قبل أسابيع من ظهور جثث رجالٍ، ونساء، وأطفال للعيان جرَّاء هجومٍ كيماوي جلي في مدينة دوما السورية، كان الجيش الروسي قد نَشَر بالفعل نظريات مؤامرة غريبة حول هجومٍ كيماوي "مُخادع" وشيك الحدوث على يد المعارضين السوريين.
ولطالما كانت الدعاية الروسية المُتمَحوِرة حول المؤامرات والمُشكِّكة في الحقائق ركناً أساسياً في الخطاب الرسمي كلما أرادت موسكو التستُّر على السلوك السيئ لحلفائها في دمشق. وحين استخدم نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، غاز السارين ببلدة خان شيخون السورية في العام الماضي (2017)، اتهم المسؤولون الروس فرقة الدفاع المدني السورية -المعروفة باسم الخوذ البيضاء- بتلفيق الهجمات، قائلين إنَّه من المستحيل بطريقةٍ أو بأخرى شرح الكيفية التي تمكَّنت بها تلك الفرقة من "العمل على مدى فترة طويلة من الزمن والبقاء على قيد الحياة من دون استخدام أقنعة الغاز ومعدات الحماية الخاصة" في أثناء توثيقهم الهجوم، بحسب تقرير لموقع The Daily Beast الأميركي
واجتَرَّ فاسيلي نيبينزيا، سفير روسيا لدى الولايات المتحدة، النقاط الحوارية ذاتها الآن لوصف ما حدث في دوما على أنَّه "ذريعة نشرها بحماسة، المُحرِّضون ذوو الخوذ البيضاء"، على حد وصفه. ولكن في هذه المرة، كان للحملة الدعائية السبق؛ حتى إنهم حاولوا إعادة مزج مسرحيات الأطفال القديمة وروايات التجسس لإثبات وجهة نظرهم، بحسب الموقع الأميركي.
وفي هذا الصدد، قال بِن نيمو، الباحث بمختبر الأبحاث الجنائية الرقمية التابع للمجلس الأطلسي، لموقع The Daily Beast الأميركي: "الأمر المثير للاهتمام هو هذه الطريقة التي بدأ بها المسؤولون الروس بناء قصة العمليات السرية المُخادعة قبل شهرٍ من حدوثها. يوجد قدرٌ من البصيرة والتروي، وهو أمرٌ مثير للاهتمام".
مزاعم حول جمع معلومات استخباراتية
وفي مطلع مارس/آذار 2018، بدأت وزارة الدفاع الروسية تزعُم أنَّها جمعت معلوماتٍ استخباراتية حول "الأعمال التحريضية" التي خطَّطت لها الجماعات الإسلامية المُقاتلة خارج دمشق "لاتهام قوات النظام باستخدام الأسلحة الكيماوية في مدينة الغوطة الشرقية ضد المدنيين". وأوضحت وزارة الدفاع لاحقاً، أن التآمر لشن هجماتٍ كيماوية مُخادعة شمل مجموعة كاملة من الشخصيات التي تمتد من قوات العمليات الخاصة الأميركية الموجودة بصحراء سوريا إلى عناصر من جيش النظام السوري في جنوب البلاد، وحتى أعضاء تنظيم القاعدة بمحافظة إدلب.
تزامنت المزاعم الاستباقية حول هجمات الأسلحة الكيماوية من جانب المعارضة مع تزايد الإحباط لدى ترمب بشأن استمرار استخدام نظام الأسد هجمات غاز الكلور في الغوطة الشرقية وما حولها. وكانت قد هدأت أنباء الهجمات الكيماوية العسكرية السورية في الأشهر التي تلت ضرب الإدارة الأميركية قاعدةً جوية سورية رداً على هجوم غاز السارين على خان شيخون، لكنَّها سرعان ما بدأت بالزيادة في ظل قيام الأسد بالضغط بعميلةٍ عسكرية لاستعادة الضواحي الشمالية الشرقية التي احتلها المعارضون.
جاء إعلان روسيا عن مؤامرة الهجوم المُخادعة، عقب اجتماعٍ في أواخر فبراير/شباط 2018، عقدته الإدارة الأميركية؛ للنظر في ردٍ عسكري محتمَل لاستخدام سوريا المُستمر الأسلحة الكيماوية، وفقاً لما نشرته صحيفة The Washington Post الأميركية.
واستخدم الدبلوماسيون المؤامرات التي طُرحت، في شهر مارس/آذار، بغرض التحقق وإثبات صحة مزاعمهم حول الهجمات المُخادعة، لكنَّ موسكو لا تزال غير قادرة على التأكيد المُباشر حول ما إذا كانت المؤامرة التي أُثيرت في مارس/آذار، تتضمَّن هجوماً كيماوياً زائفاً أم هجوماً حقيقياً. وشملت ادعاءات مارس/آذار، جميعها استخدام المعارضين أسلحة كيماوية. وزعم السفير الروسي لدى الأمم المتحدة حينها، أنَّه "ليس هناك موادٌ كيماوية موجودة على الأرض، ولم يتم العثور على أي جثث، ولا أناسٍ مسمومين في المستشفيات"، بحسب الموقع الأميركي.
حملة على الشبكات الاجتماعية
وفي أعقاب الهجوم، انضم مؤيدو روسيا، ومؤيدو الأسد، والمتحمسون للمؤامرة عبر الشبكات الاجتماعية إلى النزاع لطرح قضية موسكو، مع القليل من المساعدة من قِبل وسائل الإعلام الحكومية الروسية. وبكت ناشطةٌ موالية للأسد، على حسابها بموقع تويتر الذي يحمل اسم Partisangirl، قائلةً: "قال ترمب: (دعونا ننسحب من سوريا)، بهدف المراوغة، ليعود بعد أسبوعٍ واحد مُعلناً الحرب. كان على علمٍ بأنَّ هناك هجوماً كيماوياً زائفاً مُخطَّطاً له".
أضف إلى هذا تضخيم بعض المنافذ الإخبارية الروسية مثل "سبوتنيك" إذاعة قصص التجسس حول العديد من الجنود البريطانيين الذين وقعوا تحت الأَسر بالقرب من موقع الهجوم في دوما والذين ربما يعملون لحساب تحالف عالمي ضخم بين الولايات المتحدة، والأردن، والمملكة المتحدة بهدف التصدي لعمليات الاستيلاء على المناطق الواقعة تحت سطوة المعارضين.
ووفقاً للزعم المُعقَّد، فإنه "بناءً على ذلك، أمرت الولايات المتحدة تحالف جيش الإسلام، وفيلق الرحمن، وجماعاتٍ إرهابية أخرى بالسماح بإجلاء المدنيين من مدينة الغوطة الشرقية إلى المناطق التابعة للجيش؛ في محاولةٍ لتوفير المساحة لهؤلاء العملاء الأجانب ليغادروا الغوطة أيضاً مُتخفين، ويُمكِّنوا جهاز الاستخبارات التركي من إرسالهم إلى مناطق مُحدّدة في معبر الوليد الحدودي، المعروف باسم التنف، وشمال سوريا"! وأيضاً: "نَسَج الناشطون على الشبكات الاجتماعية معلوماتهم المُلفَّقة منذ وقوع حادثة دوما، بالتقاط صور من إحدى مسرحيات الأطفال في عام 2013 حول الأسلحة الكيماوية التي تُوجَّه للأطفال في شرق الغوطة، وتحرير مقطع الفيديو لادِّعاء أنَّ المدنيين في المناطق التي يسيطر عليها المعارضون يُعلِّمون الأطفال تلفيق هجمات الأسلحة الكيماوية. ويظهر في المسرحية، التي أدَّاها متطوعون بعد فترةٍ وجيزة من هجوم السارين بالغوطة الشرقية عام 2013، أطفال مُلقىً بهم على الأرض ويُمثلون جانباً من ضحايا التسمم، في ظل هتاف وتصفيق الأطفال المشاهدين. وجلب الناشطون على تويتر اللقطات من موقع يوتيوب، وقاموا بإعدادها وتداولها، مُعلّقين: (دعونا نُمثل هجوماً كيماوياً سورياً زائفاً!)، بحسب الموقع الأميركي.
الهجوم على "الخوذ البيضاء"
وبصفةٍ عامة، تشبه حملات الدعاية على الشبكات الاجتماعية، في أعقاب هجوم دوما الكيماوي المزعوم، إلى حدٍ كبير، تلك التي شُوهِدت بعد الهجوم بغاز الأعصاب في خان شيخون. وعلَّق نيمو على الأمر، قائلاً: "إنَّ الأمور الأساسية التي نراها هي الهجوم على فرقة الخوذ البيضاء، ووصفهم بالإرهابيين، ووصف الهجوم على أنَّه هجوم مُخادع. وما رأيناه في هذه المرة هو هجماتٌ تُشن على (الخوذ البيضاء)، ووصفهم بالإرهابيين، ووصف الهجوم بأنَّه زائف"، بحسب الموقع الأميركي.
وتهدف نظريات المؤامرة المُثارة حول فرقة "الخوذ البيضاء" ودوما، تلك النظريات التي تقوم على معلوماتٍ مُضلِّلة، إلى تشويه سمعة فرقة الدفاع المدني. وهو ما أكدته دراسة نشرتها الحملة السورية، وهي منظمة لحقوق الإنسان غير تابعة للحكومة، ونفذتها الشركة المُختصة بالشبكات الاجتماعية "غرافيكا"، حيث اطلعت على تغريداتٍ نُشرت عبر 2.65 مليون حسابٍ، تتحدث عن "الخوذ البيضاء" في الفترة ما بين يونيو/حزيران عام 2016 وأكتوبر/تشرين الأول عام 2017، ووجدت الدراسة "مؤشراً قوياً لحملة تضليلية مُنسَّقة" ضد هذه الفرقة.
وركَّزت المُناقشات على مجموعةٍ من الموضوعات الشائعة التي تتهم متطوعي فرقة "الخوذ البيضاء" بأنَّهم أعضاء في تنظيم القاعدة، بجانب اتهامهم بالتمثيل بالمدنيين القتلى في هجماتٍ تلت التفجيرات الروسية أو استخدام الجيش السوري الأسلحة الكيماوية.
وعبَّر الكثيرون عن استيائهم في مجموعةٍ من التغريدات، ظهرت في الوقت نفسه من خلال حساباتٍ لأشخاص بأماكن مُختلفة: "الأسلحة الكيماوية التي استخدمها تنظيم القاعدة وليس الأسد، كانت هجمات مُخادعة من القاعدة ارتبطت بمُنظمات مساعدة مُزيَّفة مثل الخوذ البيضاء".
وسمح تكثيف نشاط الشبكات الاجتماعية حول الأمر، وفقاً للتقرير، بتداول وزارة الدفاع المدني السوري الحديث عن نظرية المؤامرة، التي سيطرت على مناقشات المجموعة على الشبكات الاجتماعية مع "بعض الحسابات الأكثر اتصالاً وتأثيراً في الحديث عبر تويتر عن فرقة الخوذ البيضاء وهم الأفراد أنفسهم الذين يستهدفون تلك الفرقة بتُهمٍ مُلفَّقة وتهديدات عنيفة".