نقاش حاد وجدال شهدته الأوساط الإعلامية والدينية في أوروبا، على حد سواء، بسبب تصريحات نُسبت للبابا فرانيس، بابا الفاتيكان، عن مصير المذنبين بعد موتهم.
البابا قال، بحسب صديق مقرب منه، إن الأشخاص المذنبين الذي يموتون قبل أن يتوبوا لن يغفر الله لهم، وفي نفس الوقت لن يُدخلهم الجنة، ولكن أرواحهم ستفنى وتتبدد، لأن النار غير موجودة، بحسب تقرير لصحيفة Theguardian البريطانية.
وبسبب هذه التصريحات شعر الفاتيكان بالحرج، وذهب لضرورة التأكيد على أن البابا فرنسيس يؤمن بمبدأ أساسي للكاثوليكية، وهو أن الجحيم موجود، بحسب صحيفة New York Times الأميركية.
الضجَّة أثارها التصريحُ الذي نشرته صحيفة "La Repubblica" الإيطالية على صفحتها الأولى، قبل أيام، لأحد عمالقة الصحافة الملحدة، اليسارية الإيطالية المعارضة لسيطرة القساوسة، ذكر فيها أنه خلال لقائه مؤخراً مع البابا قال الأخير إن الجحيم ليس موجوداً.
ونقل الصحفي البالغ من العمر 93 عاماً، يوجونيو سكالفاري، عن البابا، أن الأرواح السيئة "لا تُعاقَب"؛ بل تفني، وأنه "لا وجود للجحيم".
ووصف الفاتيكان هذه التصريحات بأنها منقولة بشكل خاطئ، لأن كالفاري لم يستعن بمسجل صوت، ولا دفتر الملاحظات، ولا الالتزام بعلامات الاقتباس، في المقالة التي نشرت على صحيفته.
وفي الماضي، اعترف سكالفاري، مؤسس صحيفة "La Repubblica"، وهي بمثابة إنجيل اليسار الإيطالي، التي قام بالإشراف على تحريرها على مدى عقود، بأنه في بعض الأحيان أنطق البابا كلماتٍ لم يقلها.
تصريحات شديدة الإغراء للصحف
وبحسب الصحيفة الأميركية، فإن هذه التصرحيات أصبحت مادةً شديدة الإغراء للصحف العالمية، والمواقع المحافظة المعارضة للبابا، لأنها تتزامن مع الاستعداد لاحتفالات عيد الفصح.
في عنوان كبير على موقع "Drudge Report"، جاء "البابا يصرِّح: لا وجود للجحيم"، وتساءل باتريك جيه. بوكانان، في عمود على موقع إلكتروني "هل يؤمن البابا بالجحيم؟"، بينما ذكر عنوان بارز في مجلة "Metro UK" البريطانية: "الفاتيكان يتفكَّك حرفياً بعد تصريح البابا فرانسيس بأنه "لا وجود للجحيم".
وتقول الصحيفة الأميركية إنه غالباً ما تحدَّث البابا عن الجحيم كوجهة نهائية حتمية للمخطئين، وقد أوضح الفاتيكان أن "الكلمات الفعلية التي نطق بها البابا لم تُنقل"، وأنه "لا ينبغي اعتبار أي اقتباس في هذا المقال، بمثابة نقل موثوق لكلمات قداسة البابا". وهو ما اتفق معه سكالفاري بدوره.
وقال سكالفاري في مقابلة أجريت معه، مساء الجمعة الماضي، بينما كان البابا يستعد لمراسم احتفالية درب الصليب، في يوم الجمعة العظيمة، "إنهم محقون تماماً، هذه ليست مقابلات، بل اجتماعات، لا أدون فيها ملاحظات، إنها مجرد دردشة".
وفي حين قال سكالفاري إنه يتذكر قول البابا بأن الجحيم ليس موجوداً، فقد اعترف باحتمالية خطئه "يمكنني أن أخطئ أيضاً". وقال إنه ارتكب خطأ سهواً عندما عجز عن الشرح الكامل لجواب البابا، حول الحاجة إلى أوروبا أقوى. وتابع بأنه "في مثل عمري، اعتدت أن يحاورني الناس بدل أن أحاورهم"، بحسب الصحيفة الأميركية.
وقال رئيس تحرير صحيفة "La Repubblica" ماريو كالابريسي، إن الصحيفة لم تصنف مقال سكالفاري كمقابلة. وقال كالابريسي، إنه ثمرة "تبادل ثقافي وحوار من نوع حوارات القرن التاسع عشر، بين يسوعيٍّ مؤمن ورجلٍ من عصر التنوير، مفتونٍ بالدين".
يعرف قراء الصحافة الإيطالية من الطبقة الراقية كيف يقرأون كلام سكالفاري؛ إذ يجب عليهم الشك عندما يتعلق الأمر بالاقتباسات البابوية.
الروح أعظم من الحرف
وبالنسبة للكثيرين، يجسد سكالفاري أسلوباً انطباعياً للصحافة الإيطالية، فضفاضةً في تغطيتها للفاتيكان، والسياسة، وغير ذلك الكثير، حيث يكون الجوهر أهم من الكلام الحرفي، والروح أعظم من الحرف.
ومع ذلك، وعلى الرغم من أزمات العلاقات العامة التي سبَّبها سكالفاري، يبدو أن فرانسيس، البالغ من العمر 81 عاماً، يحب التحدث إليه، كما ترى New York Times.
ويقول سكالفاري إن البابا "بحاجة إلى التحدث مع غير مؤمن ليحفِّزه". وكان اجتماع هذا الشهر هو الخامس بينهما، بحسب الصحف الأميركية.
في سبتمبر/أيلول من عام 2013، أرسل فرانسيس رسالة إلى سكالفاري، نُشرت لاحقاً في "La Repubblica"، حيث كتب البابا أن الملحدين عليهم أن "يلتزموا بضميرهم الخاص"، وعلى المسيحيين المشاركة في "حوار صادق ودقيق" مع غير المؤمنين.
بعد أسابيع، أجرى البابا نقاشاً مطولاً مع سكالفاري، وقال "لدى كل شخص فكرته عن الخير والشر، ويجب عليه اتباع الخير ومحاربة الشر كما يفهمهما". وأضاف أن الجهود المبذولة لتحويل الناس إلى المسيحية تقترب من كونها "هراءً تاماً"، بحسب الصحيفة الأميركية.
في البداية، أكد المتحدث باسم الفاتيكان في ذلك الوقت، القس فيدريكو لومباردي، على أن المقابلة "مخلصة لفكر" الفاتيكان. وفي وقت لاحق نشر المقال بأكمله في "L'Osservatore Romano"، المنصة الرسمية للفاتيكان، إضافة إلى نشرها على موقع الكرسي الرسولي "Holy See"، التي عادة ما تكون مخصصة للخطابات البابوية، بحسب الصحيفة الأميركية.
بعد ذلك، قام الفاتيكان، الذي طمس مؤخراً السطور المحرجة من رسالة أرسلها البابا بيندكت الحادي عشر إلكترونياً، بإزالة النص من موقعه على الإنترنت. وقال الأب لومباردي في ذلك الوقت "كان هناك بعض سوء الفهم والاختلاف حول قيمتها".
وتحدث الرجلان مرة أخرى، في يوليو/تموز عام 2014، ونشر سكالفاري مقالاً قال فيه إن البابا قد قدر أن 8,000 من رجال الدين، بما في ذلك الأساقفة والكرادلة، كانوا من مشتهي الأطفال جنسياً، ومن ثمَّ، ربما ينبغي إعادة النظر في العزوبة الكهنوتية، كما تقول New York Times.
"التلاعب ببعض القراء السذج"
وردَّ الفاتيكان على ذلك بطرح سؤال، عما إذا كان غياب علامات الاقتباس دليلاً على "محاولة التلاعب ببعض القراء السذج".
في عام 2015، نقل سكالفاري عن فرانسيس قوله إن "جميع المطلّقين والمتزوجين مرة ثانية الذين يطلبون، سيدخلون" إلى المناولة. وردَّ الأب لومباردي بأن المراقبين "يعرفون الطريقة التي يكتب بها سكالفاري".
إلا أن الفاتيكان بدا متردداً طيلة ذلك الوقت، في تدمير رجل مثقّف، يبدو أن البابا يحبه.
بقي فرانسيس على اتصال بالسيد سكالفاري، إذ اتصل به على الهاتف ودعاه إلى محادثة طويلة أخرى، في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2016. وقد وصف السيد سكالفاري الترحيب الحار، وأفاد بأن البابا قال "إن الشيوعيين هم الذين يفكرون مثل المسيحيين"، بحسب الصحيفة الأميركية.
ولا يعد الجدلُ الذي اشتعل هذا الأسبوع، المرة الأولى التي يناقش فيها سكالفاري والبابا موضوعَ الجحيم. ففي أكتوبر/تشرين الأول عام 2017، كتب سكالفاري "لقد ألغى البابا فرانسيس الأماكن التي كان من المفترض أن تذهب إليها الأرواح بعد الموت: الجحيم والبرزخ والجنة".
لكن البابا، الذي يحيط به بلاط يزدحم بالكرادلة المتناغمين سياسياً، والرجال الخاضعين الذين لا يقولون سوى نعم، والمحافظين الذين يحاولون إضعاف مهمته، يواصل العودة إلى السيد سكالفاري.
قال سكالفاري: "لقد أصبحنا أصدقاء" ، مشيراً إلى أن البابا ساعده في دخول سيارته خلال الزيارة الأخيرة، وأوصله إلى الباب هذه المرة. وأضاف "لقد باركني، ولكن، لمعرفته بأنني لست مؤمناً، بعث إليّ بقبلة، واستجبت له بنفس الطريقة".