسرتها بطريقةٍ غير شرعية، وعاشوا تحت ما يُسمَّى بخلافة الدولة الإسلامية أكثر من عامين. لكنَّها أضافت: "لم أحصل على أي أموالٍ من الدولة الإسلامية. لقد أحضرت معي مالي الخاص من تركيا".
ولم تستغرق المحاكمة بأكملها إلَّا 10 دقائق، قبل أن يحكم القاضي عليها بالإعدام شنقاً.
ثم دخلت امرأةٌ تركية أخرى قاعة المحكمة وتبعتها امرأةٌ أخرى ثم واحدةٌ أخرى وهكذا.
وفي غضون ساعتين، حوكمت 14 امرأة وأدانتهن المحكمة وحُكِم عليهنَّ بالإعدام.
عقوبة الإعدام.. عدالة أم انتقام
وبينما يكافح ملايين العراقيين للتعافي من حمامات الدم والدمار، جرَّاء فترة سيطرة داعش، حظي رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بدعمٍ عامٍ واسع لجهوده في تصعيد وتيرة الملاحقات القضائية، وتوقيع أقصى عقوبة يُقرها القانون العراقي: الإعدام.
واليوم أعلن مجلس القضاء الأعلى في بيان إن "محكمة الجنايات حكمت على ثلاث نساء أذربيجانيات وامرأة قيرغيزستانية" بالإعدام. كما حكمت المحكمة "بالسجن المؤبد على امرأتين روسيتين وامرأة فرنسية منتسبات لداعش".
وقال اللواء يحيى رسول، المتحدث باسم قيادة العمليات المشتركة العراقية لصيحفة The New York Times: "إنَّ هؤلاء المجرمين التابعين لتنظيم داعش ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية وشعبنا في العراق: في الموصل وصلاح الدين والأنبار، بل في كل مكان. وانطلاقاً من وفائنا لدماء الضحايا والشعب العراقي، يجب أن يُعاقَب هؤلاء المجرمون بالإعدام، فهذا عقابٌ من شأنه أن يردعهم ويردع المتعاطفين معهم".
لكنَّ بعض النقاد يقولون إنَّ هذه المحاكمات السطحية السريعة في محاكم مكافحة الإرهاب تطال أناساً غير مذنبين وأقرباء المتهمين كذلك، وتقضي بالإعدام على معظمهم في عمليةٍ تهتم بالانتقام أكثر من العدالة.
ومنظمات تدعو للتفريق بين عقوبة المقاتلين وزوجاتهم
وحذَّر مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان من أن العيوب الموجودة في العملية القضائية ستؤدي على الأرجح إلى إجهاض العدالة "إجهاضاً لا رجعة فيه".
وانتقدت منظمة هيومان رايتس ووتش الحقوقية العراق لاعتماده على قانون فضفاض إلى حدٍ مُفرِط لفرض أقصى عقوبة ممكنة على معظم الناس.
إذ يسمح قانون مكافحة الإرهاب في العراق بتوقيع عقوبة الإعدام على أي شخصٍ "يرتكب أعمالاً إرهابية أو يحرِّض عليها أو يُخطِّط لها أو يُموِّلها أو يساعد فيها". ومن ثَمَّ، تفرض المحاكم العراقية عقوبةً موحَّدة على الجميع، سواء أكانوا ممن ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية أو مجرِّد زوجات مقاتلي داعش، اللاتي ربما لم تكن لهن علاقةٌ بأعمال أزواجهن.
وقالت بلقيس واللي الباحثة البارزة المُتخصِّصة في الشؤون العراقية لدى هيومان رايتس ووتش: "لا يهتم القضاء العراقي بالظروف الفردية. ويقضي بالإعدام على الجميع، سواء أكانوا طاهين أم عاملين طبيين".
وأضافت أنَّ الحد الأدنى للإدانة بموجب القانون العراقي يعني كذلك أنَّ المحاكم لا تُكِّلف نفسها عناء التحقيق في بعض أسوأ الجرائم، التي يُعتَقَد أنَّها ارتُكِبَت على يد أعضاء داعش، مثل الاسترقاق والاغتصاب والقتل خارج القانون.
وردُّ وزارة العدل: الحكم وفق الأدلة
وعلى الجانب الآخر، رفضت وزارة العدل العراقية هذه الانتقادات وأعلنت نزاهة قضاتها ومعايير ضمان الحقوق لديها. وقال عبد الستار البيرقدار القاضي والمُتحدِّث باسم وزارة العدل العراقية: "في حال وجود دليل، يُحاكَم المُتَّهَمون. وإذا لم يكن هناك دليل، يُفرَج عنهم".
جديرٌ بالذكر أنَّ الحكومة العراقية لم تعلن إحصاءاتٍ عن الأشخاص الذين تحتجزهم بتهمة الإرهاب، لكنَّ شخصين مُطَّلعين على بواطن محكمة مكافحة الإرهاب العراقية وغير مُصرَّح لهما بالتحدُّث إلى صحفيين، قالا إنَّ السلطات العراقية اعتقلت نحو 13 ألف شخص للاشتباه في صلتهم بتنظيم داعش منذ العام الماضي 2017، الذي شهد أغلب هذه الاعتقالات.
بينما قدَّرت "هيومان رايتس ووتش" في شهر ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي عدد المُتَّهمين بالانتماء إلى داعش والمحتجزين لدى السلطات العراقية بما لا يقل عن 20 ألف شخص.
وذكرت وكالة Associated Press الأميركية للأنباء في الشهر الماضي مارس/آذار أنَّ السلطات العراقية احتجزت أو سَجَنَت ما لا يقل عن 19 ألف شخص منذ عام 2014 بتهمة ارتباطهم بداعش أو جرائم أخرى مُتعلِّقة بالإرهاب.
جديرٌ بالذكر أنَّ العديد من هؤلاء المُحتَجَزين اعتُقِلوا في ساحات المعارك، بينما اعتُقِل بعضهم في أماكن بعيدة عن القتال استناداً إلى معلومات جُمِعَت من مخبرين واستجواباتٍ جَرَت في السجون.
وقال بعض مسؤولي الاستخبارات العراقية إنَّ المعتقلين ذوي القيمة العالية والأشخاص المُتَّهمين بالضلوع في هجماتٍ إرهابية مُحدَّدة مُحتَجَزون بمعزلٍ عن غالبية السجناء، الذين يُشتَبَه في أنَّهم كانوا أشخاصاً ثانويين في منظومة داعش.
لكن القضايا بالآلاف ومعظمهم أجانب
ومنذ صيف العام الماضي، أُحيلَت أكثر من 10 آلاف حالةٍ إلى المحاكم، وفقاً لما ذكره مطلعون على بواطن محكمة مكافحة الإرهاب. وأضافوا أنَّ عدد المحاكمات التي اكتملت حتى الآن بلغ 2900 محاكمة بمعدل إدانة وصل إلى نحو 98%.
لكنَّم لم يذكروا عدد المقضي عليهم بعقوبة الإعدام، ولا عدد أحكام الإعدام التي نُفِّذت.
وقالت وزارة العدل في بيانٍ يوم أمس الإثنين 16 أبريل/نيسان: "أعلنت وزارة العدل هذا اليوم الإثنين عن تنفيذ أحكام الإعدام بحق 13 مداناً بعقوبة الاعدام بعد اكتمال جميع الإجراءات القانونية، حيث كان من بينهم أحد عشر مداناً بجرائم إرهاب.. وتجدد الوزارة مضيها بتنفيذ أحكام القانون بدون التأثُّر بأي ضغوط جانبية خارج إطار القانون وحسب ما عاهدت أبناء الشعب العراقي على تنفيذ العقوبة بحق من ساهم بسفك الدم العراقي".
ومن بين المعتقلين المُحتَجَزين بمعزلٍ عن السجناء العاديين ما يقرب من 1350 امرأة أجنبية و580 طفلاً استسلم معظمهم لقوات الأمن العراقية في أغسطس/آب من العام الماضي، أثناء العمليات العسكرية لتحرير بلدة تلعفر العراقية.
الغالبية العظمى من هؤلاء المعتقلين هم من تركيا وروسيا وآسيا الوسطى.
بعضهم يعودون والبعض ترفضهم دولهم
وقالت السلطات العراقية إنَّها مصممةٌ على محاكمتهم إذا ثبتت أدلةٌ على ارتباطهم بداعش، لكنَّ بعض بلدانهم – بما فيها المملكة العربية السعودية – طلبت تسليم بعض مواطنيها. بينما قال مسؤولون بريطانيون وفرنسيون إنَّ بلديهما يرفضان إعادة مواطنيهما إليهما.
وفي حالاتٍ نادرة، أُعيدَ أشخاصٌ مُحتَجَزون إلى بلدانهم الأصلية، مثل مجموعةٍ من أربع نساء روسيات و27 طفلاً روسياً في فبراير/شباط بعدما خلُصت السلطات العراقية إلى أنَّهم وصلوا إلى مناطق داعش بتعرُّضهم للخداع. وتعمل تركيا على إعادة القاصرين الذين أخذهم آباؤهم إلى الخلافة، بالإضافة إلى أولئك الذين ثبتت براءتهم من ارتكاب أي مخالفات.
وبالنسبة لأمة ظلَّت لأكثر من 15 عاماً حاضنةً للمتطرفين الإسلاميين، ومزَّقتها التفجيرات الإرهابية، لم يعد لدى العراقيين رغبةٌ في التساهل أو الاهتمام بتخفيف وطأة ظروف الاحتجاز التي قد تكون في دولٍ أخرى أساساً لمنح العفو. ويفترض الكثيرون أنَّ الأجانب على وجه التحديد هم أكثر أتباع داعش حماساً منذ انتقالهم إلى هنا للانضمام إلى الخلافة.
وقالت بلقيس، التي راقبت عشرات المحاكمات: "أكثر ما يقلقني في هذه المحاكمات هو أنَّ النظام متحيزٌ في الأساس ضد الأجانب. فهناك افتراضٌ سابق بعدم الحاجة إلى أدلةٍ على إدانة المتهم ما دام أجنبياً ويعيش في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة داعش".
والدفاع يتقاضى 25 دولاراً فقط.. بعد الحكم
وكانت النساء الأربع عشرة اللواتي أدانتهن المحكمة في ظهيرة أحد أيام الشهر الجاري – وهُنَّ 12 امرأةً تركية وامرأتان أذربيجانيتان تتراوح أعمارهن بين 20 و44 عاماً – قد عشن في مدينة الرقة السورية التي أعلنها تنظيم داعش عاصمةً له. وحين تصاعدت حدة الغارات الجوية الدولية هناك وقُتِل العديد من أزواجهن، انتقلن إلى العراق وكُنَّ من بين أولئك الذين استسلموا خارج تلعفر.
وكانت النساء الـ14 ذوات الأجساد الهزيلة منعزلاتٍ ومحاطاتٍ بحُرَّاس أمن يرتدين ملابس مدنية ينتظرن بدء المحاكمة في إحدى ردهات محكمة مكافحة الإرهاب المضاءة بمصابيح فلورسنت، وبصحبتهن 11 طفلاً رضيعاً قضوا الأشهر الثمانية الأخيرة في الحجز مع أمهاتهم.
وعند استدعاء أمينة إلى قاعة المحكمة، سلَّمت طفلها إلى معتقلةٍ أخرى لرعايته. وكانت النساء الأخريات يداعبن رضيعها ذا الشعر المجعد لتهدئته. بينما بدا أنَّ بعض المعتقلات الأخريات يهمسن بأدعية وأذكار.
وقال علي سلطان محاميهن، الذي عيَّنته السلطات العراقية إنَّه لم يستعد للمحاكمات. وأضاف أنَّه لم يتمكَّن من الاطِّلاع على الأدلة ضد موكلاته لأنَّ معلومات التحقيقات المُتعلِّقة بالإرهاب سرية.
وأضاف أنَّ أتعابه، التي تبلغ 25 دولاراً فقط بغض النظر عمَّا إذا كانت القضية ستستأنف أم لا، بالكاد تُشِّجع على بذل الكثير من الجهد. فضلاً عن أنَّ الأتعاب لا تُدفَع إلَّا بعد استنفاد الاستئناف النهائي أو إعدام الموكِّل، وهي عمليةٌ قد تستغرق شهوراً إن لم يكن سنوات على الرغم من الضغط لتسريع المحاكمات.
أأنتِ بريئةٌ أم مذنبة؟
وبعدما حَكَم القاضي أحمد الأميري على أمينة، سارَعَ في إصدار الأحكام في بقية القضايا.
ومع أنَّ المتهمة نيجار محمد أخبرته بأنَّها بريئة من كل جرائم داعش، حَكَم عليها بخلاف ذلك.
وقالت المتهمة نازلي إسماعيل للقاضي إنَّ زوجها أجبر أسرتها على الذهاب إلى سوريا. وإنَّ ثلاثةً من أطفالها قُتِلوا في غارة جوية. الشخص الوحيد الذي بقي على قيد الحياة هو أصغر أطفالها يحيى البالغ من العمر عامين الذي كان ينتظرها بالخارج في الردهة.
وحين دخلت نازلي قاعة المحكمة، سألها الأميري: "أأنتِ بريئةٌ أم مذنبة؟".
فأجابت نازلي: "أنا بريئة".
فحَكَم القاضي عليها بالإعدام، فقابلت نازلي مصيرها بابتسامة قائلةً: "هذا يعني أنني سأذهب أخيراً إلى الجنة".
ثم غادرت نازلي وطفلها مبنى المحكمة تحت الحراسة المُسلَّحة. ولم يتضح مصير الطفل.